البناء على ما يجب البناء عليه

رشا عمران

مَسَّني جدًّا حديث الممثلة السورية يارا صبري مؤخرًا مع الإعلامي محمد قيس في قناة ومنصة المشهد. مَسَّني ربما أكثر مما مَسَّ كثيرًا من السوريين الذين تلقوا حديثها بكثير من الحب والتفاعل، ومنهم الكثير من المقيمين في سوريا الذين تركوا تعليقات محبة على شريط البودكاست لدى عرضه على المنصة. فالحديث الصادر من القلب سوف يصل إلى القلوب بسهولة، ويارا صبري كانت تتحدث بقلبها قبل لسانها، وكانت صادقة وعفوية ومحبة وواضحة وحاسمة في الوقت نفسه، دون تكلُّف ودون تصنُّع ودون مبالغات، والأهم دون ادعاءات لم ينجُ منها من مثقفي سوريا سوى قلة، ويارا صبري واحدة منهم حتمًا.

أما لماذا أعتقد أن حديث يارا صبري مَسَّني أكثر من غيري، فربما لأنها قالت كلامًا أود أن يسمعه بعض أقاربي وأصدقاء طفولتي ممن وقفوا مع نظام الأسد كثيرًا، فربما يحاولون إعادة التفكير قليلًا بمواقفهم، وربما يراجعون ردود أفعالهم التي خَوَّنت كل من أيَّد الثورة أو وقف في صفها ذات يوم. ذلك أنني لم أستطع إقناعهم بكلامي الذي لا يختلف كثيرًا عن كلام يارا صبري بما يتعلق بالثورة والتغيير والديمقراطية. فصحيح أنني بالنسبة لهم لست إرهابية (أنتمي بيولوجيًّا إلى الأقلية التي ينتمون إليها، ما يمنع عني تأييد الإرهاب الذي يعتقدون أنه صفة لصيقة بكل من طالب برحيل الأسد)، لكنني بالنسبة لهم خائنة، أو على الأقل هذا ما روجوه عني طوال سنوات ماضية، ما يعني أن ما أقوله أو أكتبه من آراء ومواقف ليس بمحل ثقة لديهم.

كان هذا دائمًا موقفهم مني، وهنا أتحدث عن غير المغالين في دعم النظام منهم، أما الآخرون، الشبيحة، فهؤلاء يعتقدون أنني أستحق القتل، ليس لخيانة الوطن كما يسمون نظام الأسد، بل لخيانة انتمائي الطائفي وخروجي عن قطيعه.

هؤلاء طبعًا سيكون حديث يارا صبري لهم بمثابة الاعتراف بالخيانة العظمى ودعم الإرهابيين الذين تنتمي لهم (بحكم الانتماء البيولوجي أيضًا)، وبالتالي فهي تستحق عقوبة الإعدام. وهذا بكل حال كُتِب على بعض صفحاتهم في مواقع التواصل بعد أن انتشر حديثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعرفوا منها أنها لم تسحب توقيعها مما أطلقوا عليه لقب بيان الحليب الشهير، والذي، كما ذكرت يارا، كان الأكثر إيلامًا للنظام، كون غالبية الموقعين عليه من شريحة الدراما والفنانين الذين كان النظام يعتبرهم من الخاصة في ذلك الوقت.

أريد أن أقول إنني أرسلت حوار يارا صبري إلى كثير من أقاربي وأصدقاء طفولتي ممن ما زلت أتوسم فيهم بعض الموضوعية والقدرة على الاستيعاب بعيدًا عن ضغط الأيديولوجيا، وطلبت منهم الاستماع إليه بهدوء وموضوعية. وأريد أن أقول أيضًا إنهم أرسلوا لي ردودًا مبشّرة، كانوا بها عند حسن حدسي الذي أوحى لي بإرسال الحوار لهم، في محاولة مني لوصل ما انقطع خلال العقد الماضي معهم عبر حديث يارا صبري الراقي والهادئ والوطني بحق، وأيضًا لمحاولة فهم ما هو مجهول بالنسبة لي في مواقفهم الراهنة بعد كل ما حدث في سوريا.

ذريعة حماية الأقليات من إرهاب التطرف الأكثري كان هو العنوان العريض الذي اعتمدته الدبلوماسية الأسدية في المجتمع الدولي.

ثمة ما يتغير لدى هؤلاء، الذين يمثلون شريحة مهمة من السوريين، شريحة واسعة تمكن النظام خلال سنوات الثورة الأولى من اللعب على مظلومياتهم القديمة وتغذيتها وتهويلها حتى يكسبهم في معركته ضد باقي الشعب. كان هؤلاء هم الوقود الأساسي الذي احترق كي يحافظ بشار الأسد على كرسيه المغطى بدم السوريين كلهم من جميع فئاتهم، وكانوا أيضًا الذريعة الأولى التي استخدمها النظام دوليًّا لتسويق حربه على الفئات الثائرة والمنتفضة والرافضة له من السوريين. فذريعة حماية الأقليات من إرهاب التطرف الأكثري كان هو العنوان العريض الذي اعتمدته الدبلوماسية الأسدية في المجتمع الدولي. وللأسف، كانت دبلوماسية ناجحة وآتت ثمارها حقًّا، فالأسد لم يتزحزح من مكانه رغم كل العقوبات الدولية عليه، ولم يجرِ أي تعديل على المسار الذي اتخذه منذ بداية الثورة، ولم يقم بأي تغيير في بنية حكمه يمكن من خلالها القول بحسن نيته ورغبته في تحقيق مصالحة وطنية شاملة. ولم يفرض المجتمع الدولي عليه أيًّا من هذا، بل العكس. نحن حاليًّا نشهد إعادة تطبيع العلاقات معه عربيًّا ودوليًّا وكأن كل الكوارث التي حدثت خلال العقد الماضي كانت مجرد لعبة بلاي ستيشن التي يشتهر بشار الأسد باللعب بها في أوقات فراغه. وعلى ما يبدو، كان لدى الأسد وقت فراغ طويل لتطبيق لعبته المفضلة واقعيًّا على سوريا وعلى الشعب.

لكن، هل نجاح الدبلوماسية الأسدية دوليًّا كان فقط بسبب خطة النظام وذكاء مبعوثيه؟ الحقيقة أن ذلك له أسباب أخرى مؤسفة ومسببة لليأس، ذلك أن من تصدّروا لقيادة الثورة وهيئاتها السياسية وتمثيلها في المجتمع الدولي قدموا خطابًا هزيلًا وركيكًا وشديد البؤس، ولا يكاد يقترب من الخطاب السياسي والدبلوماسي بقيد أنملة. كان خطابهم في معظم الأحيان خطابًا تظلّميًّا وفئويًّا وأصوليًّا، لا يراعي ولا بأي طريقة خصوصية المجتمع السوري ذي التنوع المذهبي والعرقي، خطاب استطاع أن يحشد معظم الأقليات السورية خلف النظام بدلًا من حشدهم خلف الثورة ومناصرتها، وهو ما أسهم بشكل مباشر في هزيمة الثورة وانكسارها هذا الانكسار الكبير والمؤلم لنا جميعًا.

هل يبدأ الغيورون على المستقبل السوري البناء على شيء كهذا لوضع أساس للتغيير الذي تأخر أكثر من عقد من الزمن في الخطاب وفي الاستراتيجية وفي استعادة ما فقدته الثورة بعد أن تسلّحت وتعسكرت وتأسلمت وتسلمت لأجندات لا تمت بصلة لأهداف ربيع 2011 السوري؟

لم تقدّم هيئات المعارضة للمجتمع الدولي بديلًا مناسبًا للنظام، ليس لأنها عاجزة عن ذلك، بل لأن الأنتلجنسيا السياسية السورية كانت قد تطبّعت بطبع النظام الذي تعارضه، فأقصت كثيرًا من الكوادر الشابة والجديدة ذات الفكر الوطني الحداثي المتخفف من الإرث الأيديولوجي القديم، ومنعتهم من أخذ زمام المبادرة الدبلوماسية. ومن تمكن منهم من إيصال صوته إلى المجتمع الدولي، تم الاشتغال على تخوينه وإلصاق صفات بالغة السوء به. والأمثلة عديدة على ذلك ولا مجال لذكرها هنا. هذا الأداء الهزيل والإقصائي كانت نتيجته هزيمة الثورة والثبات في كل الملفات السورية الشائكة مثل ملف المعتقلين والمغيّبين وملف المهجرين وملف المصالحة الوطنية.

ما قالته يارا صبري في حوارها الأخير يصب تمامًا في قلب كل هذه الملفات، فهي تكلمت عنها بحدسها الوطني الجامع لكل السوريين، وهي ابنة أكثر المدن السورية ثقلًا وأهمية بالنسبة للنظام وبالنسبة لسوريا ككل (دمشق وحلب). وما قالته في حوارها الهادئ والمتزن والخالي من المبالغات والشتائم والمظلوميات المعتادة، والعارف بأهمية سوريا وأهمية تحقيق نظام ديمقراطي فيها، ما قالته يمكنه أن يلامس الكثير لدى سوريين لم يسمعوا من المعارضة خلال السنوات الماضية سوى التهويل والشتائم والتخوين والوعيد والتهديد. لكن هل يارا صبري متفردة بخطاب كهذا؟ أعتقد أن بين السوريين كُثرًا ممن لديهم نفس الرؤية والمنطق العام تجاه مستقبل سوريا والسوريين من أصحاب الخطاب الوطني والجامع والمتزن والحساس والهادئ غير المؤدلج وغير المصاب بعقدة المظلومية. لكن المشكلة أن هؤلاء لا أضواء تسلط عليهم ولا يعرفهم أحد، وبالتالي لن تغامر أي منصة إعلامية باستضافتهم، ما يحرمهم من تقديم ما لديهم وما يحرم سوريا والسوريين من فرصة تغيير الوجوه والخطاب الذي قد ينتج عنه بوادر تغيير ما في المجتمع الدولي في الملف السوري؛ أو تغيير، لا يقل أهمية، في آلية تفكير سوريي الداخل ممن تخوفوا من الثورة وظلوا محتفظين بمخاوفهم وحذرهم من كل ما يتعلق بها.

مرة أخرى، أقول إن حوار يارا مَسَّني بشكل مباشر لأنه جعلني شبه متأكدة من أن تغييرًا ما قد بدأ يحدث لدى كثير من سوريي الداخل ممن كانوا مضادين للثورة وراغبين في بقاء النظام. هذا التغيير بالتأكيد أحد أسبابه هو انكشاف ما يمكن لهذا النظام بيعه والمتاجرة به من أجل احتفاظه بالكرسي، وانكشاف انبطاحه وجبنه أمام إسرائيل، وانكشاف المقدار المهول من الفساد والفوضى التي وصل إليها، وانسداد الأفق المعيشي أمام السوريين وتفاقم أزماتهم التي عجز النظام عن إيجاد الحلول لأبسطها. لكن أيضًا لأن سوريي الداخل بدؤوا ينتبهون إلى خطاب آخر لدى من أيّدوا الثورة السورية وناصروها، خطاب وطني ومواطني ومحب وجامع ومطمئن، خطاب لم يكونوا يستمعون إليه سابقًا، ليس فقط لأنه لم يكن يصل إليهم، بل لأن المتغيرات البالغة السرعة الحاصلة حاليًّا في العالم نبهتهم إلى ما هم فيه من ثبات قاتل ومن فقدان الأمل، ما جعلهم يراجعون أنفسهم حين يسمعون كلامًا بالغ النبل ككلام يارا صبري. هل يبدأ الغيورون على المستقبل السوري البناء على شيء كهذا لوضع أساس للتغيير الذي تأخر أكثر من عقد من الزمن في الخطاب وفي الاستراتيجية وفي استعادة ما فقدته الثورة بعد أن تسلّحت وتعسكرت وتأسلمت وتسلمت لأجندات لا تمت بصلة لأهداف ربيع 2011 السوري؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى