يستعير رئيس حزب يمين الدولة في إسرائيل، جدعون ساعر، حاجته من الندم حين يصرّح بأن إسرائيل أضاعت فيما مضى فرصةَ إسقاط النظام السوري. ولعلّ ساعر بتصريحه ذاك، وهو خلف يوآف غالانت وزيراً للحرب، إنما يُدلّل على عدم استقامة قرار تلّ أبيب حين ارتأت إبقاء نظام دمشق ورئيسه أحياءً طوال السنوات الماضية، إذ جلبت تحالفات بشّار الأسد إيرانَ ومليشياتِها قريباً من حدود دولة الاحتلال، من دون أن تُلمح كلماتُ ساعر إلى لوم رؤساء البيت الأبيض من الديمقراطيين كباراك أوباما وجو بايدن، وهما اللذان سمحا لإيران بهذا التوغّل المُفرط كلّه داخل المنطقة.
ثمّ إن “الحنكة” العربية التي داهمت الجميع، وأبهرتهم، حين تبنّت مرغمةً أم عن طيب خاطر خيارَ إعادة تعويم بشّار الأسد ونظامه، كما لو أنها بذلك تكون قد استقدمت بلاءً عظيمَ الشأن ورمته في وجه السوريين دفعةً واحدة، وهذا يقدّم ترجمةً إضافيةً ومجانيّةً لمعنى أن يظلّ ديكتاتورٌ سيكوباتي حاكماً لأحد أكثر بلدان الشرق الأوسط أهميةً من دون أن يحاسبه أو يسائله أحدٌ عن مقدار التلوّث البشع الذي ألحقه بسورية وبشعبها، لتصير شائعاً رؤية بشّار الأسد في القمم العربية، والعربية الإسلامية، العادية وغير العادية، متحدّثاً أو صامتاً، لكنّه يظهر ولا يخجل، لا يُفكّر في ضحاياه، ولا في هذا البلد الذي صار مُشرّداً متسوّلاً مكتظّاً بالدمار والموت خلال حكمه.
سوريون كُثر لا يمانعون من ملاقاة بعض الأمل في أن تجد قضيتهم المستعصية، بقاء الأسد ونظامه، حلّاً سياسياً حقيقياً في السنوات الأربع المقبلة
وحين أطلَّ رئيس النظام أخيراً من الرياض في القمة العربية الإسلامية غير العادية، في نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، كان قد أحضر بصحبته وزير خارجيته الجديد، بسّام الصبّاغ، ليثبت لعرّابي مبادرة التطبيع معه أن لديه هذه المرّة جديداً يُبهر الجميعَ به، وزير خارجيّةٍ جديد غير فيصل المقداد، فهو يتقدّم خطوات في التغيير والإصلاح، وعلى غيره تقدير تلك الخطوات الاستثنائية، والامتناع عن اتهامه مجدّداً بأنه يضحك على العرب، يتقدّمون منه وهو في مكانه، ثابتٌ لا يخطو ممتنعٌ عن فعل ذلك. لكنّه أيضاً بارعٌ في المناورة، يبيع ويشتري، يظهر ويختفي، وبين هذا الفعل وذاك يضيف كثيراً من التدليس والمراوغة، يوحي بأنه مستاءٌ من النفوذ الإيراني في بلاده، من دون أن يجاهر بهذا الاستياء، يُطمئنُ إسرائيل، ولا يغازل نتنياهو علانيَةً، وهو بذلك يشبه كياناً سلطويّاً مصاباً بالشلل النصفي، نجا من التصفيَة والإقصاء من عرش سورية المتهرئ، وأشهُر الشتاء المقبلة قد تكون صعبةً عليه، ليس لأن ترامب سيدخل البيت الأبيض يوم 20 يناير/ كانون الثاني المقبل، بل لأن هذه الفترة الانتقالية ستكون مُحاطةً بهواجس إسرائيلية كثيرة مُرتقَبة، ونياتها المختلطة المتّصلة بوجه المنطقة المقبل وشكله النهائي، فإما مزيدٌ من حربها وتوسّعها المشفوع بحماية حدودها الشمالية والشرقية، وإمّا مصافحةُ صفقاتٍ وتسويات لم تنضج بعد.
نتذكّر كيف أنّ ترامب ألمح مرّةً إلى أنه راغبٌ في تصفية بشّار الأسد منتصف سبتمبر/ أيلول عام 2020، حينها كان يتحدّث إلى مجلة فوكس نيوز الأميركية، وقال: “أفضّلُ قتله، ولقد جهّزت للأمر تماماً”، لكنّ وزير دفاع بلاده جيمس ماتيس (وقتذاك) نصحه بتجنّب هذا العمل، بالرغم من مسوّغٍ تحدّث عنه ترامب حين ذكر هجوماً بالسلاح الكيميائي نفّذه جيش النظام السوري على خان شيخون في إدلب شمال البلاد في إبريل/ نيسان عام 2017، كذلك ندركُ جيّداً أن ترامب لم يكن في ولايته السابقة 2017 -2021 (انتُخِب عام 2016 خلفاً لأوباما) مُتحمّساً لمناصرة الشعب السوري، وإنهاء معاناته مع طاغية دمشق، حينها كان جادّاً بسحب قواته العسكرية من سورية عام 2019، وهي على أيّ حال لم تكن بالعدد الكبير (قرابة 900 جندي ضمن قوات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن لمحاربة تنظيم داعش في سورية والعراق)، لكنّ مستشاريه نصحوه بألّا يفعل، فامتثل لرأيهم، وبقيت قواته حيث هي. ثمّ يعود هذا الموضوع ليصير وجهةً جديدةً للحديث حين ينوّه روبرت إف. كندي (الابن)، أحد الداعمين لحملة ترامب الانتخابية، برغبة الرئيس الأميركي المنتخب (الجادّة هذه المرّة) بسحب القوات الأميركية من شمال سورية خشيةً عليها من تبعات أيّ تصعيد عسكري محتمل بين تركيا وحزب العمّال الكردستاني في شمال الفرات وشرقه.
وبالرغم من عدم انغماس أيّ من تصريحات ترامب في الشأن السوري، سواء حين كان يخوض حملته الانتخابية والدعائيّة، أو حين صار السيّد القادم إلى البيت الأبيض، غير أنّ سوريين كُثراً لا يمانعون من ملاقاة بعض الأمل في أن تجد قضيتهم المستعصية، والمتمثّلة ببقاء بشّار الأسد ونظامه، حلّاً سياسياً حقيقياً في السنوات الأربع المقبلة، التي سيمضيها ترامب رئيساً لأكبر قوّة عسكرية على وجه الأرض، وفي الوقت نفسه، لا يمانع رأس النظام السوري من ملاقاة بعض الأمل أيضاً، وذلك إنِ اختبأ الملفّ السوري بعيداً عن اهتمامات ترامب، ولم يجد مكاناً على مكتبه، أو إذا مضى ترامب متقصّياً خطوات سلفه بايدن في دعم تعويم بشّار الأسد ونظامه، وفتح الأبواب الموصدة في وجهه تباعاً، وإنْ كان هذا ما يُطبّع مزاج بشّار الأسد وهواجسه، ووجد فيه طمأنةً مواتية لنزعته السلطويّة المتطرّفة، فسيجد نفسه غير مكترثٍ بالمنشور الذي أطلقه الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في منصّة إكس مُهنئاً فيه صديقه ترامب بالفوز، ووجدناه يقول: “أعتقدُ بأنه سيتم بذل المزيد من الجهود لأجل عالمٍ أكثر عدالة في هذا العصر الجديد الذي بدأ بانتخاب الشعب الأميركي”، فالعدالة التي يتحدّث عنها الرئيس التركي قد يبغضها بشّار الأسد، لأنها تطاول وجوده البغيض، وتدينه وتحاسبه.
صار شائعاً رؤية بشّار الأسد في القمم العربية، والعربية الإسلامية، متحدّثاً أو صامتاً، لكنّه يظهر ولا يخجل، ولا يُفكّر في ضحاياه
ثمّ يجيء تعيين ترامب تولسي غابارد في رئاسة الإدارة الوطنية للاستخبارات الأميركية حدثاً رافداً لآمال بشّار الأسد بالبقاء فترةً أطول محتلّاً سورية، ذلك أنّ غابارد كانت قد التقت الأسد مرّتَين، وهي عضو الكونغرس الأميركي. الأولى في يناير/ كانون الثاني عام 2017، حينها قالت “علينا أن نكون قادرين على مقابلة أيّ شخص نحتاج إليه، إنْ كان هناك إمكانية لتحقيق السلام”، لكنّها حال عودتها إلى واشنطن لم تُدِنْ جرائم بشّار الأسد بحقّ الشعب السوري، لتصفها أخيراً أبيجل سبانبرغر، وهي ضابط سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، بأنها غير مؤهّلة، وغير مستعدّة لهذا المنصب، وإنما تتاجر بنظريات المؤامرة، وتتقرّب من طغاة مثل بشّار الأسد، وفلاديمير بوتين.
إذاً، نحن أمام سماتٍ أوليّة تتيح لنا التكهّن بإدارة ترامب المقبلة، وهو الذي يعكف على اختيار مكوّناتها، وهذه السمات المتكوّنة تدريجياً تُفصحُ عن معالم الوجه المقبل حين يرتديه ترامب حال يصل إلى البيت الأبيض رسميّاً، وينظر به إلى سورية بصورةٍ خاصّة، وإلى طاغيتها الذي يبدو أنّ بإمكانه أنْ يُبدي احتراساً أقلّ في سلوكه السياسي، لربمّا يُطمئنه وصول غابارد إلى منصبٍ حسّاس ومهمّ في إدارة ترامب المقبلة للعالم الذي نعيش فيه، ويعيش فيه بشّار الأسد أيضاً، ولهُ أنْ يُسرِّح بعض مخاوفه من الخدمة داخل عقله المتصلّب خلال الشتاء الوشيك، فرياح ترامب الباردة قد يتأخّر هبوبها على “وكر” المهاجرين في دمشق حيث يختبئ.
المصدر: العربي الجديد