جرى، في عام 2017، توجيه اتهامات إلى مارين لوبان، وريثة عرش حزب التجمع الوطني اليميني المتطرّف عن أبيها جان ماري، ورئيسة كتلته النيابية فرنسيًا حالياً، مارين لوبان، وكذلك إلى بعض أعضاء الحزب، باستخدام أموال الاتحاد الأوروبي لدفع رواتب مساعدين برلمانيين كانوا في الواقع يعملون لصالح الحزب في فرنسا، وليس في البرلمان الأوروبي في بروكسل، كما يقتضي الأمر من المساعدين البرلمانيين. وبالتالي، جرى الدفع لهؤلاء المساعدين من أموال هذا البرلمان. أكّدت التحقيقات الأولية أن هؤلاء كانوا يعملون فعليّاً لحساب الحزب في فرنسا، بدلاً من أداء مهامّهم البرلمانية في بروكسل. لذلك، تم اتهام مارين لوبان وآخرين في الحزب بتورّطهم في اختلاس الأموال العامة وسوء استخدام أموال الاتحاد الأوروبي. ونصّ القرار الاتهامي على تهمتي اختلاس الأموال العامة وإساءة استخدام الثقة. ومنذ ذاك الحين، بدأت التحقيقات التي ندّدت بها المعنية، حيث دافعت بشدّة عن نفسها وعن حزبها، واعتبرت هذه التحقيقات هجوماً سياسيّاً ضدها وضد الحزب، بغرض تشويه مساره والتحايل على قوتها السياسية. كما اعتبرت هذه الملاحقات جزءاً من مؤامرة سياسية من السلطات القضائية في فرنسا ضدها. ومنذ عدة أيام، وبعد سنوات من بدء التحقيقات في هذه القضية، طالب الادّعاء العام بالحكم على لوبان بالسجن خمس سنوات. وما يعنيه ذلك، إن أقرّته المحكمة، حرمانها من الترشّح للانتخابات الرئاسية المزمعة في 2027.
في مواجهة طلب الادّعاء العام الذي له حظوظ كبرى في أن يقرّه القضاء، حشد اليمين المتطرّف مساعيه ووسائل الإعلام التي تميل إلى أفكاره الإقصائية والتمييزية، وهي في تكاثر متناسب طرداً مع هيمنة رؤوس أموال محافظة على مختلف وسائل الإعلام. وبدأت تحرّكاته السياسية تأخذ منحى تهديدياً مرتبطاً بحجمه النيابي الهام، حيث سجّلت الانتخابات التشريعية الأخيرة صعود 89 نائبة ونائب منتمين له. وهو العدد الأكبر الذي يسجّله اليمين المتطرّف في تاريخ الجمهورية الفرنسية. حيث ربط مصير رئيسة كتلته النيابية القضائي بتأييد حجب الثقة عن حكومة ميشيل بارنييه في أول فرصة تُطرح من خلالها الثقة على تصويت البرلمان. وسبق أن رفض نواب حزب التجمّع الوطني، وفي مقدّمتهم مارين لوبان، الذين حاول مراراً اليمين التقليدي محاباتهم، التصويت على حجب الثقة مرّات عدّة كان تجمّع اليسار يدعو إليه. تغيّرت حساباته اليوم، حيث يبدو أنه سيعود إلى مواجهاته العنيفة سياسياً، ولن يستمر في أداء ركيك لدور مصطنع يكون فيه الحزب المسؤول والبعيد عن الصدامات، كما كان عهدُه دائماً.
تحتاج حكومة بارنييه شبه معجزة لتمرير موازنة العام المقبل، ولتحافظ على استمراريتها
جلسة حجب الثقة التي يهدّد باستغلالها اليمينيون المتطرّفون، ردّاً على ما يعتبرونه تسييساً للقضاء ضدهم وتحامله عليهم، سيكون موعدها قريباً، بسبب عجز الحكومة عن إقرار الموازنة العامة نتيجة اعتراضات عديدة على بنودها من مختلف الكتل النيابية ذات اليسار وذات اليمين. ميشيل بارنييه المخضرم، والذي اختاره الرئيس إيمانويل ماكرون لتشكيل حكومة من اليمين التقليدي والوسط، على الرغم من تصدّر تجمّع اليسار نتائج انتخابات يونيو/ حزيران الماضي، في موقفٍ لا يُحسد عليه، فقد ورثت الحكومة المكلف بترؤسها وضعاً اقتصادياً كارثياً، حيث بلغ فيه حجم الديْن العام حوالي ثلاثة آلاف مليار يورو. وحيث بلغت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي 113% عام 2023. وتتجاوز هذه النسبة بشدة السقف الذي حدّدته قواعد الاتحاد الأوروبي، والبالغ 60%. ولقد ساهم في استفحال العجز وسوء الوضع الاقتصادي العام سياسات متخبّطة اتبعتها الحكومات السابقة المتعاقبة منذ وصول ماكرون إلى قصر الرئاسة سنة 2017، والتي أُفصَح عن نتائجها متأخرة. كما لعبت دوراً هاماً في الإخلال بالاقتصاد، الحجم الهائل للتعويضات التي دفعتها الخزينة العامة إبّان جائحة وباء كوفيد – 19 البلاد، للمحافظة على قطاعات الخدمات والتجارة والصناعة وحمياتها من الإفلاس. وأخيراً، كانت حرب روسيا على أوكرانيا وما رافقها من إجراءات اقتصادية وعسكرية ومن خطوات سلبية ارتبطت برفع سعر الطاقة وتهديد التجارة الدولية، هي الشعرة التي قصمت ظهر الاقتصاد الفرنسي كما الألماني.
يميل اليسار الفرنسي على أطيافه، هو أيضاً، إلى حجب الثقة وإسقاط حكومة بارنييه. وبالتالي، وحسب تقديراته، ستؤدّي الأزمة الخانقة التي ستنجم عن ذلك إلى تنحية الرئيس ماكرون دستورياً أو استقالته. وحينها ستكون حظوظ أحد رموزه المتشدّدين، جان لوي ميلانشون، كبيرة في الانتخابات الرئاسية المبكرة، إن التأمت، وذلك في مواجهة اليمين المتطرّف.
ستكون الأيام المقبلة، وقبل حلول نهاية العام الحالي، حافلة بالمفاجآت السياسية والإضرابات العمّالية والاحتجاجات الفلاحية. وربما ستحمل معها استقالة الحكومة الحالية إن جرى حجب ثقة الغالبية البرلمانية عنها. تحتاج حكومة بارنييه شبه معجزة لتمرير موازنة العام المقبل، ولتحافظ على استمراريتها في ظل إمكانية تشكّل تحالف موضوعي غير معلن بين يسار متشدّد ويمين متطرّف، للتخلّص منها وإقلاق راحة سيّد الاليزيه. ربما صفقات الساعة الأخيرة قد تنقذ الأمر.
المصدر: العربي الجديد