سارع المسؤولون الهولنديون إلى الإعراب عن مشاعر فيّاضة، وعواطف جيّاشة، دفاعاً عن مشجّعي فريق مكابي تلّ أبيب الإسرائيلي، وحزناً على ما حلّ بهم، بعد إثارتهم الفوضى والشغب والتخريب في العاصمة أمستردام، عقب مباراة فريقهم مع فريق أياكس الهولندي، في إطار منافسات بطولة الدوري الأوروبي لكرة القدم.
تضمّنت هذه المشاعر، التي أعلنها المسؤولون الهولنديون، الرعب والخزي والمأساوية والحزن، وهي مشاعر عبّر عنها جميعها وزير الخارجية الهولندي كاسبر فيلدكامب، في بيان واحد فقط، بعد لقائه نظيره الإسرائيلي جدعون ساعر، عقب الأحداث، فقد نقل فيلدكامب لساعر أنه شعر مع زملائه المسؤولين بـ”الرعب” إزاء ما حدث، مؤكّداً أن بلاده ستبذل قصارى جهدها لتحديد هُويَّة “هؤلاء البلطجية”، ومتعهداً بمحاسبة “الجناة”، ومكافحة “معاداة السامية”. كما وصف فيلدكامب ما زعم أنه عدم شعور اليهود بالأمان عند ارتداء القلنسوة في الأماكن العامّة بأنه “أمر مُخزٍ”، واعتبر أنه “من المأساوي أن نعتبر أن المعابد اليهودية والمدارس اليهودية وغيرها من المباني تحتاج إلى حماية خاصّة”. وأخيراً، أكّد وزير خارجية هولندا أنه فكّر في هذه التطوّرات “بقلب مثقل بالحزن، ولكن أيضاً بعزيمة لا تتزعزع”.
في مقابل هذه المشاعر السالبة، لم يغفل هؤلاء المسؤولون تأكيد مشاعرَ إيجابيةٍ للغاية انتابتهم خلال لقاءاتهم ومناقشاتهم مع نظرائهم الإسرائيليين. وكالعادة، كان لوزير الخارجية نصيب الأسد، فقد أعرب عن “سعادته” باستقبال نظيره الإسرائيلي (اليميني المتطرّف) في أمستردام، ثم عاد في نهاية البيان، وأكّد شعوره بالامتنان، لأنه تمكّن من الإعراب عن هذه المشاعر كلّها بنفسه، مشيراً إلى “تقديره” قدوم ساعر إلى العاصمة الهولندية. وبالطبع، لم يشر أيٌّ من المسؤولين الهولنديين إلى تاريخ جدعون ساعر المتطرّف، ولا تصريحاته العنصرية، ولا معارضته لحلّ الدولتَين، ولا رفضه فكرة إقامة دولة فلسطينية، حتى في حدود القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزّة فقط.
لم يقتصر طوفان المشاعر هذا على المسؤولين الهولنديين فحسب، إذ حرص هؤلاء على إبراز مشاعر نظرائهم الإسرائيليين أيضاً، فقد قال رئيس الوزراء ديك سخوف إنه التقى وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، موضحاً أن الأحداث “أثّرت” في ساعر “بشدّة”، وأن الأخير شاركه “مخاوفه الكبيرة واشمئزازه من تزايد معاداة السامية”. كما حرص سخوف على وصف اللقاء بأنه عُقِد “في أجواءَ ودّيةٍ”، واصفاً الأحداث في أمستردام بأنها “نقطة تحوّل”، معرباً عن “التزامه الواضح بتقديم المجرمين إلى العدالة.
أما ملك هولندا، فقد تفرّد بمشاعر جديدة، فبعد التعبير عن “اشمئزازه العميق”، كشف شعوره “بالخذلان”. إذ قال للرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، إن بلاده خذلت الجالية اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية، وإنها فشلت مرّة أخرى في حماية جمهور فريق مكابي تلّ أبيب الإسرائيلي.
يشير حديث ملك هولندا إلى تواطؤ السلطات الرسمية في بلاده أثناء الاحتلال الألماني لها (خلال الحرب العالمية الثانية) في تسليم عدد كبير من اليهود إلى النازيين، والإبلاغ عن أماكن اختبائهم، وهو ما أدّى إلى مقتل عشرات الآلاف من اليهود الهولنديين. يذكّر حديث ملك هولندا عن خذلان اليهود، بخذلان آخر تورّطت فيه بلاده أثناء حرب الإبادة التي شنّتها صربيا ضدّ البوسنة (في تسعينيّات القرن العشرين)، فقد ارتكبت القوات الصربية مذبحةَ سربرنيتسا، رغم إعلانها منطقةً آمنةً، ولم يتحرّك الجنود الهولنديون المتمركزون في سربرنيتسا ضمن قوات الأمم المتحدة لحماية السكّان، بل قاموا بتسليم آلاف البوسنيين إلى الصرب. وأسفرت المذبحة عن مقتل أكثر من 8 آلاف، تراوحت أعمارهم بين سبعة أعوام و70 عاماً، ووُصفت بأنها “أبشع جريمة حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية”.
وبعد 27 عاماً من المذبحة، قالت وزيرة الدفاع الهولندية آنذاك كاجسا أولونغرن، إن “المجتمع الدولي فشل في حماية أهالي سربرنيتسا”، وإن بلادها تتحمّل جزءاً من المسؤولية السياسية لذلك، متقدّمةً بالاعتذار “العميق” لأهالي الضحايا، لكنها زعمت في الوقت نفسه أن جنود بلادها “فعلوا كلّ ما بوسعهم لأداء مهمّتهم في الدفاع عن الأبرياء في سربرنيتسا”، واستشهدت بمحاكمة قادة الصرب في محكمة العدل الدولية بمدينة لاهاي الهولندية، وكأنّ مُجرَّد وجود مقرّ المحكمة في بلادها يعفيها من المسؤولية، أو يمنحها صكّ البراءة من اتهامها بالتواطؤ في المجزرة.
بالعودة إلى أحداث أمستردام، فإنه رغم توفّر عشرات الأدلة على أن جماهير مكابي تلّ أبيب هم من بدأوا أعمال الشغب والفوضى، إلّا أننا سنتجاوز عن هذه النقطة، وسنعرب عن تقديرنا لهذه المشاعر الهولندية الفيّاضة، لكنّ هذا لن يمنعنا من طرح بعض الأسئلة، أهمها: ما ذنب الشعب الفلسطيني فيما حدث لليهود الهولنديين؟ هل الفلسطينيون هم من سلّموهم للنازيين؟ أم أن السلطات الرسمية هي من فعلت ذلك وسهّلت تنفيذه؟ لماذا تقرّر دول غربية التكفير عن جرائمها بحقّ اليهود، من طريق ارتكاب جرائمَ بحقّ أممٍ وشعوب أخرى لا ذنب لها فيما حدث؟ وإلى متى تتحمّل فلسطين عبء التخلّص من العار الأوروبي تجاه اليهود؟
المصدر: العربي الجديد