اعتاد مؤيدو النظام السوري على المقارنة بين ثبات زعيمه وبين تعاقب الرؤساء والوزراء والفاعلين في العالم. فقد رحل باراك أوباما وهيلاري كلينتون وديفيد كاميرون وإيمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل وعبد الله آل سعود ومحمد مرسي وغيرهم عن مناصبهم، أو عن الدنيا، و«بقي الأسد» كما دأبوا على القول. وكأن هذه الأبدية ميزة بالقياس إلى دول كثيرة تتم فيها انتخابات طبيعية وتداول سياسي للسلطة التي لا يجري التشبث بها بأنواع السلاح المختلفة وقوى المخابرات والمسالخ البشرية والميليشيات.
غير أن لبقاء بشار الأسد، ثلاثة عشر عاماً بعد الثورة عليه، أثر إيجابي عليه لا يمكننا تجاهله. وهي أن أجيالاً جديدة في الحكم والمعارضات في بعض الدول تُقبل على قراءة «القضية السورية» من صفرٍ ما، وترفض التسليم بذاكرات وتجارب من سبقها لأنها أدت إلى طريق مسدود، وتظن أنها ستحقق ما لم تستطعه الأوائل لمجرد أنها قررت التفكير في «مقاربة جديدة» للمسألة، تتضمن «الانفتاح» على الحكم في دمشق وصولاً إلى اللقاء به. إذ لا يُعقل، في نظر هؤلاء، أن تكون الحقوق والقوانين في جانب خصومه جملةً وألا يوصف إلا بالوحشية والتعنت والمراوغة. ففي النهاية هذان طرفا صراع لن يخرج عن سنن «الحروب» في إمكانية الوصول إلى تنازلات متبادلة أو العثور على نقاط التقاء.
دون التورط في إغراء فرادة الحالة السورية، الذي بات منتشراً، يمكن نظم بشار الأسد في سلسلة نماذج كثيرة مشابهة من الطغاة في التاريخ، وفي الحاضر الذي لم يزل قروسطياً هنا وهناك، ممن يتبنون الثنائية القصوى بين القصر، بكامل صلاحياته ويده المطلقة، وبين القبر الذي يدفع المستبدُ إليه معارضيه وأعوانه ثم نفسه.
لا مقاربة جديدة مع الأسد إذاً، ولا تفكير خارج التابوت الذي هو أكثر الصناديق استخداماً في سوريا في العقد الأخير بعد صندوق الذخيرة. هذا ليس كلام معارضيه فقط بل هي حصيلة تجارب مبعوثين مخضرمين منذ كوفي عنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، وحتى الوساطة الأردنية التي أدّت إلى شغل النظام مقعد سوريا في جامعة الدول العربية في العام الماضي، وانفتاح بعض دول الخليج المؤثرة.
ويمكننا أن نستعيض عن التذكير الممل بسيرة فشل كل هذه المحاولات بقصة «طريفة» ذات دلالة. وهي أن تعيين الأخضر الإبراهيمي، وزير الخارجية الجزائري الأسبق، مبعوثاً مشتركاً للجامعة العربية والأمم المتحدة إلى سوريا، بعد استقالة عنان في عام 2012، لم تترك في البلاد سوى نتيجة مستمرة واحدة، وهي أن عناصر الأمن أطلقوا اسمه على نوع من الأنابيب البلاستيكية الخضراء، المخصصة للمياه أصلاً، والتي كانت يستخدمونها للضرب بسبب إيلامها الحاد ودون تطويبها باسم يليق بمكانتها الصاعدة بين أدوات التعذيب منذ استيرادها من عالم التمديدات الصحية، حتى تعيّن هذا المبعوث فلم تجد شيفرة النظام، للتعبير عن موقفها الحقيقي من المبادرات، خيراً من منح هذه الأنابيب اسمه. فانضم «الأخضر الإبراهيمي» إلى عائلةٍ أفرادُها الشبح والدولاب والكرسي الألماني وبساط الريح.
إن المعارضين والثوار السوريين، عندما يعبّرون عن يأسهم من محاولات العثور على آذان صاغية وعقل منفتح للحوار لدى بشار الأسد، ينطلقون من مرارة الفشل في التوصل إلى حل وطني إصلاحي منذ العقد الأول لحكمه عندما أحبط كل مقترحات الانفتاح المحدود في «ربيع دمشق»، ناهيك عما حدث بعد الثورة التي حفلت أشهرها الأولى بلقاءاته مع وفود من مختلف المناطق لم تترك مطلباً إلا ونقلته. فما بالك الآن بعد قتل واعتقال مئات الألوف وتشريد الملايين.
غير أن عاملاً آخر يحمل دول الجوار على إعادة الدق على الحائط المصمت. وهو الإشكالات التي تخلقها الأعداد الكبيرة للاجئين السوريين في لبنان وتركيا كما اتضح في الآونة الأخيرة، وتدفع السياسيين في هذين البلدين إلى تقليب أوراق هذا الملف مجدداً بحثاً عن أي ثغرة رغم معرفة بعضهم أنها غير موجودة أساساً.
وربما نكرر إذا قلنا إن للثورة حليفاً قوياً في دمشق يتمثل في بشار الأسد نفسه. فهو كفيل بالتعامل مع كل من يأمل به خيراً بطريقة صلفة متعالية كأنه الرابح في المعركة. في حين أن وجهه الآخر، الضعيف واقعياً، يمنعه من الاستجابة لهذه المبادرات حتى لو أراد. لأنه عاجز عن الحد من النفوذ الإيراني، وهو مطلب النظام العربي، وغير قادر على الاستغناء عن إيرادات تجارة المخدرات، وهو أيضاً شرط الأردن ودول الخليج، ولا يملك من الموارد والبنى التحتية ما يكفي لاستيعاب أعداد وازنة من اللاجئين بفرَض عودتهم وعدم ملاحقتهم أمنياً، وهو مطلب دول الجوار، وأبواب إعادة الإعمار مغلقة في وجهه بفعل الضغوط الأميركية وعدم وجود من يريد أن يموّل المتطلبات الضخمة للتعافي من هذه الكارثة الثقيلة.
ليذهب من شاء إلى دمشق فلن يعود بنتيجة. لكن الثوار السوريين لا يستطيعون أن يضعوا أيديهم في مياه باردة رغم ذلك، لا لأن هناك احتمالاً للتوصل إلى اتفاق من أي نوع مع الرئيس العنيد للبيروقراطية السياسية السورية، المصرّ على تطبيقها بحذافيرها؛ ولكن لأن وقت السوريين من دم، كما قيل منذ وقت بعيد، وهو ما يزال يسيل.
مرة أخرى لا حل إلا بالانتقال السياسي، وغير ذلك مراوحة في المكان!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا