انشغلت العديد من الكتب والدراسات في السنوات الأخيرة بموضوع انهيار الطبقة الوسطى في المدن العربية ( والقاهرة بشكل أخص)، وظهور نخب الكافيه لاتيه وسلطة سيزر _ وفق تعبير الانثربولوجية الهولندية انوك دي كوننغ _ والتي حاولت في كتابها (أحلام عولمية) تلمس ما الذي حل بأبناء الطبقة الوسطى واهتماماتهم ، خاصة على صعيد السلع الثقافية التي درجت الطبقة الوسطى على تبنيها في فترة الخمسينيات والسيتينات، مثل موضوع السينما ، والتي لم تعد موجودة في مدن مشرقية عديدة الا ما ندر. ذات الشيء نراه في موضوع شراء الكتب. اذ اعتادت نخب الطبقة الوسطى التقليدية على قراءة الصحف والمجلات والكتب، بينما تبدو اليوم النخب الحديثة غير مكترثة بهذه المصادر المعرفية كثيرا، لا بل يمكن القول أحيانا أن عالم كرة القدم مثلا قد ورث عالم السياسة والايديولوجية في حياة النخب العربية الجديدة، وهو تحول لا يمكن قراءته فحسب بوصفه دليلا بالضرورة على انهيار القيم والثقافة في المنطقة، وانما يعكس ايضا أسباباً هوياتية ومهنية واقتصادية جديدة.
وبعيدا عن النصوص التي اشتغلت على مشهد انهيار الطبقة الوسطى في المشرق العربي على الخصوص، يمكن القول إنه بالمقابل ظلت أفلام السينما في المقام الأول، وبعض السير الذاتية المصرية، تحتفظ بصورة وافية عن شخصية الافندي (ابن الطبقة الوسطى) في النصف الأول من القرن العشرين. والملفت في هذا السياق ايضا، انه في السنوات الأخيرة كانت بعض السير الذاتية السورية تتجه نحو اعادة رسم صورة هذا الافندي الذي ظهر في النصف الاول من القرن العشرين، وهو ما نراه في مذكرات الطبيب الدمشقي ابراهيم حقي ، والتي استطاع أن يرسم لنا صورة غنية عن علاقة النخب الجديدة بالحياة العامة في مدينة دمشق. مع ذلك تبقى هذه النصوص الشامية محدودة اذا ما قارناها بالنصوص المصرية . وربما ما يدعم هذه الاستنتاج هو كتاب المؤرخة الاجتماعية لوسي ريزوفا _ جامعة بيرمنغهام ( عصر الأفندية)، ترجمة محمد الدخاخني، دار كتب خان. اذ استطاعت هذه المؤرخة من خلال اعتمادها على عشرات السير الذاتية المصرية، وأفلام السينما، وغيرها من المواد المكتوبة في النصف الأول من القرن العشرين، من إعادة تشكيل صورة دقيقة وغنية عن شخصية الأفندي التي سادت المدن المصرية والمشرق العربي عموما لفترة خمسة عقود وأكثر.
بنت الأزبكية:
شهد العقدين الماضين عودة من قبل المؤرخين للاهتمام بالسير الذاتية بوصفها مادة حية، تعكس زمن من كتبها ، أو تنقل صورا من الماضي، حتى لو بدت مؤدلجة. ومما يحسب لمؤلفة الكتاب، أنها تعاملت مع السير الذاتية بوصفها نصوصاً ووثائق غير محايدة، لكنها مفيدة لرسم صورة حية عن الماضي. ولن تقتصر قراءتها في هذا الجانب على هذه النصوص فحسب، وانما عملت على تصفح أطنان من الصحف والورق المتسخ والمجلات المتوفرة في سوق الأزبكية، مما مكنها من العثور على مصادر جديدة مكتوبة عن تلك الفترة.
ولعل “منهجية الأزبكية” هذه وفق تعبير المؤلفة لن تقتصر فحسب على جهود صديقة الأفندية، وانما كان منهجها داخل أسواق الكتب القديمة، مدخلا لعدد من الباحثين الغربيين الآخرين لإعادة كتابة تاريخ تلك الفترة أيضا، كما في مثال المؤرخة الأميركية في تاريخ الطعام آنا غول، والتي اتبعت كما تذكر خطوات ريزوفا في سوق الأزبكية مما مكنها من الكشف عن عدد كبير من الكتب المصرية التي تناولت طرق إعداد الطعام في النصف الأول من القرن العشرين.
عصر الأفندية:
ينظر الكتاب في تكوين الأفندية، أول جيل حديث واع بذاته في التاريخ المصري( 1875_1950). ومن المعروف أن الأفندية كانوا الفاعلين الرئيسيين في الوطنية المصرية بأشكالها المتعددة: فقد كانوا صناع الحياة السياسية والمؤسسات الاجتماعية والانتاج الثقافي في مصر الحديثة، وكذلك كانوا المستهلكين الأساسيين لكل ذلك .
في رواية (قنديل أم هاشم) للكاتب المصري يحيى حقي يذهب البطل اسماعيل إلى لندن وكأنه يؤدي حجا استعماريا، بيد أن هذا الحج، بالرغم من أهميته يعد أيضا جزءا بسيطا من قصة هؤلاء الأفندية، والذين عادة ما ربطوا بالغرب أو بوصفهم حاملين لقيم الغرب، بينما تعتقد ريزوفا انه من المضلل رؤية هؤلاء الشباب على أنهم مجرد نتيجة لتغيير مؤسسي أو مناهجي.
تعتقد المؤلفة أن الأفندية لم يكونوا بالضرورة من أبناء العائلات الغنية، ظأو ذوي علاقات بأشخاص من أصحاب النفوذ، وإنما عملوا كبيروقراطيين صغار في مستويات إدارية منخفضة ومتوسطة. مع ذلك حرصوا على تمييز أنفسهم عن الفقراء الذين في كانوا في الواقع جيرانهم المجاورين، من خلال حشد شيفرات شرف تشكل محترميتهم. ولذلك شكلت بعض الشيفرات الثقافية مثل شراء الكتب وقراءتها، وزيارة السينما، مكونات جوهرية في تشكيل صورتهم.
يظهر الأفندي في السير والمجلات والسينما باعتباره المثل الأعلى للمصري الحضري الحديث الذي أراد معظم القراء ان يتشبهوا به، أو على الأقل هكذا افترض المعلنون. ووفقا لهذا المنطق نفسه، تم استخدام صور الأفندي أيضا في الرسوم الكاريكاتورية للصحافة كوسيلة للتعليق على الأحداث الجارية. ولا عجب أنهم كانوا الأبطال الأكثر شيوعا على الشاشات الفضية حتى أدت موجة الواقعية الاشتراكية في الخمسينيات من القرن العشرين الى ابراز لأنواع اجتماعية مختلفة بشكل أكبر. وتظهر لقطة من فيلم كلاسيكي مصري يعود إلى عام 1944 (رصاصة في القلب) الموسيقار النجم محمد عبد الوهاب، الذي كان أيضا خلال الثلاثينيات والأربعينيات شخصية سينمائية جذابة، في واحد من مشاهده الشهيرة في شخصية افندي كما كان دوما. وغالبا ما قدمت هذه الصور كمنتج ثقافي، يأتي في شبكة من السلع الثقافية ذات الأصل الحديث الى حد ما مثل سجائر وملابس، بدلة أووربية وطربوش، ولاحقاً اضيفت لهذه الصور بعض الرتوش الأخرى، مثل اقتناء راديو أو سيارة، وهو امر لم يكن في متناول جميع الافندية بالضرورة.
المدرسة ..مصنع الأفندية
في فيلم كوميدي يعود الى عام 1942 بعنوان (لو كنت غني) ، يجد اسطى محروس، وهو حلاق من حي شعبي في القاهرة نفسه في لمحة من القدر حائزاً لمبلغ كبير من المال. يبدأ محروس الذي أصبح الآن ثريا، في محاكاة نبلاء القاهرة: يشتري فيلا في الزمالك، حي النخبة، وسيارة، وفي نهاية المطاف مصنعا صغيرا. ويتبنى العلامات النمطية لمكانة الطبقة العليا مثل ارتياد الملاهي الليلية والسينما. مع ذلك يرفض الارستقراطيون، جيرانه الجدد، عروضه الاجتماعية، ولا يظهرون له سوى الازدراء. ولذلك تتزايد عزلة الاسطى محروس من خلال سلسلة من المشاهد الكوميدية التي يكشف فيها وهو زوجته أصولههما المتواضعة الحقيقية. ومن خلال مادة الفيلم نعثر على فكرة تقول بأن اكتساب الثروة وحده لا يمكن أن يؤدي الى التنقل الاجتماعي ما لم يكن ثمة تحول ثقافي مقابل، فالمدارس الحديثة تعد الحارس المناسب للحداثة، والتي من خلالها يمكن للمصريين الطامحين ( والمقتدرين) تحقيق الترقي.
الأفلام والكتب والقطارات
في سيرة عبد الله الطوخي ننتقل من تأثيرات المدرسة ودورها في صناعة الافندي، نحو الثقافة الحضرية الحديثة. ولد الطوخي في قرية بالقرب من مدينة المنصورة، ونراه في سيرته الذاتية يركز على أعوامه الاولى المليئة بذكريات شجية عن طفولة سعيدة. تسرد هذه الفترة من خلال الاستدعاءات الرومانسية لحياة ريف رعوي، والتي لا تتردد احيانا في إدانة بعض طقوسها: الانكباب على أضرحة الأولياء المحليين، أو الاستهلاك العام للجنس من خلال طقس الزفاف. مع مرور السنوات تبرز مدينة المنصورة المجاورة، من خلال شراء ابن عمه أول جهاز راديو يعمل بالبطارية، وبعد ذلك ينتقل الى القاهرة لتبرز السينما بوصفها النافذة التي تطل على العالم الواسع والمجهول لصبي قروي . لا تبدو السينما في سير الأفندية مجرد تسلية، بل أداة نظر من خلالها الشباب إلى حياتهم.
في جانب آخر، نرى الأفندية وهم يكتشفون روايات الجيب المترجمة الرخيصة، التي تصور ارسين لوبين أو شيرلوك هولمز، وبعدها تولستوي وهوجو، ولذلك تبدو السينما والقراءة في حياة الأفنديةبمثابة أول “اساتذة التنوير”.
القاهرة ..نافذة الأفندية
في سير أخرى، نرى القاهرة بوصفها نافذة على العالم الكبير بعيدا عن قبضة العائلات التقليدية. ان انفتاح الحواس الذي اختبره بعض الأفندية كان بسبب انتقالهم الى القاهرة ودخولهم المدرسة هناك . والملفت هنا ان المدرسة والتي تبدو احيانا ممرا لعالم الافندية، تظهر في سير اخرى أيضا بوصفها شرطا ضرويا وليس كافيا، اذا بدا بعض الأفندية مدركين بأن المدارس لم تكن الوصي الوحيد عليهم، وأنها مجرد جزء من التجربة الاجتماعية والثقافية للتعليم. ولذلك تعتقد مؤلفة الكتاب أنه إلى جانب المدرسة، فإن ما ساهم في صناعة حياة الأفندية أو سرديتهم هو موضوع الهجرة التعليمية. فقد وجد عدد كبير من الشباب انفسهم بعيدين عن الرقابة الابوية. والعامل الثاني هو التعرض للثقافة الحضرية بشكل كبير، والتي بقوا يؤثرون ويتأثرون بها حتى الخمسينيات، مع قدوم فترة جديدة في تاريخ القاهرة والمدن العربية عموما.
المصدر: جريدة القدس العربي