في خطر صعود اليمين الأوروبي

علي أنوزلا

أحدثت الانتخابات الأوروبية، التي تميّزت بصعود لافت لليمين المتطرّف في عدة دول، زلزالاً سياسياً، خاصة في فرنسا، التي حلّ رئيسها إيمانويل ماكرون البرلمان، ودعا إلى انتخابات مبكّرة لقطع الطريق على الزحف اليميني المتنامي داخل بلاده. وفي ألمانيا، شهد حزب المستشار الألماني أولاف شولتس انتكاسة مريرة أمام صعود الأحزاب القومية الراديكالية المعروفة بإديولوجيتها العنصرية والمعادية للأجانب. وفي كل البلدان التي تصدّر فيها اليمين المتطرف نتائج هذه الانتخابات لم يشكل هذا التقدّم مفاجأة كبيرة لمراقبين كثيرين، وخصوصاً أنه بدا واضحاً، في السنوات الأخيرة، أن لا شيء قادر على وقف نجاحات أحزابه وتمدّد إيديولوجيّته في شمال أوروبا، تغذّيه أفكار يمينية قومية متطرّفة وانتكاسات للسياسات الأوروبية على أكثر من مستوى.

وكما عكست ذلك نتاج انتخابات الأحد الماضي في مختلف أنحاء أوروبا الغربية، واصل اليمين القومي المتطرّف ازدهاره، خصوصاً في دول مثل إيطاليا التي احتفظ فيها حزب رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني اليميني بالصدارة في بلاده. وتكرّر السيناريو في دول أخرى، كبولندا والمجر والنمسا وهولندا وإسبانيا، حيث احتفظت الأحزاب اليمينية المتطرّفة بصدارتها أو حققت تقدّماً لافتاً في بلدانها. وشكّلت دول شمال أوروبا استثناء، خصوصاً السويد وفنلندا والدنمارك، التي تراجعت فيها أحزاب اليمين وحقّق فيها اليسار تقدّماً قوياً، وهذا الاستثناء لن يغيّر حقيقة تقدّم الإيديولوجيا اليمينية المتطرّفة في دول أوروبا الغربية، حيث أصبحت أحزاب اليمين المتطرّف، بكل أطيافها، القوة السياسية الثانية داخل البرلمان الأوروبي.

ورغم أن هذا الصعود الملفت لليمين المتطرّف لن يؤدّي إلى الإخلال بالتوازنات الرئيسية داخل المؤسسة التشريعية الأوروبية، إلا أنه، مع الأداء القوي الذي حققته في هذه الانتخابات، يمكن للبرلمانيين الأوروبيين اليمينيين المتطرّفين التأثير أو عرقلة السياسات المشتركة على مستوى الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة والأمن، وتغير المناخ والحرب في أوكرانيا، وغيرها من القضايا الحسّاسة الداخلية والدولية، والتي سوف نشهد نتائج تأثير هذا الصعود اليميني على مواقف الاتحاد الأوروبي حيالها في السنوات الخمس المقبلة من عمل البرلمان الأوروبي. وهكذا، سوف يكون للإيديولوجية اليمينية المتطرّفة التأثير الأكبر على سياسات الهجرة الأوروبية، حيث إن أغلب الأحزاب اليمينية المتطرّفة، إن لم تكن كلها، تعارض سياسات الهجرة التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي، وتدعو إلى سياساتٍ أكثر تشدّداً تجاه المهاجرين. وقد يؤدّي الحضور القوي لأحزاب اليمين المتطرّف داخل البرلمان الأوروبي إلى إضعاف قدرة الاتحاد الأوروبي على صياغة مزيدٍ من الاستجابات الجماعية لقضايا الهجرة، بما فيها تلك الإنسانية، وانعكاس ذلك على السياسات والقوانين والتشريعات الداخلية في مختلف البلدان الأوروبية. وفي حين تعترف معظم الأحزاب اليمينيّة بحقيقة تغيّر المناخ، فإن عديدين من أعضائها وأتباعها يشكّكون في السياسات الخضراء الأوروبية باعتبارها مشاريع ومخطّطات نخبوية مكلفة ماليا واقتصاديا ولها انعكاسات اجتماعية سلبية على المواطنين. وبفعل طبيعتها الإيديولوجية، غالباً ما تؤكّد الأحزاب اليمينية على القيم المسيحية التقليدية المحافظة، وقد يدفع هذا الموقف الاتحاد الأوروبي إلى مراجعة سياسته الخارجية الليبرالية، والتركيز بشكل أكبر على القضايا الداخلية، في حين يتجنّب التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

تثبت نظرة سريعة على نتائج الانتخابات في مختلف أنحاء أوروبا أن اليمين الأوروبي المتطرّف نجح، إلى حدّ ما، في تثبيت شرعية فكره اليميني المتطرّف، ومحا نسبيا صورته الشعبوية أمام رأيه العام، ليصبح مقبولاً سياسياً. لذلك، ليس هذا التصويت فقط مؤشّرا إلى تغير ملحوظ في مزاج الناخب الأوروبي، وإنما هو بداية تحوّل عميق داخل الرأي العام الأوروبي الغربي الذي أصبح يميل نحو إيديولوجيات قومية متطرّفة ومنغلقة تسحب أوروبا تدريجيا نحو أقصى اليمين، وتمهّد للصعود المخيف للفاشية وللقوميات المتطرّفة التي أدخلت العالم في القرن الماضي في أكبر حربين عالميتين مدمرتين. وفي ظل دخول هذا العدد الهائل من دعاة السيادة الوطنية من اليمينيين المتطرّفين إلى البرلمان الأوروبي، والمؤيدين للحمائية الاقتصادية، ومناهضي القضايا الأوروبية الرئيسية: سواء تعلق الأمر بالمناخ أو الطاقة أو سياسة الهجرة، فإن خطر أن يسعى هؤلاء البرلمانيون الأوروبيون اليمينيون إلى تفكيك أوروبا من الداخل يبقى قائماً، حتى وإن كان غير معلن عنه بطريقة واضحة في جميع برامج هذه الأحزاب المناهضة للاتحاد الأوروبي في شكله القائم حاليا.

لكن الأكيد أن نتائج هذه الانتخابات سوف تؤدّي إلى تعميق حالة عدم اليقين العالمية القائمة، وإذا أضفنا إلى ذلك احتمال إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، فإن موجة الصعود اليميني داخل الاتحاد الأوروبي سوف تشجّع على اصطفاف القوميين الشعبويين اليمينيين المتشدّدين في ما يمكن تسميته “حزب ترامب الأوروبي”، مع ما سيخلفه مثل هذا التحالف اليميني العالمي من عواقب جيوسياسية عالمية أوسع نطاقا. وعلى غرار سياسة “أميركا أولا” التي انتهجها ترامب، قد يودّي صعود اليمين في القارّة العجوز إلى موجة من مشاعر “أوروبا أولا”، رغم صعوبة تنفيذ مثل هذا الشعار في قارّة يعتمد نمو اقتصادها على التعاون المتعدد الأطراف وعلى اليد العاملة الرخيصة القادمة من الخارج.

ووسط كل هذه التحولات العالمية الكبرى التي تقرّبنا كل يوم من ميلاد الفاشية العالمية الجديدة يبدو العالم العربي الممزّق والضعيف خارج كل هذه المعادلات العالمية الكبرى التي ترسم معالم مستقبل عالمي مخيف، نكتفي نحن بالدعاء من أجل استقباله.

 

المصدر: العربي الجديد

تعليق واحد

  1. أظهرت الانتخابات الأوروبية الأخيرة صعود لافت لليمين المتطرّف في عدة دول وشكلت زلزالاً سياسياً خاصة في فرنسا، هل هو تغيير بمزاج الناخب الأوروبي لصالح الأحزاب القومية المتطرفة؟ و تثبيت شرعية فكره اليميني المتطرّف، ومحو صورته الشعبوية، ويكون داعم لـ “حزب ترامب الأوروبي” لتقرّبنا كل يوم من ميلاد الفاشية العالمية الجديدة .

زر الذهاب إلى الأعلى