نفهمُ كيف تهضم المدن سكّانها قبل أن تتّضح هيئتُها فوق الوجوه، وفي ذلك استدلالٌ قلّما يُفصِح عن نفسه بشأن انعكاس المدينة في ملامح قاطنيها، فالمدن الحيّة البرّاقة تُؤثّر في من هم فيها ليس كمِثل تأثير المدن الهرمة الباهتة، أو المنكوبة، لذلك، تستنتجنا المدن من خلال مكوثها فينا، ونحن نفعل الشيء ذاته في المقابل، فنصير جزءاً من خصوبة المدينة، أو من عُقمِها، مع التقليل من أهمية إجراء مناوراتٍ آمنةٍ تقي من بلوغ درجة الذوبان في المكان.
ودمشق، قبل انحدارها نحو الخراب بهيئته الماثلة حالياً، وقبل تلوّثها بالحواجز العسكرية والأمنية، وبرائحة الجنود والمليشيات، كانت مدينةً مَرِحَةً تعشق نفسها، ومع استفحال احتلالها من الإيرانيين، وتلويثهم لها بمظاهر التشيّع القبيح، واللطميات التي لا تهدأ في محيط الجامع الأموي، وبالقرب من مقام السيّدة رُقيّة، كنّست دمشق كثيراً من حميميّتها مُرغَمةً على ذلك، وتخلّت عن نرجسيّتها بفعل استمرار حكم الأسد لها، ولسواها من مدنٍ سوريّة، فباتت دمشق مدينةً ضيّقة، كما وجوه قاطنيها، وكأنّها تطالب الجميع بأن يمنحوها سريراً للاستشفاء من هبوط ضغطها، وفقدان شهيّتها للحياة، وهي التي كانت تعني الفسحةَ الوافرة من الفرجة، بمفهومها الاستدلالي والجمالي أيضاً، مستميلةً، بذلك، كلّ السوريين إليها، وليس قاطنيها فقط.
دمشق، إذاً، كانت أكثر من مدينة بكثير، وأقلّ من دولةٍ بقليل، وحين يقصدها الكلامُ من بعيد، يخاطبها على أنّها “الشام” كاملةً، فيقول الناس، هنا، إن أرادوا زيارتها، إنّهم ذاهبون إلى الشام أو عائدون من الشام، ولا يقولون إنهم ذاهبون إلى دمشق أو عائدون منها، دمشقُ اسمها السياسي عاصمةً فقط، لكنّها الشام حقّاً، من دون أن تدفع رشوةً لأحد لكي يقبلها بكلّ اتساعها ورحابتها، وبكلّ انغماسها في حضارات كثيرة سكنتها، ولم تكن دمشق تدفع عنها تهمة أن تكون معشوقةً على هذا النحو، كما ولم تكن لتحاول أن تبرهن على أنّها بريئة من تلك التهمة، وحتّى عام 2000، لم تغادر دمشق ضفاف المدينة الكلاسيكية، فكانت باذخةَ العطاء رغم تطويقها بنظام سياسي بوليسي، يرفع شعار الاشتراكية ولا يُطبّق منه شيئاً، ترحّبُ بكلّ من يلاحقها، فتقدّم دورُ سينما جادّة مثل الكندي، والشام، وأخرى شعبية تجارية مثل أوغاريت والخيام والسفراء، مثلما كانت تقدّم عروضاً مسرحية جادّة مأخوذة من نصوص لبريخت وصامويل بيكيت، في مسرحَي القباني والحمراء. وفي المقابل، كان بمقدورها، أيضاً، تقديم عروض مسرحيّة تجارية تحت مُسمّى “مسرح فكاهي”، تطلُّ منه غادة بشور وياسين بقّوش، في معظم الأحيان، فكان لديها ما تُرضي الجميعَ به، من الجنس مقابل المال في فنادق المرجة إلى مهرجانات الثقافة الفرانكفونيّة، التي كانت تظهر بين حين وآخر في المركز الثقافي الفرنسي، ومن كؤوس العرق في خمّارة فريدي في شارع العابد إلى حكواتي مقهى النوفرة الملاصقة للجامع الأموي، وذاك اتساع عفوي جعلها مدينةً تشبه الجميع، والجميع يشبهها، باتساق شديد، ومن دون مزايدةٍ من أحدٍ عليها.
ثم جاء العقد الأول من حكم بشّار الأسد للبلاد مراوغاً للجميع، حتّى إنّ دمشق سئمت تقديم وعود الدهشة لقاطنيها خلال عبورها المتعجّل نحو اقتصاد السوق، حينها اجتاحت المصارف وشركات التأمين الخاصّة الوسط التجاري في العاصمة، بامتداده الجغرافي الأنيق، ومعه اختفت مقاهٍ شعبيةٌ، وهُجرت دورُ سينما عديدة، وصار الجنس يُباع وجباتٍ ساخنةً في شقق مفروشة، بعيداً عن فنادق المرجة، ثم أصبحت الأماكن أقلّ حميميّة من السابق، أُقفل مطعم الريّس في وسط العاصمة، وصارت مطاعم الربوة أقلّ أُنساً وجذباً لمن يعبر في جوارها، وفاضت الشوارع بالسيارات القادمة من قروض التجزئة المصرفية، وهذا كلّه لم يكن تجديداً نموذجيّاً عامّاً على أيّ حال، إذ إنّه لم ينقل دمشق إلى ضفّة ثانية غير الضفّة التي كانت تقف عليها، فلا هي صارت مدينةً حديثةً كمدن الخليج العربي، ولا بقيت مدينةً كلاسيكية كما كانت عليه قبل عام 2000، ضاعت العاصمة (ملمحاً بصريّاً، ومضموناً حيّاً) في زحمة قرارات بشّار الأسد المُتلاحقة، لإعادة تصنيع البلاد، وتحويلها سرديّة نموذجية لإعادة تمركز الثروة والنفوذ، ليرويها، هذه المرّة، اقتصاد السوق الجديد.
هكذا انتقلت دمشق عهدةً ورثها بشار من أبيه، ومع دخول البلاد في العقد الثاني من حكم بشّار الأسد، بقيت دمشق عالقةً في قاع حفرة البرامكة، تلك التي كان مقرّراً لها أن تغدو أساساً لبرجي البرامكة، حفرت شركة الشام القابضة تلك الحفرة، ثم غادرت العمل فيها عام 2011، وهو العام الذي نشبت فيه الثورة السورية ضدّ بشّار الأسد، ونظامه، ومعه بدأ مرض دمشق الطويل، وكفّت أن تكون “الشام”، لتصير بدلاً من ذلك مدينةً مسكونةً بالهواجس والشقاء، وهذا الذي دمغته فوق ملامح ناسها، كأنّها تدوّن بذلك تذكاراتٍ لا تُمحى، حيث جيل كاملٌ ولد داخل سراديب عتمتها وبؤسها المفاجئ، ولا يقوى ذاك الجيل، وغيره طبعاً، إلّا أن يراها مُقيّدةً إلى كتل من الخرسانة جاء بها عناصر المخابرات والمليشيات الإيرانية، لتحويلها مكاناً مصنوعاً من أشلاءَ مُتباعدة، أو يرونها باهتةً من خلال نفوق التيار الكهربائي داخل أسلاكها التالفة، أو بخيلةً عليهم بما لديها من مياه شربٍ شحيحةٍ، وكذلك في غلاء لُقمتها، وما تُقدّمه من سلع، وهي ليست بالمدينة القاسية على الإطلاق، إنّما دحرها بشّار الأسد وحلفاؤه، وجعلوا منها مدينة مهزومةً خلال الـ13 عاماً الأخيرة، وهذا الذي نطالعه فيها من خلال يوميّاتها المُدوّنة فوق الوجوه.
ينظر الفيلسوف، وعالم الاجتماع الفرنسيّ، إيميل دوركهايم، إلى المدينة “مجتمعاً للتضامن العضوي”، وفيها يسود تقسيم العمل الاجتماعي، والعلاقات الاجتماعية النفعيّة. لنرَ كيف تصاعدت تلك العلاقات النفعية في الفضاء العام لدمشق خلال سنواتِ كارثتها الأخيرة، وكيف حمّلتها منظومة بشّار الأسد الحاكمة صفةً وظيفيّة أيضاً، تقوم على فكرة النهب العام وفق تدرّج هرمي، وهذا أنتج بالضرورة مدينةً منكوبة بالارتزاق، لتكون السرقة فيها ذات طابع مُمنهج، يحدث بالتدريج، من قاعدة تلك المنظومة إلى رأسها، أي من الحواجز العسكرية والأمنية وتجّار السوق السوداء في القاع، وصولاً إلى الأُسرة الحاكمة لسورية في قمّة هرم النهب العام. لقد اقتادت السنوات الماضية قاطني دمشق، ومثلهم قاطني باقي المدن والأرياف السورية الخاضعة لسلطة النظام السوري، لأن يكوّنوا حالةً منهوبة بالمفهوم المادّي، وحتّى بالمفهوم النفسيّ، ومن يقطن دمشق العاصمة، يعلم جيّداً كيف تبدّلت هذه المدينة الحالمة، المدينةُ النرجسيّة، إلى مدينة جافّةٍ، عجفاءَ، تطرد من فيها إلى كلّ الجهات المُمكنة، بعدما كانت مأوىً للراغبين في الحياة، وبها.
المصدر: العربي الجديد
المدينة “مجتمعاً للتضامن العضوي”، وفيها يسود تقسيم العمل الاجتماعي، والعلاقات الاجتماعية النفعيّة، خلال حكم الأسد الأب والإبن كيف تصاعدت تلك العلاقات النفعية في الفضاء العام لدمشق خلال السنواتِ تلك؟ إنها نفعية بإستخدام الطائفة لخدمة العائلة وإستخدام المجتمع لخدمة الطائفة، ليتطلب إعادة تقييم دمشق ضمن الظروف الحالية من سرقة الوطن ونهب ثرواتها لصالح المحتلين والعائلة؟