في كتابه “فرسان الحرّية في الثقافة الروسية” (ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، إسطنبول، 2023)، يورد المؤلف منذر بدر حلّوم عبارة تحمل دلالات كثيرة من “الدون الهادئ” (رواية) لميخائيل شولوخوف، يقول فيها “غريشا” لأخيه “بيوتر”: “لقد جعلونا نحترب أسوأ من قطيع من الذئاب. الكراهية في كلّ مكان، وأحياناً أقول في نفسي إنّني لو عضضت شخصاً لأصبته بالسعار”. فكم من الشعوب التي انزلقت إلى الحروب البينية يصحّ فيها هذا القول. وكم تتوهّج نيران هذه الكراهية المُدمّرة التي تزيد في اضطرام نيران الاقتتال في أكثر من دولة، لدى شعوب عربية كثيرة. الأمثلة حيّة أمام أعيننا وبصائرنا، من اليمن إلى سورية إلى السودان إلى العراق إلى ليبيا إلى لبنان إلى الصومال، هذا غير الجمرات المطمورة تحت رماد مناطق أخرى لا تحتمل أكثر من هبّة ريح حتَّى تتوهّج، وتشعل الحرائق في هشيم مجتمعاتها اليابسة.
واستكمالًا للقول السابق، يطرح السؤال الموجع، الذي يترسّخ في المجتمع مثل ثقب أسود: مع من أنت؟ هل تستطيع أن تتبيّن وطنك في هذه الحرب؟ وهل تبقى الدولة دولة إذا عصفت بسكّانها الحرب الأهلية؟… بعد 13 عاماً من النزيف السوري، والقتل، والدمار، والتهجير، والتقسيم، والتغوّل بالقوّة، لا يمكن القول إنّ سورية تحوي مجتمعاً معافى، أو مجتمعات معافاة، بعدما تشرذمت بهذه الطريقة الموجعة، فكيف إذا كانت الأمراضُ كامنةً في الأساس بما يمكن تشبيهه طبّياً بفترة الحضانة، تلك الفترة التي يكون الجسم فيها قد تلقّى العدوى، وبدأت الحالة الإمراضية تفعل فعلها إلى أن يتمكّن المرض من الجسم، وتبدأ الأعراض والعلامات في الظهور. هذه العلامات لم تتأخّر في الظهور بعد بداية الحراك، الذي قُوبِل بالعنف فاستولد العنف.
أفهم مشاعر من فقدوا أغلى ما لديهم، من قُتل أبناؤه أو أهله أو غُيّبوا في المعتقلات أو أُعدِموا فيها، أفهم مشاعر أولئك المفجوعين المغبونين، وأولئك المطرودين من ديارهم وماضيهم، متروكين لشتَّى أنواع البؤس والحياة الذليلة، يُتاجَر فيهم، ويُسامون الذلّ والكراهية في بلدان اللجوء أو النزوح، هذا كلّه مفهومٌ، ولا يمكن لصاحب ضمير ألّا يحترم هذا الحزن ويتفهّم هذه النقمة، التي تصل إلى حدّ الضغينة، مشاعر مشروعة ومُبرّرة، مثل ما أتفهّم، في المقابل، مشاعر باقي الشرائح، إذ لم يُقدَّم خطاب يرقى إلى مستوى أحلام الناس، الذين كانوا يطمحون إلى حياة آمنة مُستقرّة تصان فيها الكرامات والحقوق.
لكن، هل يمكن تبرير ما وصلت إليه هذا الشرائح الكبيرة من الشعب السوري من بؤس المصير من دون أن يُقدّم واقع الثورة ما يعزّز الأمل في النفوس، ويُنقّي الضمائر من الكراهية، التي تعمي البصر والبصيرة؟ هل هكذا تُبنى المجتمعات التي تنتفض على واقعها، وترنو إلى ثورة تقلبه رأساً على عقب؟
مارست كلُّ سلطاتِ الأمر الواقع ونُخَبِها، التي ترسم المسار وتدير حياة الواقعين تحت سيطرتها، التضليلَ في كلّ شيء، لم تعمل على بناء وعي عام يجعل من الشعب كياناً قادراً على التفكير، وإنتاج الأفكار التي تُعزّز مسيرته إلى الأمام، فصارت الحياة أشبه ما تكون بمستنقعٍ حارقٍ يذكي الضغينة والثأرية من دون تبصّر أو توجّه إلى من يجب توجيه هذه المشاعر، وغرق الأفراد فيها، حاصرتهم، وشلّت إمكانية العيش في الحاضر وفهمه من أجل بناء المستقبل.
أتفهّم ما يعني أن يُقتلَ رئيس دولة ووزير خارجيتها، وبعض رموز النظام فيها، مارسوا السطوة والقتل في حقّ الشعب السوري، وأتفهّم كيف يمكن لحادث، قدري أو قصدي، بهذا الحجم، أن يدغدغ مشاعر من فُجِعَ ونُكِبَ بسبب تدخّل هذه الدولة، بنظامها وأجهزتها المخابراتية والمليشيات التي ترعاها، في حياته ومصيره، هذه المشاعر التي تُسمّى في الثقافة العامّة والوعي الجمعي بالشماتة، لكنّ الشماتة لا تُغيّر في الواقع شيئاً، هي تبرّد نار الصدور بعض الشيء، ليس أكثر.
بالتوازي مع هذه الشماتة، دفع الإعلام بوسائطه، التي تفوق القدرة على الاستيعاب والاحتمال، سيولاً من التحليلات والتوقّعات والاستنتاجات أغرقت الوعي العام من دون أن تغيّر شيئاً في الواقع، إنّما زاد في التعمية والتضليل وضبابية المشهد، هذا الأمر ليس جديداً، فلقد أصبح الإعلام والوسائط المُتعدّدة ومنصّات التواصل من أكثر أدوات الخطر على المجتمعات، خاصّة عندما تُمارِسُ التضليل من أجل أجنداتٍ مُسبقة، هذا ما شلّ الانتفاضات الشعبية وفتتها وشرذمها في أكثر من بلد عربي.
انشغل السوريون في الوقت نفسه بخبرٍ مزامنٍ لمقتل الرئيس الإيراني، وهو إعلان الرئاسة السورية في 21 من مايو/ أيار الحالي عن إصابة أسماء الأسد بمرض الابيضاض النقوي الحاد (اللوكيميا)، وممّا ذكر البيان أنّها ستخضع لبروتوكول علاجي مُتخصّص يتطلّب شروط العزل مع “تحقيق التباعد الاجتماعي”. من الطبيعي أنّ خبراً من هذا النوع ليس عارضاً أو قليل الأهمية، لما تشكله زوجة الرئيس السوري من موقع مُهمّ في النظام، وفي إدارة البلاد، خصوصاً لناحية الاقتصاد وربطه بها، ما ينعكس بطريقة مهينة ومؤلمة بالنسبة إلى السوريين. ومن حقّ السوريين أن يطرحوا الأسئلة ويتابعوا الأمر، لكن ما مارسته بعض المواقع أو المنابر الإعلامية كان التحليل والتكهّن المبنيَين على مغالطات لا يليق بالإعلام ممارستها، فلقد بنوا مباشرة على جملة “التباعد الاجتماعي”، وطرحوا احتمالات مُرجّحة، بل كادت تكون حقائق لها ما يدعمها في الواقع، وهو أنّها أُبعدت عن المشهد السياسي لترتيبات قادمة، وربطوها بالتغيرات المُتوقّعة في إيران، لكنّ الواقعَين العلمي والطبّي يقولان إنّ أهمّ أمر بالنسبة لمريض من هذا النوع هو العزل، فالمرض في حدّ ذاته يضعف الجهاز المناعي لدى المصاب، عدا العلاجات الأخرى من أشعّة وعلاج كيميائي، بالإضافة إلى احتمالية زرع النقي، فهذا وحده يحتاج عزلاً صارماً وحمايةً مُحكمة للمريض من العدوى، بكلّ أشكالها، فلماذا لا توضع الأمور في مكانها الطبيعي بدل البناء على الأوهام؟ لماذا لا تُعتمَد الشفافية بالنسبة إلى الشعب، وتُناقَش الأمور بمنطق علمي ونهج استقرائي ينبني على مُقدّماتٍ مُقنعةٍ مبنيّةٍ على معطياتٍ سليمة؟
لا يُصنع الوعي بالقضايا بناء على العواطف والمشاعر، التي غالباً ما تُؤجّج بأدوات لا تراعي العقل السليم، وهذا النهج اتبعته كلّ الأطراف المتصارعة في الساحة السورية، إعلام النظام من جهة، وإعلام المعارضة، وما بعده من إعلام سلطات الأمر الواقع، من جهة أخرى، لم يحن الوقت كي ننسى أنّ الطرفَين؛ نظاماً ومعارضةً، أكّدا لـ”الشعب السوري”، باكراً، أنّها “خِلْصِت”، لكن البلاد هي التي “خِلْصِت”.
يقول منذر حلّوم في الكتاب عينه: “وفيما يموت الفقراء خدمةً لمشاريع الكبار الذين يشعلون الحروب، تجد أصحاب الشعارات الوطنية ودعاتها الكاذبين يتابعون من غرفهم الوثيرة أعداد القتلى من دون أن يعنيهم أنّ وراء كلّ قتيل مأساة وخسارة بشرية”. وهذا ما حصل في الواقع، وساهم الإعلام كثيراً في تأجيجه، الإعلام الذي يشكّل ثقلاً كبيراً، وأداةً أخطرَ من أيّ أداة أخرى في الحروب في كلّ العصور، بدعايته الحربية مثل ما وضع مُحدّداتٍ لها اللورد آرثر بونسومبي في كتابه “التزييف في زمن الحرب: أكاذيب الإعلام في الحرب العالمية الأولى”، الذي صدر في عام 1928، فكيف اليوم بما وصلت إليه البشرية من تقدّم بسبب الثورة الرقمية؟
ما وصل إليه المجتمع السوري من انهيار وفقدان الهُويّة الثقافية، والانحدار المجتمعي والخراب الاقتصادي، وتمكّن لغة العنف ومفهوم العنف قولاً وممارسةً في وعي الناس وأسلوب حياتهم ما ينذر بأنّ بناء المُستقبل وفق هذه الحالة سيتأخّر كثيراً، يجب أن يفرض على النُخَبِ المجتمعية، خاصّة الثقافية، وأكثرها أهمّية الإعلام، احترام عقل الأفراد ووعيهم بالدرجة الأولى، واحترام إنسانيتهم ووجودهم، هذا ما كان يجب الانتباه إليه باكراً والابتعاد عن طروحات العنف والإقصاء، فمكوّنات الشعب السوري عديدة ومتنوعة، حتَّى الشرائح المُتطرّفة في تمسّكها بالدين وشعائره وطقوسه، وبأنّه الأساس في إدارة الدولة والمجتمع، لم يكن من المجدي محاربتهم بالعنف والإقصاء، بل احترام وجودهم، والسعي إلى فتح حياتهم وعقولهم، وليس التعامل معهم على أساس أنّهم خطرٌ على مستقبل البلاد ليس أكثر. الخطر هو في تعمية العقول والضمائر، وجعل الناس لا يرون في الآخر غير العدوّ، الذي تُعدّ محاربته نوعاً من الجهاد المُقدّس ترخص النفس في سبيله، وكلّ طرف اختصر الوطن والوطنية في شخصه.
التغيير والوطن المنشود لا يُبنى بالشماتة، بل بإعداد المجتمع كي يكون قوياً وقادراً على البناء، ومواجهة الأخطار الخارجية والداخلية، أن يكون لديه مشروعٌ مستقبلي له مرتكزاته القوّية في الواقع، التغيير لا يكون إلّا بالفهم السليم المبني على أسس سليمة وليس على الأوهام والتضليل، وهذا يحتاج إعلاماً نزيهاً، في الدرجة الأولى، كي لا تضيع بوصلة الشعب أكثر ممّا هي ضائعة.
المصدر: العربي الجديد