في الـ 29 من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لم يخطر ببال غيوم موريس، أحد صحافيّي البرنامج الساخر في الراديو الحكومي فرانس إنتر، أن تتسبّب فكاهته، في مناسبة عيد هالوين، بالضجة الواسعة، التي يعيشها المشهد الإعلامي الفرنسي، منذ ذلك الحين. في حلقة ذلك اليوم، علّق غيوم بالقول إنّ القناع الذي يمكن شراؤه في هذه المناسبة هو قناع بنيامين نتنياهو “النازي المختون”. وقد قامت الدنيا ولم تقعد بعد، إذ استدعي الصحافي من الشرطة القضائية، بناءً على دعوى “شتم وتحريض عنصري”، رفعها المحامي ويليام كولدنادل، رئيس جمعية الصداقة الإسرائيلية الفرنسية، والمُعلّق الدائم في القناة اليمينية المُتطرّفة والعنصرية “سي نيوز”، التي تلقّفت الموضوع لتصبّ الزيت على النار، كعادتها. لكنّ حُمّى الشيطنة والتجريم لم تقتصر على الإعلام المُهيمن، بل تعدته إلى مقاعد الجمعية الوطنية، وبعض نوّابها، منهم النائب العنصري مئير حبيب (الصديق الحميم لنتنياهو)، الذي وصف الصحافي بالحشرة الصغيرة المُعاديةِ للساميّة، وسبق له أن وصف الفلسطينيين بالسرطان، من دون أن تُوجّه له أيَّ تهمةٍ واضحة بالعنصرية (؟) تبع ذلك سيلٌ هائل من الرسائل امتلأت بها وسائل التواصل الاجتماعي، تُهدّد موريس بالقتل، وتشتمه بأقذع الشتائم، إضافة إلى رسائل صوتية عنصرية، بُثّت إحداها في البرنامج، تتمنى له القتل بيد “البونيول”؛ وهي كلمة عنصرية تستعمل لوصف العرب. وفي السادس من نوفمبر/تشرين الثاني، استجوبت الشرطة القضائية الصحافي ساعتيْن، ودارت الأسئلة حول من هو أكبر نازي، وما إذا كان يهودياً. ورغم أن استجواب الشرطة للصحافي قد تم وهو في انتظار الحكم النهائي، إلا أنّ مديرة الراديو طلبت منه أن يُقدّم اعتذاراً عن جملته تلك، فرفض ذلك، قائلاً إنّه صحافي ساخر، وإنّ الراديو يدفع له مقابل هذه المهنة، وفي حال صدور حكم عليه من القضاء فهو يحترم ذلك، وإن لم يصدر أيُّ حكم فهو بريء، والبريء لا يعتذر. ولحسن الحظّ، فإنّ القضاء أغلق القضية نهائياً، ليعود غيوم إلى عمله. وفي أول برنامج له، بعد هذا الحادث، علّق موريس بالقول إنّ الشرطة القضائية اعتبرت جملة “نتنياهو نازي مختون” مسموحاً بها، وهي أول فكاهة لي يسمح بها القانون، لكنّ صدى هذا التعليق الجديد، والصحيح في الوقت نفسه، كان أسوأ وقعاً على أصدقاء المجرم نتنياهو، الذين هاجوا وثاروا من جديد، مُعتبرين كلامه معاداةً للساميّةِ بحجّة أنّ “الختان خاصّ باليهود”، وفي الحال، قامت مديرة الراديو الحكومي بتعليق خدمات صاحب أجمل الفكاهات، بانتظار مقابلة أولية لتسريحه من الخدمة.
في بلد “أنا شارلي” وبلد التظاهرة العالمية، التي دعت إليها حكومة فرانسوا هولاند من أجل حرّية التعبير في عام 2015، بعد عملية الإرهاب المشبوهة، التي طاولت صحيفة شارلي إيبدو عقب نشرها الكاريكاتير المُسيء للرسول، اختفت أصوات المدافعين عن حرّية التعبير، تماماً، من القنوات والصحف والمجلّات (!) لم يظهر أيُّ صوتٍ من عشرات الأصوات التي ارتفعت غاضبة لتقول: إنّنا في بلد حرّية التعبير، كما لم نرَ أيَّ حملةٍ إعلامية منهم تندّد بملاحقتها أو التضييق عليها، منذ بدء حرب الإبادة الصهيونية، بل الأدهى أنّ لا أحد يتجرأ على مواجهة الإرهاب الإعلامي، الذي تقوده قنوات اليمين المُتصهين وأصدقاؤه، ولا الاعتراضِ على إلحاح صحافيين كُثر، والضغوط التي يمارسونها في البث المباشر على ضيوفهم لإجبارهم على وصف “حماس” بالمنظّمة الإرهابية، لتبيان مواقفهم، وإلا فهم مدانون بدعم “حماس” وتمجيد الإرهاب، وهم معادون للساميّة. وبدلاً من اتخاذ الحكومة إجراءات لاحترام حرّية التعبير، كما فعلت قبل سنوات، إلا أنّها استنفرت، وعمّمت في أنحاء البلاد ترسانة قانونية تُجرّم كلّ من يدعم الشعب الفلسطيني وحقوقه، ولو بطباعة منشور صغير، كما حصل مع نقابي كبير، حتّى وصل عدد المُتّهمين بـ “تمجيد الإرهاب” إلى ثلاثمائة شخص، وهو ما لم يحدث قط في تاريخ فرنسا. إذ يشهد تاريخ القرن العشرين، وبداية هذا القرن، مسارعة الرموز الثقافية والفكرية والعلمية والنقابية الفرنسية، إلى تبنّي قضايا الشعوب المظلومة والمُستعمَرة والسلام في العالم، ما زال التاريخ يحفظ لنا موقف جان بول سارتر، الذي رفض استلام جائزة نوبل من المعسكر الإمبريالي المناهض لحرّية الشعوب، وتوقيعه، وغالبية النُخَب، عريضة الـ 121 المشهورة، التي وقفت ضدّ التعذيب في الجزائر، حتّى إنّ الجنرال ديغول رفض أن تعتقل الشرطة سارتر، قائلاً: “هل يسجن فولتير؟”. وتصدّرت النُخَب الثقافية والأكاديمية الفرنسية، عالمياً، الموقف ضدّ الحرب في فيتنام، وبشكل أوسع وأكثر أهمّية، ضدّ غزو العراق. اليوم، ورغم تحذيرات المحكمة الجنائية الدولية من إبادة جماعية في غزّة، أصبحت مُؤكّدة، ومشاهد حرب الإبادة المُستمرّة منذ نحو ثمانية أشهر، ونصرة دول العالم للشعب الفلسطيني، فإنّ من كان يعطي دروسَ حرّية التعبير هو نفسه اليوم من يمنع هذه الحرّية عن الفرنسيين، نُخباً وشعباً، بهدف إسكات الصوت الفلسطيني، والصوت الداعم له.
مع وصول نيكولا ساركوزي إلى الحكم، والتحاقه المُتحمّس بحروب الولايات المتّحدة، ودولة الاحتلال، وإدخال فرنسا كاملة في منظومة حلف الأطلسي، لم تعد فرنسا صاحبة قيم الجمهورية وإرث السياسة الديغولية الميترانية، ولا بلد حرّية التعبير، كما كانت، بل حوّلها الرئيس الجديد، المُؤمن بالولايات المتّحدة ودولة الاحتلال، إلى ما سمّاه بـ “السياسة الواقعية”، لتكون جزءاً فاعلاً في حروب الولايات المتّحدة، وليبدأ بتنفيذ أجندة اليمين المُتطرّف الصهيوني لإنهاء القضية الفلسطينية في فرنسا، في مستوى الإعلام، وشيطنة المُسلمين وجمعياتهم، تمهيداً لإغلاقها، وهو ما تمّ، ليستمر ذلك في حقبة فرانسوا هولاند. خلال حقبتيْن رئاسيتيْن لم تكن التناقضات واضحة مع الإرث القديم، الذي ما زال الفرنسيون يحنّون إليه ويتذكرونه بحسرة، لكنّ الموقف الجديد من “طوفان الأقصى” ومن الحقّ الفلسطيني أسهم في انفجار التناقضات، والتلاعب بالمعايير، أمام الرأي العام المحلّي والعالمي، وفرز الفضائييْن السياسي والإعلامي بشكل واضح، فانفضحت مشاعر التعالي والعنصرية، والعقلية الاستعمارية المتزايدة، في أوساط تمثّل العولمة ومصالحها، تزحف منذ بضعة عقود للهيمنة، ولابتلاع واستثمار كلّ فضاء لا يتماشى مع خطابها، الذي استقرّت له الهيمنة في هذا العهد، بدءاً بالإعلام، الذي ربّما نشهد نهاية تعدّديته بالكامل مع تسريح إدارة الراديو الحكومي الأصوات غير المنسجمة مع الخطاب الصهيوني.
منذ وصوله إلى الحكم، يكمل الرئيس ماكرون وحكومته، وبمختلف الطرائق، ما بدأه نيكولا ساركوزي، لإنهاء وجود قضية اسمها فلسطين في فرنسا، مستخدماً المستشارين الذين اعتمدهم ساركوزي. بعد منع المظاهرات في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ومن ثمّ السماح بها، تُقمع، اليوم، المظاهرات الطلابية، من السوربون إلى معهد العلوم السياسية، وتمنع المؤتمرات بشأن فلسطين، التي تحضر فيها ريما حسن، المُرشّحة من أصل فلسطيني للانتخابات الأوربية، وقبل أيام، منع الطبيب غسان أبو ستّة من دخول فرنسا لإلقاء كلمة في الجمعية الوطنية، فبقي في المطار، ولم تسمح السلطات بدخوله، لكنّه، وبفضل الداعمين ونُخبَةٍ من المحامين ونوّاب حزب فرنسا الأبية، تمكّن من توجيه كلمته. إنّ تشريع ملاحقة ومنع حرّية التعبير، ومن ضمنها الفكاهية ونكات طلاب المرحلة الابتدائية، والتضامن مع غزة والقضية الفلسطينية، تتناقض كلّياً مع الخطاب الرسمي الحالي لوزارة الخارجية الفرنسية في المؤسّسات الدولية، كمجلس الأمن والأمم المتّحدة والمحكمة الجنائية الدولية، إذ تدعو فرنسا إلى وقف الحرب وإلى حلّ الدولتين.
ملاحقة فكاهة الصحافي غيوم موريس، الشخصية المحبوبة لدى الفرنسيين، بتهمتيْ التحريض العنصري ومعاداة الساميّة، جعلت مجموعة من الأكاديميين والسياسيين وأساتذة الجامعات يقطعون صمتهم للمرّة الأولى، ويتكلّمون عن “مكارثية”، تجنّبوا عدّة أشهر الكلام فيها، خوفاً على مناصبهم ومواقعهم، وسمعتهم في محيط العمل أو في الحياة، التي تهددها اتهامات جاهزة من الأوساط الصهيونية والحكومية، إذا ألصقت بهم لا يمكن الفكاك منها، كما حصل مع شخصيات أكاديمية وكُتّاب بارزين، منهم من عاد يتكلّم عن جرائم الحرب، بعد محاربته أكثر من عشرين عاماً، مثل رئيس معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، باسكال بونيفاس، ويفنّد ادعاءات الداعمين لدولة الاحتلال في الإعلام مثل برنار هنري ليفي، الذي صرّح بعد زيارة لجيش الاحتلال، في قنوات عدّة، أنّه رأى جيشاً أخلاقياً أول همه المدنيون، ليردّ عليه بونيفاس بفيديو سمّاه “خدمات بعد البيع”، يسخّف فيه ادّعاءات ليفي وأكاذيبه، داعياً إلى احترام الحقّ الفلسطيني، ومذكراً أنّه قد آن الأوان، بعد كلّ التضحيات والتنازلات التي قدّمها الشعب الفلسطيني، والعربي، لدولة الاحتلال، التي ترفض في كلّ مرة دعوات السلام، لمنحه دولته المستقلّة في حدود 1967.
قالت مديرة الراديو الحكومي، بخصوص تسريح مجموعة من الصحافيين في الراديو الحكومي: “إنّ بعض الصحافيين يعملون وكأنهم حزبيون”، متناسية أنّها أيضاً تخضع لخطاب حزبي فئوي، ويميني مٌتطرّف، يريد أن يتوسّع، وينهي التعددية في الإعلام بحجّة معاداة الساميّة. يقول دانييل ميرميه، أحد كبار الصحافيين المعروفين، والذي أعفي من الخدمة بسبب بثّ رسالةِ مستمعٍ متضامنةٍ مع الشعب الفلسطيني خلال الانتفاضة الثانية، “إنّ ملاحقة غيوم موريس انتقام من كلّ صحافي يساري”. وهو ما يُفسّر التنظيف الأيديولوجي الذي تقوم به إدارة الراديو الحكومي، الذي شمل جميع المعروفين من اليساريين، بالتحديد الفريق الباقي من العاملين سابقاً مع ميرميه، ليكونوا عبرة ومثلاً للباقين. ممارسات منظّمات الضغط الصهيونية في أميركا، كما في فرنسا والعالم، تقتل بخبث الأبرياء بقطع مصدر عيش من ينتقد دولة الاحتلال العنصري، ويتجرأ يوماً على الوقوف في جانب الشعب الفلسطيني. أساليب انكشفت للعالم بفضل عملية طوفان الأقصى، والصمود الأسطوري لأهل غزّة، وشعبنا الفلسطيني، ومقاومته.
المصدر: العربي الجديد
حرية التعبير ، وحرية الرأي أصبحت مسألة نسبية لدى الأنظمة الغربية، حتى الفكاهة عندما تصيب أحد قادة الكيان الصهيوني تكون تهمة معاداة الساميّة جاهزة، أما عندما تصيب أحد الرموز الدينية الإسلامية أو المسيحية فهي حرية التعبير وحرية الرأي، أي عهر سياسي تمارسه هذه الأنظمة الغربية ليصبح الصهاينة آلهتهم لا يجوز الإقتراب منها.