فقدت سورية ابناً باراً كان يتطلع لسورية حرةٍ ديمقراطية، يتطلع لكرامة الإنسان السوري التي سحقها آل الأسد، وقد كان رحمه الله فارساً بأخلاقه، يتمتع بأخلاق الفروسية من الشهامة والأنفة والغيرة والشجاعة، تابعناه صغاراً وأحببناه وعاشرناه كباراً، فكان مثالاً يُحتذى بالأخلاق، والعلم، والجد، والنضال.
محمد أحمد فارس رائد الفضاء السوري ولد في حلب في 26-5-1951. ويعد محمد فارس أولَ رائد فضاء سوري والثاني عربياً، صعد للفضاء ضمن برنامج الفضاء السوفييتي، للمحطة الفضائية مير في تاريخ 22 تموز عام 1987 مع اثنين من رواد الفضاء الروس ضمن برنامج للتعاون في مجال الفضاء بين سورية والاتحاد السوفيتي آنذاك، وقد أطلق اسم مير على ابنه الأصغر الذي ولد في ذلك الوقت.
ومُنح محمد فارس وسام لينين، وكان يُلقب بالأوساط العربية والسورية أرمسترونغ العرب – نسبة لرائد الفضاء الأمريكي الأول نيل أرمسترونغ – وشارك محمد فارس في الترتيب والإعداد للرحلة مع مجموعة من زملائه وخضع لعدة اختبارات في سورية ومن بعدها في مدينة النجوم في روسيا، وكانت رحلة فضائية علمية مشتركة بين سورية والاتحاد السوفيتي وهي الرحلة الفضائية السورية السوفيتية التي أطلقت إلى الفضاء الخارجي بتاريخ 22-7-1987 بواسطة المركبة الفضائية SOYUZ – M3.
أنجز رائد الفضاء السوري محمد فارس خلال الرحلة ثلاث عشرة تجربة علمية تمت في الفضاء على متن المركبة الفضائية، وعدة أبحاث في مجالات صناعية وجيولوجية وكيميائية وطبية في الرصد الفضائي والاستشعار عن بعد تم الإعداد لها في سورية، والتجارب هي:
تجربة حركة الدم في جسم الإنسان ومدى تأثرها بالأجواء المحيطة في الفضاء، وتجربة مراقبة القلب بواسطة جهاز خاص لرصد وقياس التغيرات.
تجربة مدى تأثير الفضاء على رواد الفضاء، وتجربة لها علاقة بالمعادن وخلط المعدن.
تجربة الموصلات الإلكترونية التي تدخل في مجال الصناعات الإلكترونية.
تجربة دراسة الطبقات الجيولوجية للأرض في سورية من ارتفاع 300 كم.
تجربة دراسة الأحواض المائية في سورية من الفضاء الخارجي.
تجربة دراسة أنواع التربة.
تصوير سورية من الفضاء الخارجي بواسطة كاميرات خاصة.
يتحدث هو عن الرحلة عندما قال: طفق العدّ التنازلي لانطلاق المركبة الفضائية السوفييتية نحو الفضاء. كانت الدقائق الأخيرة أطول وقت مرّ عليّ في حياتي، لا سيما الدقيقة الأخيرة، التي تمددت وطالت في تقديري حتى صارت بالنسبة إليّ كأنها دهر. كان قلبي يدقّ في تلك الأثناء بسرعة وكأنه في سباق مع تكتكة الساعة. إذ لا تزال تكتكاتها تتردد في مهجتي إلى يومنا هذا! كنت أحدّث نفسي: “يا إلهي ما أطول هذه الدقيقة!
هاجمتني الأفكار والهواجس، وتزاحمت في مهجتي الذكريات والأحاسيس. وأنا أحدّق في السّاعة مشدُوهاً: “أحلمٌ هذا أم حقيقةٌ؟!” ثم ابتسمت في محاولة للسيطرة على القلق الذي كان يختلج في صدري، وأنا أهمس في قرارة نفسي مشجّعا إيّاها: “كن هادئاً، يا محمد! فكلّ ثانية تمرّ تقرّبك من حلمك أكثر فأكثر”.
رنوت إلى الساعة تارة أخرى: “لم يتبق إلا خمس ثوان.”…
خمسة.. أربعة.. ثلاثة.. اثنان.. واحد…
فجأة، وقع انفجار هائل، فانطلق على إثره الصاروخ، مخلّفا وراءه كتلة عظيمة من النّيران، وسحابة هائلة من الغبار الكثيف الذي غطّى الأفق. أخذ الصاروخ يمخر عباب السماء متوجها إلى الفضاء السحيق بسرعة هائلة مخترقا طبقات الجو صعودًا طبقة طبقة…
أحسست برعشة تسري في أوصالي، فانتابني إحساس غريبٌ. صحت مبتهلا: (يا الـلّــه.. يا الـلّــه!!) لقد تحقق الحلم.
ومازال حلمي الأكبر رؤية بلدي الغالي حراً كريماً.. (انتهى كلامه).
عندما حوصرت مدينة حلب و في وقت الحصار رتبنا للقاء عدد من المبعوثين الدوليين بخصوص حلب وما يجري فيها، فكان في اللقاء مساعدة المبعوث الأمريكي، و حضر المبعوث البريطاني غارث بيلي وعدد من المبعوثين الدوليين، وذهبنا بوفد من أجل اللقاء والحديث عن حلب وما يجري فيها، وقدمنا اللواء محمد فارس على رأس الوفد للحديث فهو أهم شخصية في الوفد قدراً ومكانةً حتى في قلوب السوريين والحلبيين، فتحدث بكلمات تشعر فيها بصدق بحب بلده وحرقته وعشق مدينته، وتحدث عن السوريين الطيبين الذين يتضامنون مع كل المظلومين في العالم تاريخياً، ويحبون الضيف الذي يزورهم من دول أخرى، وعن حلب وإرثها الحضاري وما يحصل من تدمير ووحشية على أعين العالم والمجتمع الدولي لكل ذلك.
وتحدث المبعوثون عن دعوات لمجلس الأمن بخصوص حلب.
محمد فارس مثال الإنسان النبيل، وقد كان هو وأحد أفراد عائلتي أصدقاء يجمعهم سلاح الطيران وهو قائد القوى الجوية اللواء علي ملاحفجي ورائد الفضاء اللواء محمد فارس، وكلاهما أصبحا الآن عند الرفيق الأعلى، وكثيراً ما تحدث اللواء علي عن محمد فارس قبل أن نعرفه عن قرب بأنه أكثر ضباط الطيران تميزاً في السلاح الجوي، وأنه طموح ومُجد، ومثابر، ونظيف اليد والسمعة، وتميز على أقرانه المرشحين لرحلة الفضاء تميزاً كبيراً أهله للرحلة ونيل وسام لينين في الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت.
لكن محمد فارس قد تعرض للتهميش بعد الرحلة الفضائية، نتيجة الشهرة والحب الذي ناله من السوريين، فهو ابن مدينة حلب المعاقبة من قِبل النظام، والتي دخلت عصيانا مدنيا ضد حافظ الأسد أوائلَ الثمانينيات، والتي استقبلت محمد فارس بحفاوة كبيرة في مطار حلب وبحشود واسعة وهو خارج أسرة آل الأسد، وهذا في سورية محل إشكال.
فالظهور والمميزات والأضواء ينبغي أن تُسلط في الجملوكية السورية على حافظ الأسد وأسرته فقط، فصوره وشعبيته فقط ينبغي أن تسود وليس أحد آخر يلتف الناس حوله.!!
فأُقصِي محمد فارس عن الميدان العلمي البحثي وعن الأضواء، فهو صاحب رتبة عسكرية ومميزاتها لكن دون دور حقيقي فاعل سواء بسلاح الطيران أو البحث العلمي.
طبعاً نموذج محمد فارس وغيره من السوريين الوطنيين نموذج متكرر، سواء في السلك العسكري أو السياسي، حيث كانوا يعملون بحب من أجل بلدهم وحمايتها وصونها وازدهارها فلا سبيل للديمقراطية في هذا البلد، لكن هؤلاء الشباب لديهم طموح وحب للنجاح والمجد وحب لوطنهم، فهم أبناء الدولة والمؤسسات الذين تدرجوا بجدارة فيها، وليسوا أبناء النظام ولا من ذوي الحظوة لديه.
محمد فارس وقف مع أبناء وطنه بمطالبتهم للتغيير، وكان يرفض الحلول الترقيعية وأي طريقة عمل غير مؤسساتية، وأنّ هذه الطريقة لا تكافئ التحدي، ولا تحقق المطلوب وأنه لابد من مؤسسة عسكرية ومؤسسة سياسية حقيقية تقابل النظام وهي تنشد التغيير.
ما عليك إلا أن تتابع أي مقطع فيديو يتحدث فيه محمد فارس إلا وترى بلهجته الحرص والصدق والإصرار والحب لبلده وأبناء بلده.
رحل عنّا محمد فارس لكن نتاجه العلمي و اسمه بقي فينا وقد احتضنه تراب بلده الذي أحب فدفن في اعزاز – حلب في موكب مهيب من محبيه عسكريين ومدنيين، ونأمل اليوم الذي يتحقق فيه حلم الوطني الرائع محمد فارس بأن تتخلص سورية من الاستبداد والديكتاتورية وتنتقل انتقالاً ديمقراطياً حقيقياً.
المصدر: الوعي السوري
قد لا يعبر المقال عن رأي الموقع