تحسين العلاقات الأميركية ـ التركية.. المفاتيح في سورية

ترجمة: ربى خدام الجامع

كان من المقرر أن يزور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان واشنطن في شهر أيار بعد فترة طويلة من البرود بينه وبين الرئيس الأميركي جو بايدن، ولكن في الوقت الذي ألغيت فيه الزيارة رسمياً بسبب مشكلات في جدولة المواعيد، لعبت الخلافات بشأن النزاع في غزة دورها في الوصول إلى هذا القرار، وعلى الرغم من ظهور زخم كبير مؤخراً في العلاقات الأميركية-التركية، يؤكد هذا الوضع بأن تحسين مجالات التعاون لا يكفي للحفاظ على العلاقات الثنائية.

من المهم أن تتغلب الولايات المتحدة وتركيا على هذه الاختلافات لأن الحكومتين بحاجة لتمتين تحالفهما، خاصة فيما يتعلق بسوريا.

في الوقت الذي يعد الوضع في سوريا أهم أولوية أمنية لدى تركيا، لم يحظ الأمر بكبير اهتمام من الولايات المتحدة، أي إن الوضع بات بحاجة إلى تغيير، إذ يجب على كلا البلدين أن يركزا من جديد على حل الخلافات التي تتصل بسوريا، حتى لا تنفجر تلك الخلافات في نواح جديدة من التوتر الكبير الذي يشوب العلاقات الثنائية.

حقائق أساسية

تقوم الفروقات في الأولويات بين الولايات المتحدة وتركيا في سوريا على حقائق أساسية، إذ تركز كلتا الدولتين على محاربة الإرهاب والتهديدات غير التقليدية لسياستهما الخارجية، بيد أن أهدافهما تختلف، إذ في سوريا، ركزت الولايات المتحدة بشكل رئيس على محاربة “تنظيم الدولة”، كما حاربت تركيا “تنظيم الدولة” بصورة مباشرة، لكنها اعتبرت النهج الأميركي المعادي للإرهاب تهديداً لأمنها القومي، فشراكة الولايات المتحدة مع وحدات حماية الشعب التي تعتبر الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف كتنظيم إرهابي، أصبح مصدر القلق الأكبر على أمن تركيا من وجهة نظر أنقرة.

إضافة لذلك، اتهم الشارع التركي والسياسيون الأتراك فصيلاً يدعمه الزعيم الديني التركي فتح الله غولن الذي يعيش في بنسلفانيا الأميركية بمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016، وهذا ما وتر العلاقات بين البلدين. وفي سياق منفصل، تحولت الصفقة التركية لشراء نظم دفاع جوي روسية من طراز إس-400 إلى شيء من فض الاتفاق مع الولايات المتحدة التي أخرجت تركيا من برنامج الطائرات الحربية من طراز إف-35، وفرضت عقوبات جديدة بموجب القانون لتستهدف وبصورة أساسية خصومها الأجانب الذين ليسوا أعضاء في حلف شمال الأطلسي.

في هذه الأثناء، انقلبت محاولات تركيا لتطبيع العلاقات مع جيرانها رأساً على عقب بسبب الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في عام 2022، وأيضاً بسبب هجوم حماس على إسرائيل في السابع من تشرين الأول عام 2023، وعلى الرغم من الاختلاف بينهما، فإن هذين النزاعين دفعا الولايات المتحدة وتركيا لتقييم تحالفهما بشكل أكبر.

منذ بدء الحرب على أوكرانيا، أقامت تركيا والولايات المتحدة مستوى جديداً للتعاون، ليتجاوز صفقات طائرات إف-16 وليشمل تأمين البحر الأسود وتقديم الدعم لأوكرانيا، فضلاً عن التعاون في مجال صناعة الدفاع، فقد شملت المساعدات التركية لأوكرانيا المسيرات المسلحة والقنابل العنقودية، كما فرضت تركيا اتفاقية مونترو التي تسمح لأنقرة بتنظيم مرور السفن العسكرية عبر مضائقها في زمن الحرب، وزودت حلف شمال الأطلسي بقذائف من عيار 155 ملم، وحمت المجال الجوي لدول حلف شمال الأطلسي في منطقة البحر الأسود، كما سهلت توقيع اتفاقية الحبوب بين أوكرانيا وروسيا منعاً من ظهور أزمة غذاء عالمية.

ومؤخراً، لعبت العلاقات الأميركية-التركية دوراً مهماً خلال التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران، حيث تصرفت تركيا كوسيط لمنع قيام حرب إقليمية بين الولايات المتحدة وإيران وللحد من الردود القائمة على مبدأ العين بالعين من طرف إيران وإسرائيل، وعلى الرغم من أن النزاع في غزة بوسعه أن يدمر العلاقات الأميركية-التركية، يجب على أنقرة وواشنطن أن تستوعبا بأن حل هذه الحرب لا يعتمد بصورة رئيسة على العلاقات الثنائية بينهما، بل من خلال حل وقف إطلاق النار على المدى القريب، وحل الدولتين على المدى البعيد.

الأحجية السورية

حددت تركيا والولايات المتحدة مجالات التعاون بينهما، إلا أن خلافاتهما ماتزال بحاجة لحل، ثم إن الوضع في سوريا مقلق بشكل كبير، بما أن أي تصعيد جديد يمكن أن يعيق التقدم الذي أحرزته العلاقات الأميركية-التركية مؤخراً، كما قد يجبر صناع القرار الأتراك على معالجة خطر أمني وشيك وغير تقليدي بات على أعتاب تركيا.

في حال عدم تقديم الولايات المتحدة أي حل للأمور التي تقض مضجع تركيا وأمنها القومي، عندئذ قد تستغل روسيا وإيران هذا السيناريو وتستخدمان سوريا مرة أخرى لممارسة الضغط على تركيا. إذ في نهاية الأمر، تود كل من روسيا وإيران أن تعيدا تأكيد سيطرتهما الكاملة على الأراضي السورية لصالح بشار الأسد مع إخراج تركيا من اللعبة.

حالياً، ثمة أكثر من أربعة ملايين سوري يعيشون في شمال غربي سوريا، لذا في حال طرأ أي تصعيد في النزاع، أو في حال الاستهداف المتعمد لمخيمات النازحين في الداخل على الحدود السورية-التركية، فإن ذلك سيؤدي لظهور موجة هجرة باتجاه تركيا. ولقد حذرت الأمم المتحدة في عام 2019 من أن أي تصعيد عسكري في محافظة إدلب قد يتسبب بنزوح نحو مليوني شخص، ثم إن تركيا بالأصل لديها أكبر عدد من اللاجئين في العالم، ومع ازدياد المشاعر المعادية للاجئين في البلد تصبح أي موجة لجوء جديدة كارثية بالنسبة للسياسة الداخلية التركية. كما أن الجنود الأتراك موجودين حالياً على الأرض في تلك المنطقة، وطالما احتفظت روسيا بتفوقها الجوي في شمال غربي سوريا، هنالك خطر يتمثل بتعرض الجنود الأتراك للأذى. فروسيا مسؤولة بشكل مباشر عن مقتل جنود أتراك في حوادث متعددة، كان أفظعها الحادث الذي وقع في عام 2020 عندما قتل 34 جندياً تركياً بغارة جوية واحدة نفذها النظام السوري خلال الحملة العسكرية الروسية- السورية على المنطقة (وقد ذهب مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي السابق وبعض الضباط الأتراك الذين لم يعلنوا عن أسمائهم إلى أن روسيا كانت وراء هذا الهجوم، بيد أن روسيا أنكرت مسؤوليتها عن تلك الغارة).

ومن وجهة نظر أميركية، تعني مسألة الاحتفاظ بالوضع الراهن في سوريا استمرار “الإدارة الذاتية” في شمالي وشرقي سوريا والتي أنشأتها “قسد”، والتي عزمت تركيا على تدميرها، بيد أن وحدات حماية الشعب تسيطر على المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية من خلال عقيدة الحزب الاشتراكي الواحد، لذا فإنه مع كل يوم يمر ثمة خطر يهدد بعمل عسكري تركي جديد، بيد أنه من غير المجدي لتركيا والولايات المتحدة أن تعولا على دوام الهدوء النسبي السائد حالياً في سوريا.

لذا، ولتحقيق تقدم في هذا المضمار، يجب على كلتا الدولتين أن تفكرا بشكل أعمق، وذلك لأن نقاط الحوار التي سيطرت على العلاقات الأميركية-التركية خلال العقد الفائت لم تعد صالحة اليوم، إذ بدلاً من التركيز على محاربة الإرهاب فحسب، لابد من التفكير بأفق جيوسياسي أرحب، وهذا التحول يعتبر مهماً لأنه يتيح لأنقرة وواشنطن أن تدخلا في حوار أهم من الناحية الاستراتيجية، وهذا من شأنه أن يمهد الطريق للتوصل إلى حلول على المدى البعيد تتجاوز مجرد الهموم التكتيكية الآنية، فقد حان الوقت ليجتمع رئيسا كلتا الدولتين ويظهرا إقدامهما وشجاعتهما في رسم مسار جديد.

وإنها لخطوة مهمة وإيجابية في حال تم التوصل لاتفاق بشأن سوريا، حيث تتمتع روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة بوجود عسكري حالياً. وعلى الرغم من التعاون القائم بين إيران وروسيا، وجدت الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي نفسها على طرفي نقيض وهي تحاول أن تخلق حالة توازن إزاء تحالف طهران وموسكو بمفردهما، وفي الوقت الذي خصصت فيه الولايات المتحدة مبلغاً قدره 61 مليار دولار لصالح أوكرانيا، و26 مليار دولار لصالح إسرائيل، يبدو من الخطأ بالنسبة لها أن تفكر بالانسحاب من سوريا، ويبدو بأن الخلاف الأميركي-التركي في سوريا بشأن التكتيكات والأولويات في محاربة الإرهاب في غير موضعه.

لذلك، من المفيد لصناع القرار أن يتعاونوا على إيجاد نهج مشترك يعمل على توحيد مجالات النفوذ التركي والأميركي في سوريا، إذ بوسع الولايات المتحدة أن تستبدل دعمها لوحدات حماية الشعب بتولي الجيش التركي لمعظم مهام الجنود الأميركيين الموجودين في سوريا، مع حفظ مكاسب “الكرد السوريين” في ذلك البلد. ومن خلال هذا السيناريو، يمكن للولايات المتحدة أن توكل مهمة إدارة أسرى “تنظيم الدولة” وعائلاتهم للعرب في سوريا ولتركيا، مع إشراف الولايات المتحدة على هذه العملية.

وهذا ما سيحول النزاع السوري من معركة على ثلاثة أصعدة إلى معركة على صعيدين، بما يمهد الطريق أمام التوصل لحل سياسي. فلقد حدد قرار مجلس الأمن رقم 2254 الفترة الانتقالية بين النظام والمعارضة، غير أن الولايات المتحدة تدعم حالياً فصيلاً ثالثاً، ألا وهو قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية التي تنتمي لوحدات حماية الشعب، وهذا لا يعتبر جزءاً من الحل، بل يساعد روسيا وإيران بشكل غير مباشر على قطع الطريق أمام العملية السياسية.

إن اتفاقاً على هذه الشاكلة قد يؤثر بصورة إيجابية على حلف شمال الأطلسي، لكونه يحمل بين طياته أهمية جيوسياسية هائلة، وذلك لأن حل الخلاف في سوريا يعتبر تقدماً كبيراً مفاجئاً، وبعد استعادة الثقة بين الدولتين وتحويل سوريا من حالة خلاف إلى حالة تعاون، يصبح بإمكان كلتا الدولتين العضوتين في حلف شمال الأطلسي تعزيز تعاونهما ضمن مجالات أخرى وذلك للمضي قدماً في تحقيق مصالح تحالفهما. وضمن سياق الشرق الأوسط، يمكن لهذا الاتفاق أن يمهد الطريق لتحسين التعاون بين تركيا والولايات المتحدة في العراق.

إن إلغاء زيارة أردوغان ما هو إلا عرض من الأعراض التي تشير إلى وجود مشكلة أكبر، إذ يجب على أنقرة وواشنطن أن تتبنيا منظوراً أوسع وأن تعربا عن رغبتهما بتقديم تنازلات استراتيجية لإدارة وحل المشكلات التي تفرقهما، وتتطلب الطبيعة المتغيرة للنزاعات في هذه المنطقة نهجاً جديداً يعمل على تقييم التحالفات التقليدية مع الاعتراف بالوقائع الجيوسياسية الجديدة.

تعتبر سوريا المفتاح لإقامة علاقات مستقرة وقوية، إذ من دونها لن تتمكن تركيا والولايات المتحدة من تحقيق أهداف العلاقة القائمة بينهما، كما يمكن لأي تصعيد إقليمي جديد أن يقوض كل هذا التقدم الحاصل مؤخراً في تلك الشراكة، ولهذا ينبغي على أنقرة وواشنطن ألا تسمحا لذلك بأن يحدث.

 

المصدر: موقع تلفزيون سوريا/ الاتلانتيك

 

ليس بالضرورة أن يعبر المقال عن رأي الموقع

زر الذهاب إلى الأعلى