تحوّلات تلفيقيّة لمنطقة في قلب المَخَاض

غازي دحمان

تشهد المنطقة تحوّلاتٍ لافتة في مجالات الاستثمار والمال، وتزدهر عمليات الاستثمار في خطوط المواصلات والنقل، مع انفتاح المنطقة على مشاريع ربط الجغرافية القارّية بعضها ببعض، بالإضافة إلى الاستثمارات القائمة على إنشاء مراكز حضرية ضخمة، تتلاءم مع التطوّرات في قطاعات الذكاء الاصطناعي، والرقمنة، والسياحة العابرة، وهي مشاريع بدأت دول المنطقة تتسابق على إنجازها، وذات طبيعة عابرة للسياسة ومشاكلها.

تشكّل المنطقة حلقة لوجستية مترابطة ومتكاملة، ونجاح أيّ مشروع يستدعي انخراطَ كامل الجغرافية الإقليمية فيه، ما يستدعي تبريد بُؤر التوتّر والتوصّل إلى مقاربات جديدة للعلاقات بين الفاعلين المُختلفين، وهو المسار الذي أصبح ملحوظاً في المنطقة، سواء من خلال قيادة دول إقليمية له أو عبر التنافس الحاصل بين المشاريع الجيوسياسية العالمية، وما تطرحه من مزايا، وتنطوي عليه من تفضيلات للأطراف الإقليمية، وخاصّة في ظلّ الرغبة في تقاسم المنافع والأرباح بين مختلف المنخرطين في هذه المشاريع. تتطلّب هذه المشاريع، إجراء تحوّلات في البيئة الإستراتيجية للمنطقة، والانتقال من الصراع إلى التنافس والتعاون، وهذا يستدعي، بدوره، المزامنة مع تحوّلات واسعة في البنى الثقافية والإدراكية لمجتمعات المنطقة، التي تشكّل حوامل طبيعية لمشاريعَ بهذا الحجم، كما يستدعي ذلك إعادة صياغة التركيبة المجتمعية، وإجراء هيكلة جديدة لها، من خلال توسيع الطبقة المتوسّطة وتعزيز أدواتها، وترسيخ منظومتها القيمية، وهذا يستدعي توفير بنية تحتية ملائمة، بالإضافة إلى تأمين مبالغ ضخمة لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسّطة.

ولكن ذلك لا يبدو أنّه في حسابات “صُنّاع التحوّلات” في المنطقة، والواضح، أنّ الترتيبات الجارية، في هذا الإطار، تتبع مسارات مختلفة. أول هذه المسارات، تعزيز النُخب الاقتصادية المُسيطرة حالياً وزيادة ثرائها، إذ سيتم توزيع الكتلة الكبرى من عوائد هذه المشاريع بين الأطراف المستثمرة الخارجية، وأصحاب الشركات المحلّية الكبرى، التي ستؤمّن تنفيذ هذه المشاريع بطريقة أو بأخرى، كما أنّ المشاريع المطروحة هي في الغالب غير إنتاجية، مما يُحدّد قاعدة المُستفيدين منها بدرجة كبيرة، فهي إمّا مشاريع ترانزيت عابرة أو مُخصّصة للفئات العليا، في داخل البلاد أو من خارجها، مثل مشاريع الاستثمار في المدن والسياحة. هناك، ثانياً، تكريس النخب السياسية الحاكمة، إذ إنّ نجاح هذه المشاريع يستدعي وجود بيئة مُستقرّة أدواتها الأنظمة الحاكمة، ما يعني أنّ هذه المشاريع ستخلق انحيازاً إجبارياً إلى جانب نظم الحكم، مهما كان الموقف منها، على حساب الشعوب، بل ستكون مُستعدّة للانخراط في قمع أيّ حراكات تحصل ضدّ الأنظمة أو في أحسن الأحوال، تلفيق شكل من أشكال الحلّ السياسي. وأخيراً، الاتجاه إلى إخراج قضايا المنطقة الأساسية؛ القضية الفلسطينية والمسألة السورية، من المجال السياسي، وتحويلها قضايا داخليةً تخصّ الأطراف الحاكمة والمسيطرة على الحيّز الجغرافي، ومعالجتها وفق ما ترتئيه هذه الأطراف، في ظلّ وجود تململ دوليّ من مفرزات هذه القضايا، ورغبتهم في التخلصّ من تداعياتها وفق أيّ مُقاربة يكون لديها قابلية النجاح.

الواضح، أن حسابات مهندسي هذه المرحلة لمستقبل المنطقة تتوجّه نحو صياغة شكل جديد لها يقوم على أساس التوزيع الوظيفي لبلدانها، لتشكّل كلاً متكاملاً، يمكن من خلاله ترسيخ حالة الاعتماد المتبادل، وهو النمط الذي سبق تطبيقه في مناطق جغرافية أخرى، في آسيا وأوروبا، ومثّل القاطرة الأساسية، ليس للتنمية وحسب، ولكن لتجاوز مرحلة الصراع نهائياً بين الفاعلين الإقليميين، أيضاً.

بيد أنّ هذه الحسابات، ورغم شحنات الطموحات الزائدة، التي تنطوي عليها، ومحاولة صناعة مشروعية لها، تحت عنوان التنمية والازدهار، لا يبدو أنّها ستحقّق قدراً من النجاح، يتوازى مع الرهانات التي تقف خلفها، لماذا؟… أولاً، لأنّ فوائد هذه المشاريع لا توّزع بالتساوي بين الأطراف المختلفة في المنطقة، وهذا أمر طبيعي، إذ إنّ من يملك المقدرات الأكبر سيحوز على الحصص الأكبر من العوائد، وستتقلّص الفوائد، بل ربّما تصل إلى حدود الكفاف للأطراف التي لا تملك سوى الأصول الرأسمالية؛ الأرض والموانئ والأسواق. ثانياً، من الصعب أن تُغطّي هذه المشاريع المنطقة بالكامل؛ فهي بالأساس انتقائية، مثل مشروع الممر الهندي – الخليجي، الذي يُخرج دولاً ومراكزَ من مساره أو طريق التنمية العراقي، الذي يستثني الكويت وسورية. وكذا الأمر بالنسبة إلى طريق الحرير الصيني، كما أنّ المشاريع هذه، لا تنطلق من إطار سياسي أو اقتصادي، مثل الاتحاد الأوروبي أو “آسيان”، بل تقوم على تفاهمات ثنائية محدودة. ثالثاً، تسبق الحلول السياسية في المنطقة أزماتها المُتفجّرة، بل تكرّس الخلل الحاصل في أزماتها، بمعنى أنّها تضع العربة قبل الحصان، في حين أنّ الأولوية في هذا المجال تتمثّل بتهيئة البيئة الإستراتيجية لتوطين هذه المشاريع، وضمان نجاحها، لا الاتكال على رهانات لا يوجد في الأفق ما يدعمها، فلا قضية فلسطين ستنتهي بعد اجتياح رفح، ولا الفلسطينيون سيقنعون بما يُقرّره الآخرون لهم، لمُجرّد أنّهم تعرّضوا لمذبحة فظيعة، ولا الأمور في سورية ستهدأ وتستكين البلاد لحكم بشّار الأسد، في وقت مازالت سورية تغلي، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها.

التحوّل الأساسي الذي تنتظره المنطقة، وسيشكّل رافعة للتحوّلات المجتمعية والاقتصادية، هو التحوّل في أنماط الحكم السائدة فيها، وصياغة عقود جديدة تمنح الشعوب هامشاً واسعاً في تقرير مصائرها. دون ذلك، حرثٌ في البحر.

المصدر: العربي الجديد

 

قد لا تعبر هذه المقالة عن رأي الموقع

تعليق واحد

  1. تشهد منطقة المشرق العربي مشاريع إقتصادية عابرة للحدود من خطوط المواصلات والنقل، بربط الجغرافية القارّية بعضها ببعض، بالإضافة لإنشاء مراكز حضرية ضخمة، تتلاءم مع التطوّرات في قطاعات الذكاء الاصطناعي، والرقمنة، والسياحة العابرة، لتكون شعوب المنطقة أمام واقع جديد بلتحوّلات مجتمعية واقتصادية، فهل للشعوب دور بتقرير مصيرها وهويتها ضمن ذلك؟ أم حرثٌ في البحر.

زر الذهاب إلى الأعلى