بعد ثلاثة عشر عاماً على ربيع الثورات العربية في موجته الأولى، في أكثر من خمسة بلدان عربية، وخمسة أعوام على موجته الثانية، ووأدهما في المهد، يمكن لنا استشراف بعض تأثيراتهما على المديين القريب والبعيد. فهما، بغض النظر تعثرهما، أفصحا عن بنى مهترئة في السياسة والاجتماع العربيين.
لقد شكل الحراك الشعبي العربي عامي 2011 و2019 انفجاراً وإعلاناً صريحاً يقول: أنه بإمكان العرب التمرد على البنى المهيمنة والمؤسسات الفاشلة، وعلى عمليات التهميش وسوء المعاملة التي يتعرضون لها.
ولكنّ الفجوة التي كانت بين المقدمات والنتائج كبيرة، بحيث من المكابرة إنكارها. حيث خرج قسم كبير من الحراك عن منطلقاته المدنية ومساره السلمي، حين جنح للعسكرة، الأمر الذي نقل بلداناً عربية من مشهد الثورة والتغيير السياسي إلى مشهد الفتنة والحرب الأهلية، مثلما وفَّر للتدخلات الخارجية، الإقليمية والدولية، البوابات الضرورية للنفاذ إلى الداخل الوطني، والنفوذ فيه.
وترتب على ذلك أنّ الدولة العميقة استعادت قوتها، وفي الوقت ذاته تراجع الثوار وانسحبوا، نتيجة قمعهم وضعفهم وتخبُّطهم. وكانت نتيجة ذلك أن انتكست الثورات – مؤقتاً – وانفرط عقد الدولة الوطنية وصعدت مكانها، إلى جانب عناصر النظم القديمة التي ثار المجتمع ضدها، انتماءات فرعية (طائفية وقبلية ومذهبية وقومية وجهوية).
لكنّ القول إنّ ربيع الثورات هو المسؤول عن ذلك فيه نوع من الخفة والهروب من مواجهة حقيقة ما حصل وما نتج منه، ففي سورية كان المسؤول الأول عن تحوُّل الثورة السورية إلى حرب أهلية مدمِّرة هو الرئيس السوري بشار الأسد، حين اتخذ الخيار الأمني منذ بداية الثورة السلمية.
وهكذا يجب التنبُّه إلى أنه من غير الجائز التعاطي مع ربيع الثورات العربية بمقاربة شمولية، إذ إنّ تطورات تونس، غيرها في مصر، وغيرها في ليبيا وسورية، وغيرها في لبنان أو العراق. حيث اختلفت البدايات والدوافع، واختلفت المسارات والمآلات، وإن كانت تقاربت في التزامن.
وفي كل الأحوال شكلت السنوات الثلاثة عشرة التي مرت على إحراق التونسي محمد البوعزيزي نفسه احتجاجاً على البطالة وهدر الكرامة اللتين كان يعاني منهما، مثله مثل أعداد لا حصر لها من الشباب العربي، مسافة زمنية مقبولة لتقييم الأحداث الجسام التي أعقبت حادث بلدة سيدي بوزيد وأفضت إلى زلزلة العالم العربي.
لقد سمح الحراك الشعبي العربي بمناقشة الكثير من الإشكالات الكبرى: علاقة الدين بالدولة، ومعضلة الفساد، واقتران المال بالسلطة، ودور القوى الأجنبية في المنطقة، كما فتح المجال لقوى ولنخب ونقاشات جديدة، لم تتح لها إمكانية الظهور في السابق. والدولة الوطنية، التي مضى على إنشائها ما لا يقل عن ثلاثة أرباع القرن، ظهرت هشَّة وسطحية. والمواطنة، التي كان يفترض أن تكون ثمرتها الأهم، سرعان ما تحللت وصعدت مكانها انتماءات فرعية ما قبل وطنية. فقد تحولت بعض الحراكات الشعبية إلى نوع من انفجارات هوياتية، أي أنها انتقلت من كونها ثورات تتوخى التغيير السياسي والديموقراطية، بعد التخلص من أنظمة الاستبداد، إلى صراعات تتوخى تحقيق الهوية.
وفي هذا السياق ظهرت الحروب اللامتناظرة عبر الفواعل من غير الدول، مثلما فعل تنظيم ” داعش ” الذي خرج من لهيب عسكرة وأسلمة الثورة السورية، وتمدد بميليشياته العسكرية من سورية إلى العراق ثم ليبيا، وأعلن ” الخلافة الإسلامية “.
ما نخلص إليه من خلال هذا كله هو أنّ الكلمات إن لم تنبثق من حراك الشعوب وتطورها التاريخي لا يمكن، مهما بلغت من سحرها والشحنة الانفعالية التي تختزنها، أن تحدث التغيير المنشود في حياة الامم والشعوب، بل قد تتحول عبئاً عليها. فرغم أنّ خسائر الثورات هي من الثوابت في علم الاجتماع السياسي، إلا أنّ ما تسببت به هذه الثورات، في مجمل البلدان العربية، أكبر بكثير مما هو متوقع، أو ما ينبغي أن تكون عليه، أقله في الجانب المعنوي وعوائد التغيير المفترضة.
فحتى الثورات الكبرى التي سال فيها دمٌ كثير، واختلالات اقتصادية لافتة، كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية في روسيا، عدا ثورات أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها، لم تصل تداعياتها الاقتصادية والبشرية إلى ما وصلت إليه الثورات العربية، عدا عن ذلك فمعظم هذه الثورات أدت إلى تغييرات بنيوية أساسية في مجتمعاتها ونظمها السياسية، في المقابل ماذا حصل في البلدان العربية ونظمها ومجتمعاتها، أقل ما يقال فيه، أنه وضع كارثي مرعب.
ولكن كان من حسنات الحراك الشعبي العربي أنه كشف حقيقة مجموعة من القوى الدولية الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، التي ظلت تتبجح بحماية حقوق الإنسان وتدافع عن الديمقراطية. كما انكشفت أيضاً حقيقة بعض القوى الإقليمية أمام الرأي العالمي، بعد أن تحولت من داعية إلى إرساء السلام بالمنطقة، إلى محرض على الطائفية والفرقة داخل المنطقة.
وقبل هذا كله لا ننسى الاتهام الموجَّه لقوى عالمية وإقليمية بالعمل على اختلاق حركات احتجاجية تحقق مصالح هذه القوى المتهمة بأنّ لديها خططاً حقيقية لإعادة رسم خريطة المنطقة بما يتسق وهذه المصالح. خاصة وأنَّ عصرنا يتميز عن كل العصور السابقة بأنّ التدخل الخارجي في الأوضاع الداخلية للدول صار أكثر سهولة، وجاءت هذه الميِّزة نتيجة للعولمة وثورة الاتصالات.
ومما سهَّل التدخل الخارجي أنّ أنظمتنا الشمولية أثبتت عدم قدرتها على التكيُّف مع ضرورات التغيير. فهي إما صمدت بالعنف والقهر، كما في سورية، أو انهارت جزئياً كما اليمن، أو كلياً كما في ليبيا. هذا الانهيار لم يصاحبه تخلخل البنية المسماة ” الدولة العميقة ” أو صعود قوى سياسية جديدة فاعلة. فالثوار الأنقياء الأصليون انسحبوا من الساحة لأنهم لم يحوِّلوا هبَّاتهم إلى كيانات سياسية متماسكة تسعى إلى تطبيق المبادئ التي ثاروا لأجلها أصلاً، أو لأنهم أُزيحوا عنوة بسبب عسكرة ثوراتهم وحل محلهم منتهزو فرص منظَّمون، وأحياناً مسلَّحون، من الحركات الإسلامية في أغلب الأحوال التي كان قد أتيحت لها عقود من التنظيم السري على رغم الاضطهاد الذي لاقته على أيدي الأنظمة الشمولية.
لقد كان النظام العربي القديم، وعلى الرغم من الثورات، قادراً على قيادة الثورة المضادة في عام 2013 وما بعده. وهذا ما سمح للأنظمة بمتابعة احتكارها لوسائل العنف (الجيش والشرطة)، والبيروقراطية، والمشهد السياسي، والمحاكم (القوانين). ولكن على الرغم من الثورة المضادة، لم يتم إرساء أي نظام جديد، بل أصبحت المشاكل البنيوية أكثر عمقاً، إذ تعيش العديد من الدول العربية اليوم مثل سورية واليمن وليبيا والعراق ولبنان حالة من الفوضى، بحيث أنها أصبحت دولاً فاشلة. ولكنّ العديد من الدول العربية الأخرى تقف على حدود الفشل، ويطالب الشباب في المنطقة، والذين يشكلون 70 % من السكان، بالمزيد من الحرية والكرامة، وفرص العمل، والأمن، وحياة أكثر سعادة.
لقد تعثر ربيع الثورات العربية لأسباب عديدة من أهمها: أنّ الاستبداد في دول الربيع العربي أنشأ هياكل على شاكلته أصبحت عقبة عطَّلت أو أفسدت عملية التحوُّل الديموقراطي. وهذه الهياكل لم يكن دورها مقصوراً على عرقلة التحوُّل المنشود فحسب، وإنما عمدت إلى تشكيل واستدعاء قوى وهياكل أخرى مسلحة للحيلولة دون إتمام ذلك التحوُّل (سورية أنموذجاً)، ومن خلال تلك القوى والهياكل انتقلت البلدان إما إلى مرحلة الفوضى والاقتتال الأهلي، أو إلى استعادة الاستبداد القديم لمواقعه تحت لافتات ومسميات أخرى.
وعندما وصلت الأمور إلى هذه المرحلة، بدأ مطلب التغيير الثوري يتحول إلى هاجس، بل وكابوس، لدى كثيرين، نتيجة ضبابية الرؤية وعدم وضوح الطريق، ولا معرفة النوايا الحقيقية للأطراف الجديدة الفاعلة في المشهد الجديد، ومدى علاقتها بالدوافع النبيلة والأهداف الأصلية لثورات وانتفاضات تلك الشعوب. ومما زاد الطين بلة أنه في خضم كل تلك الأمواج، بدا للعديد من الشعوب العربية، التي أطلقت شرارة الثورات، أنّ بعض بلدانها تتجه إلى الفوضى، أو إلى التقسيم، أو أنها تحولت إلى أرضٍ خصبة لنشاط جماعات تمارس درجات مخيفة من العنف وترويع الآمنين وإلى ميدان للتقاتل بين هذه الجماعات أو بينها وبين سلطات دولها، وبالتالي بدت الدولة ذاتها في مهب الريح ومعرَّضة للتآكل والاضمحلال بفعل ما يتقاذفها من أخطار.
ومن البديهي ألا تنجح هذه الثورات نجاحاً كاملاً، لأنّ ألف باء شروط نجاح الثورة يقتضي تبنِّي أهدافاً واضحة وأساليب نضال تأخذ معطيات الواقع باعتبارها، إضافة لتنظيمات شعبية وسياسية متينة، كي تكون الثورة قادرة على تغيير الواقع تغييراً شاملاً وجذرياً، وصولاً إلى واقع آخر مختلف، وهذا لم يتوفر في الثورات العربية، لأنها كانت عفوية غالباً وغير منظمة دائماً، ولم تكن سوى تعبير عن رفض الواقع القائم أي رفض الأنظمة الشمولية والديكتاتورية الفاسدة والسارقة. لقد كانت الثورات تعبيراً عن غضب، أكثر مما كانت تهدف لإقامة أنظمة جديدة ديمقراطية عادلة، تطبق معايير الدولة الحديثة وتجلب الأمان والرفاه والكرامة لمواطنيها.
هكذا، قامت الثورات في أكثر من بلد عربي من دون أن تستند إلى أساس ثوري في الأهداف والتنظيم، وقد كانت في مراحلها الأولى تعبِّر عن رفض ممارسات النظام ثم تطورت إلى تعدُّد المطالب وتكثيفها. وأمام تعنُّت الأنظمة السياسية القائمة وصلفها ورفضها قبول إصلاح الأنظمة وتطويرها، تحولت شعارات الثورات إلى مطلب إسقاط الأنظمة، وصارت مجتمعات هذه البلدان تمور بالاحتجاج وبمطالب الحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان ورفض الفساد والتشهير به، وكذلك رفض الدولة الأمنية واعتبارها خطراً على الشعب ووسيلة للابتزاز والنهب.
ولكنّ سلبيات حقيقية شابت الثورات، منها مثلاً الفوضى التي انطوى عليها الحراك الثوري في حالات ليست بالقليلة، بسبب غياب البعد المؤسسي أو ضعفه في التحركات الجماهيرية، فضلاً عن تعرُّض التحركات الجماهيرية للتخريب والإفساد من قبل قوى غير ذات مصلحة في تحقيق أهداف الجماهير ومطالبها.
وقد ترافق ذلك كله مع تحوُّلات كبرى على صعيد اختلاط الأمور السياسية بالدينية، ولجوء بعض المتطرفين إلى العنف، الذي بدأ يتخذ أبعاداً إرهابية خطيرة، أسهم في إطلاقها عدد من الأنظمة، وقبلها تراكم المشكلات السياسية والاجتماعية على مدى عقود، والتي ظلت من دون حلول حقيقية دائمة، ما أسهم في زيادة حدة انسداد الأفق وتراجع الثقة بالمستقبل لدى المواطنين، لا سيما لدى الفئات الشابة.
وهكذا، لابدَّ أن نراجع ما حدث من ثورات عفوية، لنخلص إلى أنّ الحماسة التي أبداها كثيرون للثورات الشبابية العفوية التي تغيب عنها القيادة السياسية، أو التصور السياسي الواضح للبديل، لم تكن في محلها. كان الاعتقاد أنّ هذه الثورات قادرة على إنتاج تحوُّل ديمقراطي، لكنّ بقاءها عفوية، وعدم وجود قيادة سياسية ساهم في تهميشها، في المرحلة اللاحقة، وفي ابتلاعها من الأنظمة والأحزاب التقليدية معاً.
إنّ ضعف الثقافة السياسية لقوى الحراك الشبابية نمَّى لديها منزعاً إلى استسهال عملية التغيير، والاطمئنان إلى قوتها الضاربة، ولكن المفككة وغير المنظمة. وإلى ذلك، كان لفقر الثقافة السياسية ذاك أن رتَّب عليها فقراً فادحاً في الواقعية السياسية، فكان أن طرحت على نفسها أهدافاً تفوق ممكنات الواقع الموضوعية والذاتية. وكانت النتيجة أنّ شباب الثورات فقدوا المبادرة، واستلم الزمام الأحزاب والرموز السياسية التقليدية والمسلحون.
ولكن من المؤكد أنّ أهداف ورهانات الحراك العربي لن تتحقق بين عشية وضحاها، خصوصاً إذا ما استحضرنا التحديات التي واجهته على مستوى عدم انخراط النخب أو التحاقها بشكل متأخر، وتحدِّي المحيط الدولي، وتحدِّي الدولة العميقة، والتهويل والتخويف مما يجري من ارتباكات أمنية في دول أخرى.
ومهما يكن من أمر، فالجواب يستحق التأمل فيما يتعلق بالثورات عموماً، فنتائجها بعيدة المدى ولا يمكننا التكهن بتأثيراتها النهائية من خلال النظر إلى نتائجها الآنية. إذ ستمر الموجة الثورية الجديدة في مراحل عدة، يتم في المرحلة الأولى استيعاب آثار الثورة المضادة، وستستفيد الحكومات من الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية ” داعش ” والإرهاب لتقويض الحقوق وكبت أبسط أشكال التعبير عن الرأي.
ولكن ستكون الموجة الثورية العربية المقبلة أكثر راديكالية في التفكير وفي الأساليب، وسيتم التركيز على إنجاز ما لم يتم إنجازه في عام 2011. فليس الربيع العربي قوساً فُتح وسيغلق، وليس الحراك الذي انطلق قبل ثلاثة عشر عاماً مجرد فلتة سياسية لن تتكرر، وليس خطأ في الحساب سيتم تداركه. ما جرى من بركان سياسي تعبير عن تحوُّل تاريخي في مسار الدول العربية لا رجعة فيه، قد يتوقف هذا المسار وقد يتعثر، وقد لا يزهر ربيعه الآن، وقد يخرج أسوأ ما في مجتمعاتنا المريضة من عنف وانقسام وكراهية وسلطوية وتطرف وإرهاب. لكنّ مسار التغيير سيمضي في طريقه لاجتثاث القديم وإحلال الجديد.
المحصلة النهائية لما تقدم أنّ الشعوب لم تتراجع عن ثوراتها أو انتفاضاتها ولكنها، في ضوء معطيات الواقع، أدركت ضرورة إعادة النظر، ومن ثم تعديل الأولويات، فصار الحفاظ على الدولة – خاصة ثابتي الأرض والشعب وليس متغيِّر السلطة – المهمة الأولى، في وقت تموج الأنواء بما يهدد وجود الدولة في بعض البلدان العربية، ومخاطر تتعلق بوحدتها في بلدان عربية أخرى، من دون أن يعني ذلك تناسي الشعوب لمطالبها الأصلية أو التراجع عنها بشكل نهائي، بل هي إعادة نظر في الأولويات بشكل مرحلي لضمان استمرار الدولة ومؤسساتها حتى لا تقع الشعوب والبلدان فريسة للفوضى أو الاختراق الخارجي أو التقسيم والتجزئة، وعلى أن يتم بشكل مرحلي تأجيل مطالب الثورات والانتفاضات إلى مرحلة قادمة، آتية لا ريب فيها.
وعلى صعيد ما يبدو لنا إيجابياً فيما جرى، فنختصر النتائج المنظورة فيه في وجهين على الأقل: أولهما، يقظة القوى الشبابية العربية، وازدياد فاعليتها على الرغم من عقود من سياسات التجهيل، والاستبعاد، والتهميش، والإقصاء عن العمل العام، والتمييع الهادف إلى إفراغ وجودها الاجتماعي من أيِّ فاعلية إيجابية تخدم المجتمع وقضاياه. إنّ هذه اليقظة، معطوفة على نهضة مؤسسات المجتمع المدني، لهي من الأرباح الصافية التي جنيناها من موسم الحركات الاجتماعية.
وثانيهما، طرح بعض ممنوعات السياسة، في الحياة العامة العربية، مثل الإصلاح السياسي والدستوري، وإعادة توزيع السلطة والثروة، ومكافحة الفساد ومحاكمة المتورطين فيه، وإصلاح أجهزة الأمن والمطالبة باستقلالية القضاء… على جدول أعمال انشغالات الرأي العام والحركات الاجتماعية.
وثمة نتائج إيجابية بعيدة الأثر وقد تثمر – لاحقاً – حقائق سياسية جديدة في غاية الأهمية، وأشير إلى نتيجتين منها: أولاهما، انهيار حاجز الخوف الذي كان حائلاً، دائماً، أمام مشاركة الناس في الحياة العامة، والمطالبة بحقوقهم. والخوف هذا – وقد صنعته حقب الاستبداد وكرّسته – يفسِّر جوانب كثيرة من تلك الحال من السلبية والعزوف عن السياسة، التي طبعت سلوك قطاعات عريضة من المجتمع، وخاصة الشباب، مثلما يفسِّر إطلاق أيدي النخب الحاكمة في شؤون السلطة والثروة من غير خشية ردِّ فعل. وهذا، فيما أزعم، من الحقائق الجديدة التي سيكون لها كبير الأثر في الحياة العامة العربية مستقبلاً، وبالذات في مستقبل عملية التغيير.
وثانيتهما، أنّ وعياً بأهمية الدولة للاجتماع الوطني تزايد في السنوات الأخيرة، ودلَّ عليه ما بدا واضحاً من احترام رموزها ومؤسساتها (مثل الجيش والقضاء) من قِبل قطاعات من الرأي العام الفاعل في قسم من البلاد العربية، بعد فترة كانت فيها تلك المؤسسات، أثناء الأحداث، موضع نقمة المتظاهرين. ولقد كان الشعور بفقدان الدولة، وحال الفراغ التي انتعشت فيها الفوضى وانهار فيها الأمن، باعثاً على إعادة الوعي لأهميتها. ومن النافل القول إنّ ذلك الوعي كان أكثر حدة في البلدان التي سقطت فيها الدولة تماماً (كما في سورية وليبيا). وظني أنّ آثار هذا المتغيِّر الجديدة ستكون إيجابية جداً في المستقبل، وربما قد نبلغ المرحلة التي نعي فيها، فعلاً، الفارق بين الدولة والسلطة.
وهكذا، في زمن المخاض العربي الكبير الذي بدأ عام 2011 لن تكون الديكتاتورية، سواء أرادت النخب الراهنة أم لم ترد، إلا من تعبيرات الماضي. إذ ينتظرنا في العالم العربي، مستقبلاً، عصر السياسة الجماعية، والنشاط السياسي، والعمل النقابي، والإضرابات، والمقاومة السلمية، وحركات الشباب.
قد لا تعبر هذه المقالة بالضرورة عن رأي الموقع
قراءة موضوعية للسيرورة التاريخية لثورات الربيع العربي، وما إنتهت اليه، ومن المسؤول عن عدم تحقيق أهدافها، كان جنوح بعض ثورات الربيع العربي للعمل العسكري، وصعود الثورة المضادة لقوى الردة، وظهور الأمراض المجتمعية”الطائفية والعشائرية القبلية” و.. دور بذلك، ولكنها كسرت جدار الخوف أمام الحراك الثوري للمواطن العربي نحو تحقيق أهدافه.