في مطلع قصيدته الشهيرة “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي”، يتساءل الدمشقي نزار قبّاني، بقلق، ما إذا كانت مرايا دمشق ستعرفه من جديد أم “غيّرته السنون”؟ لامَ ابن عائلة القبّاني العريقة في قصيدته نفسَه على هذا التغيّر، ولكن ما لم يخطر بباله، ولو عَرضاً، أنّ دمشق التي أتاها فوجدها كما هي بأنهرها السبعة “بعد فرقة دهر”، يمكن أن تتغيّر. لن يصدّق نزار أنّه إن جاء اليوم، بعد ربع قرن على دفنه في قلب مدينته كما أوصى، ليستحضر زماناً في حي الصالحية سمحا، وذكريات ذاك الفتى الذي لعب في زواريب دمشق، لوجدها تغيّرت ولم تعُد كما حين غادرها. فدمشق اليوم، كما أغلبية محافظات سورية، غريبة عن حضارتها، ولا تشبه “الهوى الأموي”. فالمشهدية كلها تغيّرت، وبات يسكنها أغلبية كانوا بالأمس القريب يمرّون عليها زوّاراً، وسيّاحا دينيين. إذ تقول المصادر إنّ شراء الإيرانيين البيوت والعقارات في قلب دمشق تزايد، أخيرا، مع تأسيس المراكز التعليمية الشيعية والحوزات والحسينيات، هذا ما يؤكّد لكثيرين أنّ التغيير في الهوى والهوية مشروع يكتمل تجهيزه. الأخطر في الحرب على سورية، ليس فقط أنّها دفعت أغلبية ساكنيها كي يكونوا نازحين في مختلف الدول، وتهجيرهم وتشتيتهم في أقاصي المعمورة، بل تكمن الخطورة في القوّة الناعمة التي اعتمدتها السياسة الإيرانية لبلاد الشام، عبر السعي إلى تغيير هوية هذا البلد، الذي كان يعتبر “قلب العروبة النابض”. أما اليوم، فلم يبق من العروبة إلا الشعار، حيث رُبطت البلاد بمحور أطلقت عليه إيران محور الممانعة، بينما كثرت فيها الجنسيات ذات الأغلبية من طائفة تدعمها إيران، مع تصدير ثورتها بعد عام 1979.
لا الثقافة اليوم هي ثقافة سورية، ولا المظاهر تشبه التي عرفها نزار قبّاني، يوم كان فتى يسير في حارات دمشق، فكلّها تبدّلت. وبحسب بعض المصادر، عمل النظام بالتنسيق مع القيادة الإيرانية على اعتماد سياسة “ترانسفير” من خلال الحرب العبثية، لتهجير السكان الأصليين واستبدالهم بأجانب. فسياسة ربط سورية بالمحور الإيراني تتطلّب التغيير، وتهدف إلى العبث في هوية هذا البلد، وإلا فهناك دائماً تساؤلات يطرحها المتابعون “لِمَ لمْ يُقدم النظام عل طرح مبادرات أو خطط عملانية لعودة النازحين السوريين إلى مناطقهم؟”. تنظر بعض المصادر على أنّ عملية “التشييع” هذه هي الوجه الآخر الناعم للقوّة الإيرانية، بجوانبها الثقافية والدينية والتعليمية. هذا ما تقبضه على ما يبدو طهران، اليوم، ثمنا لما استثمرته في قوّتها الخشنة، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، لانتشال النظام السوري من السقوط.
لا يعاني النازح السوري من مطرقة القوة الناعمة الإيرانية فحسب، بل في لبنان، وبعد مقتل المواطن باسكال سليمان، في منطقة جبيل، 7 إبريل/ نيسان الحالي، تصاعدت موجة التحريض بحقّ النازحين السوريين الداعية إلى طردهم من لبنان. وبدأت شوارع في العاصمة، كما مناطق لبنانية، تشهد اعتداءات على النازحين من شبّان لبنانيين بطريقة عشوائية، لمجرّد أنّهم من سورية، ونُظّمت الحملات وعُلّقت مناشير على الجدران تطالبهم بالمغادرة فورا.
دانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بشدّة مقتل باسكال سليمان، وأعربت عن حزنها العميق إزاء هذه الجريمة داعية إلى حماية السوريين. وأوضحت المتحدثة باسمها في لبنان، لـ”العربي الجديد”، أنّها تلقت عقب الإعلان عن الوفاة، تقارير أفادت بهجمات استهدفت نازحين سوريين، في مناطق مختلفة في لبنان. وأن تقارير أفادت بإقدام سكان محلّيين في مدن لبنانية مختلفة على رفع منسوب التهديد إلى حالة الطرد الجماعي”.
يقع النازح السوري اليوم في لبنان، بين الرواية الأمنية الهزيلة، والفرضيات المنطقية، وسيناريو الاغتيال السياسي، والأحكام الطائشة التي استعجل أهل السياسة ومناصروهم، وكذلك الإعلام، الخروج بها لتأجيج الخصومة، وما تبعها من ردّات فعل عاطفية. لهذا بتنا نسمع يومياً عن اعتداءات بحقّ النازح، والدعوات إلى مغادرته الأراضي اللبنانية، ما ينذر بأنّ الوضع قد يخرج عن السيطرة، ويعيد إلى الذاكرة اللبنانية مشهدية الحرب.
لا يختلف اثنان في لبنان على أنّ ملف النزوح بات يشكّل عبئاً على كاهل وطن جريح يئنّ سياسياً واقتصادياً، وزاد من أنينه إصرار حزب الله على فتح الساحة لاحتمالية حرب واسعة مع العدو الإسرائيلي. غير أنّ الواقع لا يشبه التمنّيات، فالنازح اليوم هو من يسارع بالعودة إلى وطنه، ولكن السؤال: متى عاد، هل سيجد ما تركه لم يزل على حاله؟ هل سيعرفه المكان الذي هرب منه خوفاً من الموت، أم حتى المكانية تغيّرت في سورية مع الزمانية التي مرّت؟
المصدر: العربي الجديد