النظرة إلى تراجع بعض ردود الأفعال الغاضبة تجاه حرب الإبادة والتجويع والحصار والعقاب الجماعي للشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، تشير إلى تراجع بعض من الحيوية السياسية لغالب الفئات والشرائح الاجتماعية المكونة للشعوب العربية في دول اليسر والعسر معًا، وذلك كنتاج لظاهرة موت السياسة، وعودتها مجددًا بعد فشل الربيع العربي المجازي، وعدم قدرة بعض هذه الشرائح الاجتماعية عن التعبير الحر عن مواقفها إزاء العدوان إلا من بعض المنشورات والتغريدات والفيديوهات الطلقة على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، ودعمها لحركة المقاومة المشروعة ضد الكولونيالية الإستيطانية الإسرائيلية.
هل مرجع هذا الصمت المعتقل هو المجال العام السياسي المغلق؟.. أم أنّ ثمة أسبابًا آخرى وراء ذلك؟!
نحاول إبداء بعض الملاحظات على الصمت الشعبي في دول اليسر المالي الريعي العربية الشقيقة على النحو التالي:
اللاسياسة في دول اليسر العربية
1-المجتمعات العربية النفطية في منطقة الخليج العربي، لا تزال في طور عمليات التشكل الاجتماعي الداخلي، والانتقال من البنيات التقليدية –القبلية والعائلية- إلى بناء اجتماعي يعتمد على تكوين مستمر لطبقات اجتماعية، وذلك لأنّ بعض هذه الدول لا تزال ريعية واستثمارية -داخليًا وخارجيًا-، وتعتمد أكثر من نصف ثرواتها على الريع النفطي، وأنشطة استثمارية ومالية خارج وداخل حدودها، وذلك في ظل بعض من هشاشة التركيبة الديموغرافية لشعوبها – باستثناء السعودية -، وتزايد أعداد المكوّن الأجنبي من العمالة الوافدة سعيًا وراء الرزق. من ثم يمثّل ضعف العمالة “المحلية” في سوق العمل عائقًا نسبيًا في التشكلات الاجتماعية.
تتركز بعض العمالة لمواطني بعض هذه الدول في أجهزة الدولة البيروقراطية، والأمنية والعسكرية، وبعض الأنشطة الاستثمارية في القطاع الخاص، ومحدودية دورها في مجال الإنتاج وعلاقاته التي تؤدي إلى تطور الوعي الإجتماعي بأوضاعها ومصالحها خاصة أنها مجتمعات لم تمر بمراحل التصنيع وثوراته المختلفة أسوةً ببعض الدول العربية الأخرى. من ناحية ثانية لا يزال وعيها شبه الجمعي بمفهوم الوطنية آخذًا في النمو والتشكل في دول جغرافياتها السياسية حديثة العهد، وارتكزت على الحكم العائلي والأسري في أعقاب الكولونيالية البريطانية مع الاستثناء للحكم في السعودية.
من ناحية ثالثة؛ تداخل بُنى بعض القبائل والعائلات مع بعضها بعضًا بين حدود بعض الدول بعضًا.
اليسر المالي وثقافة الاستهلاك
2- ساهم اليسر المالي في ارتفاع كثافة الاستهلاك للسلع والخدمات والسياحة الخارجية لمواطني دول الخليج على نحو أدى إلى تشكل مجتمع الاستهلاك المفرط، ومن ثم إلى تسليع بعض أنماط الحياة، وخلق احتياجات وطلب استهلاكي مرتفع ومتزايد، وهو ما أدى إلى خلق حالة من بعض “الهوس الاستهلاكي”. وأدت ثقافة الاستهلاك إلى بعض من التمثيلات في السلوك الاجتماعي على خلاف وتغيّر من أنماط السلوك التي كانت تسود ما قبل ثورة عوائد النفط.
عدم تشكل الإنسان السياسي وتهميش الطلب السياسي والاجتماعي على المشاركة السياسية
من ناحية أخرى هيمنة تسليع الفنون والموسيقى والغناء والمسرح والدراما التلفازية المصرية والسورية واللبنانية والتركية، وتحوّلها إلى سلع ثقافية ترفيهية وتغيّرها من مجال الفنون الرفيعة التي ترتقي ببعض الوعي الاجتماعي والسياسي والذائقة المرهفة إلى محض استهلاك سريع لهذه الفنون.
لا شك أنّ هذا التوجه أدى إلى عدد من النتائج أبرزها:
أ – إنتاج اللاسياسة في المجتمعات الميسورة خليجيًا، وبعض دول العسر العربية.
ب – تكرس “الأنامالية السياسية”، وعدم الاهتمام بالمشاركة السياسية، والثقافة السياسية، والتمركز حول المصالح الخاصة.
ج- هيمنة إعلام الترفيه الموجّه، ومعه النظرات الومضات في مواقع التواصل الاجتماعي، وارتفاع معدلات استهلاك السلع الإباحية الفيلمية على مواقعها الرقمية، بما في ذلك بعض دول العسر العربية.
لاشك أنّ بعض هذه الظواهر والسلوكيات الاجتماعية أدت إلى بعض المظاهر السلبية نسبيًا، وخاصة عدم تشكل الإنسان السياسي، وتحييد وتهميش الطلب السياسي والاجتماعي على المشاركة السياسية، وتشكيل أحزاب أو جماعات سياسية، ومن ثم التمثيل السياسي في هياكل السلطة السياسية الحاكمة.
لجأت الأنظمة العائلية والأسرية الحاكمة إلى نمط من بعض المشاركة لأبناء بعض العائلات في التشكيلات الحكومية، أو في بعض المواقع القيادية العليا والوسطى في أجهزة الدولة البيروقراطية، خاصة أنّ بعضهم/هن تلقى تعليمًا في بعض الدول الغربية – الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا.. إلخ-، ومن ثم تتم الاستفادة ممن عادوا إلى بلدانهم بعد ابتعاثهم للجامعات الخارجية وخاصة في حركة البعثات السعودية في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود.
هذا النمط من التوظيف السياسي في إطار سياسة اللاسياسة في الدول ما دون القومية، فتح المجال أمام بعض من التمثيل العائلي الرمزي في أجهزة الدولة من خارج العائلات والأسر الحاكمة.
الوطنيات والصراعات المذهبية والتنافس الإقليمي
3- تركيز النظم الخليجية الحاكمة على عمليات البناء الرمزي لمفهوم “الوطنيات” تحت التكوين في هذه البلدان الشقيقة، وذلك من خلال كتابة التاريخ الرسمي وتدريسه في المناهج الدراسية المقررة، وفي مواجهة “الوطنيات” الأخرى في المنطقة العربية، إزاء بعضها بعضًا، وفي مواجهة إيران وتركيا ومن خلال المذهبية السنية، وخاصة في ظل بعض من التنافس السياسي حول الأدوار الإقليمية التي تعبّر عن طموحات هذه القيادات الإقليمية الشابة للحلول محل الدول العربية ذات الثقل التاريخي والسياسي والثقافي – مصر والعراق وسوريا -، والتي تعاني من تراجع أدوارها بسبب الحروب الأهلية والمذهبية والعسر الاقتصادي، وتفاقم مشاكلها الداخلية.
4- التوظيف السياسي للمذهبية السنية في مواجهة الأقليات الشيعية في البحرين والسعودية، مع بعض التسامح والتمثيل السياسي في الكويت تاريخيًا ولا يزال، وذلك في مواجهة الشيعية السياسية في إيران والإقليم العربي.
5- الميل لقبول الأفكار الأمريكية لإعادة تشكيل النظام الشرق أوسطي من الناحية الجيوسياسية وضم الهند في مواجهة إيران وتركيا!
6- استخدام الأساليب الأمنية في مواجهة أية آراء نقدية للحكم العائلي من بعض الأشخاص أو الجماعات الإسلامية السياسية أو من المواطنين أو رجال الدين في السعودية والإمارات وقطر والبحرين على سبيل المثال، وذلك لردع أية إمكانية لتشكل بعض المعارضات في هذه البلدان، أيًا كانت ديمقراطية أو إصلاحية، أو يسارية أو دينية في ظل السيطرة على المجال الديني.
7- التحوّل من دعم جماعة “الإخوان المسلمين” إلى التوتر ورفضها بعد الربيع العربي، وخاصة مع توجهات القادة الجدد -الشباب- في العائلات والأسر الحاكمة، خاصة في السعودية والإمارات، والاستثناء قطر التي توظف “الإخوان” و”حماس” سياسيًا في محاولة تعظيم دورها الإقليمي المنافس لجيرانها، بدعم تلك التنظيمات ماليًا وإعلاميًا.
8- غالب دول اليسر تقف وراء المبادرة العربية للسلام وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، ويقدّم هذا الخطاب إعلاميًا لتخفيض أية مصادر للغضب والتوتر الاجتماعي تجاه السياسات الفعلية التي لا تهتم بالقضية الفلسطينية، خاصة مع اتفاقيات “إبراهام”!. إمعان النظر في فيما وراء هذا الخطاب الرسمي يشير إلى أنّ بعض هذه الدول مع السياسة الأمريكية والإسرائيلية لتصفية “حماس” عسكريًا، وإعلان الولايات المتحدة والدول الأوروبية الداعمة للحرب على القطاع الاعتراف “الغامض” بالدولة الفلسطينية المستقلة، ودعم عمليات إعادة الإعمار وإسناد إدارة القطاع إلى السلطة الفلسطينية بعد إصلاحها، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزّة، في مقابل التطبيع الرسمي مع السعودية! وإمكانية التعاون الأمني مع مصر والأردن والمغرب في مجال ضبط الأمن في القطاع في “اليوم التالي”!.
تركيز إعلامي وسياسي على المساعدات الإنسانية وإعادة الأعمار وتكثيف النقد لحركتي “حماس” و”الجهاد”
أيًا كان التصورات الغائمة المطروحة حول شكل إدارة القطاع بعد تصفية بنية “حماس” التحتية، التسليحية وقادتها، لا يزال التصوّر الإسرائيلي اليميني المتطرّف يتمركز حول الإدارة العسكرية للقطاع، والاعتماد على بعض كبار العشائر من “العملاء”، وبعض رجال الأمن الوقائي، والاستخبارات في السلطة. الاعتماد على العشائر في توزيع المساعدات الإغاثية والإنسانية، والمشاركة في إدارة القطاع تُعد أقرب إلى بعض العقل السياسي الحاكم في بعض دول اليسر، وهياكلها الاجتماعية العائلية، مع عناصر من السلطة بعد إصلاحها، والتركيز الإعلامي والسياسي على المساعدات الإنسانية وإعادة الأعمار وتعبئة أهالي القطاع حولها، ومن ثم ربما يميلون إلى هذا الخيار إذا ما تم في “اليوم التالي”!
من هنا ستركز السياسة الإعلامية لدول اليسر، وخاصة فضائياتها على المساعدات الإنسانية وقضايا إعادة الإعمار وتكثيف النقد للمقاومة وحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وقراراتهم التي أدت إلى دمار الحجر والبشر في القطاع لتبرير وتسويغ مواقف دول اليسر السياسية، وعدم دعمهم للمقاومة المشروعة ضد دولة الاحتلال الإستيطاني وإنتهاكاتها العمدية للقانون الدولي العام، وقانوني الحرب، والإنساني الدوليين، وقرارات الشرعية الدولية!.
المصدر: خاص “عروبة 22“