بينما يفرق قانون العقوبات بين القتل القصد والقتل العمد، ويجرّم القاتل المباشر بغير ما يجرّم القاتل المتسبب، يأتي منطق عمر الفاروق ليضع الأمور في نصابها إذ بعث له عامله على اليمن برسالة يستشيره فيها بأمر جماعة اشتركوا في قتل واحد من أهل اليمن ، فماذا يصنع ؟ فأرسل إليه الفاروق ردا مختصرا حازما : “والله لو أن أهل اليمن جميعا اشتركوا في قتل رجل واحد لقتلتهم فيه” !! فالذي باشر القتل في قانون الفاروق، والذي أوصل القاتل براحلته إلى الضحية، والذي أضاء له في العتمة، والذي هيأ له أداة القتل، والذي حرضه عليه، كل منهم قاتل يُقتص منه ، وأبعد من ذلك كائن في عدالة شريعتنا ،فلو أن شخصا أشار إلى ضحية وقال لقاتلها (اق) – وهي شطر كلمة فعل الأمر :”اقتل”- فقتل لباء بإثم القتل .
ولقد قرر شرعنا أن “الدالّ على الخير كفاعله” ، وعليه فإن مفهوم المخالفة أن الدالّ على الشرّ كفاعله ، والمعضلة التي يضعنا الفجّار فيها أن شرهم يعمّنا أثره ، وهذه سنة الله : “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب” .
وإذا أسقطنا ما تقدم على واقع الأمة فإن كل الأطراف التي اشتركت في محاولة إحباط مشروعنا الحضاري بدءا باستهداف استقلالنا السياسي والاجتماعي وانتهاء بمحاولة استئصالنا وجوديا ، تتحمل وزر ما حلّ بنا حتى اليوم ، حتى إن الأمر ليطال جزءا من جسدنا ذاته إذ يحاول أن يعدو على بقية أجزاء الجسد في تآمر على الذات ، وعندئذ يحل الخراب .
وتطبيقا لمحاولة الإجهاز على وجود هذه الأمة على خارطة الحدث يرى أعداؤنا في فلسطين خاصرة رخوة، إذ عمل على استهدافها وإخضاعها قرابة قرن من الزمان، ولفلسطين خصوصيتها، فهي قطعة من أرض الله لا كسواها ، إنها الأرض التي بارك الله فيها وحولها ، وبقدر عِظَم الشيء يعظم استهدافه ويشتد مكر مناوئيه، وهذا هو سرّ وجع فلسطين ، هي في موقع إستراتيجي في خريطة العالم ، وشعبها من أكثر الشعوب حيوية علما وعملا، أصابتها حروب ومصائب كثيرة ظُنّ في حينها أنها مقتل ، فقامت من تحت ركامه سليمة مطهرة ، وكانت فلسطين على الدوام أرضا للأنبياء ومهاجرا ، ومقصدا للعلماء ومستقرا، ما عدا عليها عادٍ إلا أسرف في الدماء وخرّب العمران ، وما رُدّت عنها العاديات إلا بثمن باهظ وتكاليف كبيرة ، وأبتْ أن ترد على الشر بالشر ، احتلها الرومان فتسلم مفاتيحها عمر الفاروق وأبى أن يصلي في كنيستها حتى لا تتخذ من بعده مسجدا ، ثم وقعت في يد الفرنجة فغاصت ركب خيلهم في دماء المسلمين في مسجدها، وحررها صلاح الدين بأخلاق القرآن فأعطى العبّاد أمانهم وجعلهم أحرارا في أنفسهم وأموالهم ، حتى إذا وضع اليهود عليها أيديهم استدعوا كل حيلهم وجرائمهم وطبائعهم في الغدر ونكث العهود ، فغدت مسرحا لكيدهم ولطول الحبل الذي أمدهم الله به من الناس ، وما شهدت فلسطين في تاريخها محاور تشكلت كالمحاور التي نشهد تجذرها اليوم، كل محور يدفع باتجاه مصالحِه ، لكن القاسم المشترك بينها هو الكيد بالمسلمين، وكلها ترمي فلسطين عن قوس واحدة. ولنا أن نستحضر حقائق ثابتة في تاريخ التدافع البشري، من خلالها نفهم حقيقة الصراع الأزلي بين الحق والباطل :
– لا يُستهدَف إلا مبادئ لها ثقلها بحيث لو تُرِكت لأثرت في غيرها وسحبت البساط من تحت أرجل من ملأوا الأرض ضجيجا بعقائد مزيفة تفسد ولا تصلح .
– هذه المبادئ برغم رصانتها لا تقوم ذاتيا ، لكن ترجمتها في الواقع تكون على يد أتباع مستعدين أن يموتوا في سبيلها ، وهم يستمدون قوتهم من قوتها ووجودهم من وجودها .
– ليست لحَمَلة الباطل قوة إلا بقدر ضعف حَمَلة الحق ، وليس للباطل دفع ذاتي ، لكن تخلي أهل الحق عن دفع مسيرة حقهم هو الذي يترك المجال لتأخرهم ويفتح الطريق لكل مبطل .
– الحقوق لا تمنح ولكنها تنتزع : وما نيل المطالب بالتمني …. ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
– لم يكن خصوم الحق يوما أهل إنصاف ولا منطق ، فهم يدّعون أنهم أهل الأخلاق والمبادئ العالمية في حين تشهد الوقائع على الأرض أنهم أبعد الناس عن ذلك كله .
– الحقيقة لا تغيب مهما صرف المبطلون من جهدهم في سبيل طمسها ، فالحق أبلج والباطل لجلج ، وما من صاحب باطل إلا وهو يعلم حقيقة نفسه ، لكن الكفر عناد ، والطلاء الأسوَدُ كله لا يطمس نور الشمس .
طال أمد المواجهة ، لكن أمتنا كانت غائبة ينوب عنها في حضور المعمعة قوى غير منظمة ولا تملك عقلا مدبرا يوحّد الصف ويجمع الكلمة ، لكن الحقيقة حقت ، وما غاب عقودا حضر في شهور ، وما بعد السابع من أكتوبر ليس كما قبلها ، ومن شاء التراجع فقد فات ما فات ولم يبق إلا أن يصل السائرون مرمى هدفهم ، ويجرف السيل كل قاعد ، فهل نحن منتبهون ؟!
المصدر: البوصلة
عرض محكم ودقيق للقضية، ولو تنبه الكاتب الى حقيقة أن المساهمة في قتل “الأمة” وممالأة العدو على تمزيقها، وإمعان القتل والتشريد في أبنائها، واحتلال وتمزيق أرضها، يخضع شرعا وقانونا لغير ما تحضع له جرائم الأفراد.
لو تنبه لذلك لكان اتخذ مدخلا أكثر إحكاما، ودقة، وملاءمة لاحالة التي نحن عليها.
إن قتل قائد في الأمة لما يقوم به من دور في توجيهها، وإحكام مسيرتها، حسابه وعقابه يختلف عن قتل فرد أو جماعة لشخص بغرض سلب ماله أو داره، أو قتل شخص عنجهية وكبرا واعتداء.
الأول اعتداء على الأمة، وعلى مسيرتها وأمنها ومستقبلها، وهو فعل يدخل أكثر تحت عناوين الإفساد في الأرض، وخيانة الأمة، وممالأة العدو عليها.
د. مخلص الصيادي