إذا استعرضنا تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي لا يسعني إلا الاستنتاج بأن فكرتين أساسيتين تضمنهما هذا التاريخ قد تجاوزتهما الأحداث والحقائق، ألا وهما فكرة الصهيونية التي قامت عليها إسرائيل، وفكرة تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولة فلسطينية ودولة إسرائيلية تعيشان جنبا إلى جنب.
الصهيونية في الأساس حركة استعمارية استيطانية نشأت في أواخر القرن التاسع عشر لإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين. وقد نجحت هذه الحركة بالفعل في إقامة هذه الدولة على الجزء الأكبر من هذه الارض عام 1948، ثم على الجزء المتبقي عام 1967.
وقد نادت هذه الحركة منذ نشأتها بإقامة دولة يهودية من الناحية «القومية» علمانية من الناحية «الدينية» و«ديمقراطية» من ناحية تعاملها مع المواطنين اليهود فقط. لكن هذا الحلم الصهيوني اصطدم بوجود أغلبية ساحقة من الفلسطينيين على أرض فلسطين، لذا فقد اتّبعت الحركة الصهيونية خطة متدرجة ومنهجية تم توثيقها اليوم من قبل بعض المؤرخين الإسرائيليين بما لا يدع مجالا للشك، لتهجير القسم الأكبر من الفلسطينيين من أرضهم وذلك لضمان قيام دولة يهودية في فلسطين.
وبالفعل، تمكنت هذه الحركة بتهجير 750.000 من أصل 900.000 فلسطيني عام 1948 ولم تنجح في تهجير 150.000 فلسطيني عاملتهم إسرائيل بتمييز واضح. وقد ادى هذا الصمود الفلسطيني على الأرض لزيادة هذا العدد لنحو مليوني فلسطيني في الداخل يشكلون اليوم 21٪ من السكان مما دعا إسرائيل لإقرار قانون القومية اليهودية عام 2018 الذي يقر بحق تقرير المصير حصريا للمواطنين اليهود دون الفلسطينيين ضمن إطار أبارتهايد واضح.
لم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل أرادت ابتلاع كل الأرض الفلسطينية التي يسكنها اليوم 5.4 مليون فلسطيني، مما أدى الى نشوء أغلبية فلسطينية متزايدة داخل المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل. بمعنى آخر إن حلم الدولة اليهودية انتهى.
زعمت إسرائيل منذ إنشائها أنها دولة ديمقراطية، وكانت تعني بالطبع أن هذه الديمقراطية تنطبق على المواطنين اليهود فقط، وقد تبنى العالم، خاصة الغربي منه، هذه المزاعم وأعتمد عليها ليبرر دعمه لإسرائيل «الديمقراطية» المحاطة ببحر من «السلطوية». لكن هذه المزاعم بدأت بالتخلخل بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 الأطول في العالم، وبعد الانتهاكات المستمرة للقانون الدولي في الأراضي العربية المحتلة. ولكن الشعرة التي قصمت ظهر البعير جاءت عندما انقلبت إسرائيل «الديمقراطية اليهودية» على بعضها البعض، حين أراد الائتلاف الإسرائيلي الحاكم نسف أسس أي نظام ديمقراطي حقيقي من خلال محاولته إقرار قوانين تضمن تغول السلطتين التنفيذية والقضائية على السلطة التشريعية. لا تستطيع إسرائيل بعد اليوم الادعاء بأنها دولة ديمقراطية حتى لمواطنيها اليهود.
وقد أرادت الحركة الصهيونية في بداياتها أن تنشئ دولة علمانية، فعرفت اليهودية كصفة قومية، بينما كانت أكثر القوانين التي تحكم الدولة الإسرائيلية علمانية الاتجاه. ومع مرور الوقت، بدأت العلمانية تنحسر لصالح التطرف الديني والقومي، حتى تمازج اليوم التطرف القومي العنصري مع التطرف الديني العنصري أيضا، ولم تعد إسرائيل نتنياهو وبن غفير وسموتريتش هي نفس إسرائيل بن غوريون وموشيه شاريت وأبا إيبان من ناحية العلمانية. لا يمكن نعت إسرائيل اليوم بانها دولة علمانية على الإطلاق.
إذن الأسس التي قامت عليها الصهيونية لم تعد قائمة. إسرائيل اليوم ليست يهودية ولا ديمقراطية ولا علمانية. ماذا بقي من الصهيونية التقليدية إذن؟ لا شيء.
أما فكرة حل الدولتين فقد نادى بها قرار التقسيم 181 للأمم المتحدة عام 1947 والذي لم يقبله العرب، ولم تحصل أي مفاوضات بين الجانبين حوله، بل بقيت منظمة التحرير الفلسطينية تنادي بدولة واحدة ديمقراطية. وعاد حل الدولتين يذكر بوضوح في مبادئ كلينتون التي طرحها الرئيس الأمريكي على الجانبين نهاية عام 2000. ومنذ إطلاق مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 ثم عملية أوسلو عام 1993، بات المجتمع الدولي ينادي بحل الدولتين بشكل متزايد بينما ترفضه إسرائيل وتواصل بناء المستوطنات، حتى تلاقت اليوم الديموغرافيا المتمثلة في وجود أكثر من سبعمئة وخمسين ألف مستوطن في الضفة الغربية والقدس الشرقية مع الموقف السياسي الإسرائيلي الرافض لإنهاء الاحتلال والموقف الدولي الذي لا يجبره على ذلك للوصول الى نتيجة باتت واضحة: لا يمكن اليوم ولا غدا فصل الجانبين وتحقيق حل الدولتين إنْ لم يضغط المجتمع الدولي جديا لإيقاف الاستيطان وإنهاء الاحتلال والاعتراف بدولة فلسطينية على أساس حدود 1967. نعرف تماما أن الجدية لا تتوفر لدى المجتمع الدولي لفعل ذلك وبالتالي فإن حل الدولتين انتهى.
إضافة الى ذلك فإن 64٪ من الفلسطينيين اليوم لم يعودوا مؤمنين بحل الدولتين، كما أن فلسطينيي المهجر لم يكونوا يوما متحمسين لهذا الحل الذي لا يعالج موضوع حق العودة بما يحاكي تطلعاتهم وأمانيهم. كذلك فإن المجتمع الإسرائيلي يسير في اتجاه يميني متطرف متزايد، والغالبية العظمى من الإسرائيليين اليوم، وبخاصة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لا يرغبون في إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.
هذا هو الواقع حاليا. هذه حقائق قد تكون صادمة للكثيرين ولكن لا يمكن تجاهلها بعد اليوم. لا يجوز أن يبقى حل الدولتين شعارا فارغ المحتوى يرفع للتغطية على العجز الدولي بينما تواصل إسرائيل ابتلاع الأرض وزرع المستوطنات والمستوطنين.
واقع الحال إن الصراع العربي الإسرائيلي يشهد اليوم تحولا جذريا. يعيش الإسرائيليون الآن في مرحلة ما بعد الصهيونية التي فشلت في إدامة مشروعها لأنها تصطدم اليوم بواقع أكثر من سبعة ملايين فلسطيني يحطم صمودهم على الأرض الحلم الصهيوني في دولة يهودية خالصة. ويعيش الفلسطينيون في مرحلة أصبحت حقوقهم القومية والسياسية والإنسانية وتطلعاتهم للعيش على كامل الأرض الفلسطينية تطغى على دولة منقوصة السيادة لا تتضمن القدس وغور الأردن وأراضي المستوطنات وحق العودة.
إن الصمود الفلسطيني حاضرا ومستقبلا على كامل الأرض الفلسطينية من شأنه قلب الطاولة على إسرائيل وكافة مخططاتها خاصة بعد أن يشكل الفلسطينيون أغلبية واضحة ستفرض على المجتمع الدولي في النهاية أن يرفض نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. ليس ذلك أحلام طوباوية بل واقع الحال والتاريخ.
وزير الخارجية الأردني الأسبق
المصدر: القدس العربي
الصراع العربي الإسرائيلي يحكمه فكرتين أساسيتين وهما فكرة “الصهيونية” وهي مضمون الدولة المحدثة “إسرائيل”، وتقسيم فلسطين التاريخية إلى دولة فلسطينية ودولة إسرائيلية “صهيونية” تعيشان جنبا إلى جنب، فهل سيعي القادة الصهاينة نهاية حلم الدولة اليهودية من البحر الى النهر كما يدعون بنهاية حل الدولتين مع صمود شعبنا الفلسطيني بعد طوفان الأقصى، قراءة موضوعية دقيقة.