هذه ليست المرة الأولى، التي تتعرض فيها مدينة غزة، ومقاومتها المسلحة لهجوم عسكري، بري وجوي وبحري، من قبل الكيان الصهيوني بهدف احتلالها وطرد المخربين منها، على حد تعبير رئيسه بنيامين نتنياهو. فقد سبق لهذا الكيان ان شن حروبا عديدة مماثلة، خاصة في الفترة ما بين إخلاء غزة من المستوطنين بتاريخ 15 اب/أغسطس 2005، وعملية طوفان الأقصى بتاريخ 7 أكتوبر / تشرين الأول سنة 2023. حيث استخدم فيها كل أنواع الأسلحة، بما فيها الأسلحة المحرمة دوليا. مثل الفسفور الأبيض واليورانيوم المخصب. وكان من نتائج هذه الحروب، استشهاد أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني وستين ألف جريح وتدمير المدينة وبناها التحتية. ففي واحدة منها وكانت باسم “الجرف الصامد” في السابع عشر من تموز/يوليو 2014، والتي استمرت 51 يوما، استشهد ثلاثة الاف وجرح أكثر من سبعة الاف. جراء الغارات الجوية التي تجاوزت ستين ألف غارة، والاف الاطنان من المتفجرات، والصواريخ الموجهة ليعقبها غزو بري استمر أكثر من شهر ونصف. اما الحصار الذي فرضه الكيان الصهيوني على غزة، فقد جعل منها سجنا كبيرا، محاطا بأسوار عالية، وأنظمة الكترونية متطورة، وحراسة عسكرية مشددة. في حين مارست القوات الصهيونية في المعابر الحدودية، المخصصة لخروج الفلسطينيين ودخولهم، أساليب دنيئة، تنطوي على الكثير من الاذلال والمهانة.
ان هذه الحروب بعدوانيتها ضد الشعب الفلسطيني، التي تفوق عدوانية الحروب بين الجيوش النظامية، لا تستهدف المقاومة الفلسطينية فحسب، وانما هي حروب ممنهجة مارسها الصهاينة، لتصفير الوجود الفلسطيني قتلا وتهجيرا، منذ عهد الاستعمار البريطاني، وتشكيل العصابات الإجرامية من المهاجرين اليهود الى فلسطين من دول الشتات، مثل عصابة الهجانا والارغون وال بالماخ والهاش ومير وشترن وغيرها، من العصابات الصهيونية، التي اشتهرت بمجازرها الوحشية، كتلك التي ارتكبت في بلدة الشيخ ودير ياسين وقرية أبو شوشة والطنطورة وقبيه وكفر قاسم وقلقيلية وخان يونس وحيفا والقدس والدوايمة وصولا الى مجزرة صبره وشاتيلا. والهدف من ذلك كله، تصفية الشعب الفلسطيني ومحو خارطته الوطنية، وهذا ما يفسر رفض الكيان الصهيوني لاي حل سلمي، او الالتفاف عليه ورميه في سلة المهملات. سواء كان هذا الحل من قبل الأمم المتحدة او مجلس الامن او من قبل الحكام العرب، او من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، على الرغم من التنازلات المذلة التي تضمنتها تلك الحلول. خاصة حل الدولتين. بل رفض الكيان الصهيوني اتفاق أوسلو المهين سنة 1993، الذي منح الكيان الصهيوني 78% من ارض فلسطين التاريخية، مقابل سلطة فلسطينية شكلية في الضفة الغربية وقطاع غزة تدير شؤونها علنا الحكومة الصهيونية.
ان العودة الى المقاومة المسلحة، التي توجت بعملية طوفان الأقصى، هي النتيجة الحتمية للرد على مشروع الكيان الصهيوني الاستيطاني، وان هذه العملية النوعية غير المسبوقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، شكلت البداية الفعلية، لوضع حد لحروب الكيان العدوانية، واجبار قادته على التفكير ألف مرة، قبل التورط بحروب جديدة، وصولا لأفشال هذا المشروع الاستيطاني الى الابد. وبات من المسلم به ان طوفان الأقصى، التي قادها رجال شجعان، مدعومين بصمود أهالي غزة الأسطوري، ورفضهم التخلي عن المقاومة وحمايتها، تمكنت من تلقين قادة الكيان درسا موجعا لخيالهم المريض، ليعيشوا كابوس عجزهم عن الحاق الهزيمة بالمقاومة الفلسطينية، وتركيع مدينة غزة. فالجيش الصهيوني ومن قاتل معه من دول حلف الناتو، من ضباط وجنود وفرق مرتزقة وخبراء عسكرين في حرب المدن، تجاوز عددهم عشرات الالاف، فشل في تحقيق أي نصر يستحق الذكر ضد المقاومة الفلسطينية، او يستعيد هذا الجيش مكانته التي أصبحت موضع سخرية، بين الخبراء العسكريين في العالم كافة. بل على العكس من ذلك، فقد تكبد على ارض غزة، وما زالت يتكبد، خسائر كبيرة في المعدات والضباط والجنود. بل خرجت من ساحة القتال الوية عسكرية مدربة على حرب الشوارع، بعد ان فقدت نصف قوتها العسكرية. مثل لواء الجولاني.
ان عملية طوفان الأقصى، التي حطمت اسطورة الجيش الصهيوني. قد زعزعت الأساس الذي استند عليه وجود الكيان الصهيوني، وبخرت حلمه في إقامة دولته الكبرى من الفرات الى النيل. الامر الذي دعا بنيامين نتنياهو الى عقد اجتماع استثنائي لحكومته بعد ساعات من انطلاقتها، قائلا، “نحن في حالة حرب، وليس في عملية ولا في جولة قتال، شنت حماس هذا الصباح هجومًا مفاجئًا ضد دولة إسرائيل ومواطنيها. منذ الصباح عقدت اجتماعًا مع قادة المؤسسة الأمنية، وأمرت بتطهير البلدات من المخربين. هذه العملية تنفذ في هذا الوقت وبموازاة ذلك، أمرت بتجنيد احتياط واسع، العدو سيدفع ثمنًا لا يتصوره”. والرجل المتغطرس نتنياهو بتهديده هذا، انما استحضر ما قامت به رئيس الحكومة حينها كولدا مائير سنة 1973، عندما استوعب جيشها عبور القوات المصرية لقناة السويس، وتحطيم خط بارليف المشهور بقوته ومنعته، وتمكن الجيش السوري، من تحرير القسم الأكبر من هضبة الجولان وجبل الشيخ. ليشن جيش مائير هجوما معاكسا بعد أسبوع واحد من بدء الحرب، محققا انتصارات مذهلة على كلا الجبهتين، وبستة الوية مدرعة.
لكن نتنياهو لم ينجح في تنفيذ وعده، وتحقيق أي نصر يستحق الذكر، طيلة الحرب الدائرة منذ خمسة شهور، كما نجحت مائير وحققت انتصارات مذهلة في أسبوع واحد. بل لم يتمكن من القضاء على المقاومة ولا اخراجها من غزة، كما خرجت من الأردن ولبنان. فالمقاومة في غزة أصلها ثابت وفرعها في السماء. اما الالتفاف على الهزيمة بتدمير غزة واستشهاد عشرات الألوف من أهلها للخروج بماء الوجه، فقد زادت طين المحتل الصهيوني بلة. حيث ادانته دول العالم الحر وشعوبها كافة، واتهمته بجريمة الإبادة الجماعية، وارغمته على المثول امام محكمة العدل الدولية، بتهمة الإبادة في خضم خسائر مفصلية لم تلحق به. الامر الذي سيحشره في حالة تشكيك دائم، بقدرته على ادامة وجوده على ارض فلسطين. او في الأقل تقدير، سيجد نفسه مرغما على التخلي، عن أحلامه المريضة ببناء دولته المتخيلة من الفرات الى النيل.
من الصعوبة بمكان ان يصدق الخانعون وعبيد القوة، بان غزة ومقاومتها ستنتصر على الجيش الصهيوني، الذي هزم جيوشا عربية كبيرة في أيام معدودات. لكن التاريخ توفر على عدد من الانتصارات التي حققتها الشعوب بسلاح الإرادة وبحقها المشروع في تحرير بلدانها من نير الاحتلال. فعلى سبيل المثال لا الحصر، استطاع الشعب الافغاني والفيتنامي والشعب العراقي في مدينة الفلوجة، تحقيق الانتصار على الولايات الامريكية المتحدة، صاحبة القوة الأكبر في التاريخ، وإلحاق الهزيمة النكراء بها. فإرادة الشعوب، مهما بلغت من الضعف، اقوى من جيوش العالم مهما بلغت من قوة. ترى هل هناك إرادة للقتال من اجل التحرير اقوى من إرادة الشعب الفلسطيني وغزة ومقاوميها بالذات؟
ان ما يؤكد انتصار المقاومة الفلسطينية في نهاية المطاف، ما كشفته عملية الطوفان عن حقيقة هذا الكيان، فهو كيان مصطنع لن يتمكن من الصمود على المدى البعيد، على الرغم من امتلاكه قوة عسكرية ضاربة واسلحة نووية عملاقة. فهو أولا يعيش في وسط امة عربية تحيط به من جميع الجهات، وتعتبره العدو الأول لها، وخاض عدد من جيوشها حروبا ضده. وعلى الرغم من تعرضها لهزائم عدة، الا انها، في الوقت نفسه، افشلت حلم الدولة الكبرى من الفرات الى النيل. فقد حجمت هذه الحروب الكيان في مساحة محددة معروفة للجميع. بل تراجعت بعد انتزاع بعض المدن من سلطته، مثل الضفة الغربية وقطاع غزة. بصرف النظر عن المكاسب الذي حققها الكيان مثل الاعتراف به من قبل حكام الردة والتطبيع معه.
ثانيا فشلت كل الأكاذيب والحيل التي تروجها الدول الاستعمارية وبمشاركة من حكام الردة العرب وجيش من معاهد الدراسات والبحوث والصحف والمجلات وخبراء في الاعلام وغيرها. ومفادها ان الكيان الصهيوني يسعى للسلام مع جيرانه من الدول العربية. وإذا حارب فانه يحارب من باب الدفاع عن النفس. في حين ان الفلسطينيين والعرب يصرون على رمي إسرائيل في البحر. الامر الذي منح الفرصة لحكام الردة العرب لقمع اية جهة عربية او فلسطينية، تطالب بطرد المحتل واستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وبناء دولته المستقلة على كامل التراب الفلسطيني، ورفض التنازل عنه طواعية.
ثالثا ان هذا الكيان تأسس على كذبة كبيرة حاول اخفاءها أكثر من سبعين سنة، كذبة النظام الديمقراطي والايمان بالتعددية السياسية والقومية والمذهبية والدينية، كأساس للمواطنة داخل الكيان الصهيوني. حيث أعلن الكنيست قانونا يتضمن 15 بندا في 19 تموز/يوليو 2018 ينص في أحد بنوده اعتبار إسرائيل دولة يهودية وفي بند اخر دولة قومية لها الحق وحدها ممارسة حق تقرير المصير في البلاد. وأشاد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالخطوة باعتبارها “لحظة حاسمة”. وهذا يعني ان الكيان تأسس على العرق والدين وجعلتهما أساس المواطنة فيه. بل ان القومية والدين هنا يستندان، وفق المفاهيم الصهيونية الى التفوق العرقي والحق التاريخي لوجود الكيان. وسواء أدرك هذا الكيان او لم يدرك، فان الدولة التي تستند الى هذه الأسس تنقض الادعاء بان الكيان دولة حديثة تؤمن بالديمقراطية والتعددية التي تعتبر أساس المواطنة.
رابعا، الى جانب الهجرة المعاكسة التي يتزايد عددها يوما بعد اخر، وخاصة بعد عملية طوفان الأقصى التي أدخلت الرعب في النفوس، هناك ما هو أخطر من ذلك. فالجيش الذي يعتمد عليه الكيان الصهيوني في بقائه الى الابد، يشهد تهرب عدد كبير من ضباطه وجنوده من العمليات القتالية وخاصة القريبة من خطوط النار. فقد أظهرت دراسة نشرها موقع “وايت نت” الصهيوني عزوفا نسبته 67% من المجندين الراغبين بالدور القتالي، بسبب انهيار المعنويات لدى هؤلاء المجندين.
خامسا، ان دعم حكام الردة العرب للكيان والاعتراف به كدولة والتطبيع معه على الأصعدة كافة، بما يكرس وجوده في المنطقة، سينتهي عاجلا وليس اجلا، وجودهم السلطة قبل نهاية الكيان الصهيوني. فالشعب العربي يمر بإرهاصات ما قبل الطوفان. فالحكام العرب يغوصون في الوحل، بمشاركتهم، دون حياء او خجل، في تنفيذ المخطط الامريكي الصهيوني الغادر، ضد الامة العربية عموما، وفلسطين خصوصا. مما يدفع الى الاعتقاد، بان المنطقة على بركان يوشك ان ينفجر، ليقلب الطاولة بوجه الأنظمة، في مشهد شبيه بما حدث قبل سنوات، وأسفر عن الإطاحة بأربعة رؤساء. لكن الشعوب هذه المرة، بفضل وعي ما حدث ستقطع الطريق على أمريكا وحلفائها، لمنعها من تكرار افراغ الثورة من محتواها الأصيل، مثلما فعلت مع ثورة الربيع العربي، التي انتهت بتدمير دول مثل سوريا وليبيا ولبنان
ان المعركة التي تدور، بين شعب له وجوده على ارض فلسطين منذ الاف السنين، وكيان مصطنع ومتأكل من داخله، لهي البوصلة التي بموجبها، سيتحدد مسار التحولات في المنطقة.