منذ طوفان السابع من أكتوبر والمقاومة في غزة تسطر بطولات أشبه بالمعجزات، التي لا ينكرها إلا أعمى البصر والبصيرة.
بطولات سوف يخلدها التاريخ، وتأخذ بلا شك مكانها في كتبنا وحكاياتنا وذاكرتنا إلى جانب ما سطره الأجداد يوما من بطولات أمتنا العظيمة في معارك كالقادسية وأجنادين وحطين والمنصورة وغيرها… فئة قليلة عددًا وعُدةً، تصمد قرابة أربعة أشهر في وجه أعتى قوةٍ مُدجَّجةٍ بكل أنواع الأسلحة الفتاكة في المنطقة، ومن ورائها كل قوى العالم الاستعماري والإمبريالي، ولم تكتف بالصمود فقط، بل دمرت أيضا نصف آلياتها الثقيلة، ولقنتها وكل مَنْ ورائها دروسا في البطولة، كانوا يسمعون عنها فينكرونها علينا، وها هم ذا اليوم يعيشون فصولها… ونعود بالتالي لدخول التاريخ ومن أوسع أبوابه، باب التضحيات والفداء من أجل فلسطين وترابها وأقصاها، رغما عن أنف القريب والبعيد…
جنوب افريقيا
كيف يمكن أن ننسى يوما، أن دولة مثل جنوب افريقيا التي عرف شعبها عبر تاريخه التفرقة العنصرية والقمع، وعرف قادتها السجون، اختارت لنفسها موقعا متقدما إنسانيا ونضاليا ودفاعا عن حقوق الإنسان، فتقدمت بشكوى إلى محكمة العدل الدولية، نيابة عن كل الشرفاء في هذا العالم، بينما كنتم أنتم أبناء جلدتنا تتفرجون، من دون أن ينضم أحدٌ منكم إلى الدعوى التي قدمتها، ولكن صفق لها إعلامكم، وليس لكم والحمد لله، فضل في ذلك ولا منة… ولكنكم في الواقع امتعضتم من شكوى جنوب افريقيا، مثلكم مثل الغرب، لأنها فضحت عجزكم، وموقفكم المتخاذل، ولأنه لأول مرة يحشر صديقكم الكيان في الزاوية أمام العالم أجمع، ويتهم بارتكاب مجازر، وبشن حرب إبادة جماعية… إلى أن تفتقت أذهان ذبابكم الإلكتروني لرفع العتب عنكم، فاتهموا وبلا حياء دولة جنوب افريقيا أنها رفضت انضمامكم إلى ملف الدعوى!
كيف ننسى أيها السادة، أنكم سمحتم لطائرات أمريكا أن تنطلق من القواعد التي على أرض أوطاننا، وهي محملة بآخر ما أنتجت مصانعها من ذخائر وأسلحة، من دون أن تتخذوا أي إجراء ضدها، وهذا بإمكانكم فعله، لأنه يخالف في الأساس نصوص المعاهدات… ثم كيف يمكننا أن ننسى أنكم لم تستحوا من دماء الشهداء والضحايا الأبرياء، فتؤجلوا مهرجاناتكم السياحية والترفيهية.. بل جعلتم منها وسيلة تُلهي شعوبكم، وتبعدهم عن التفكير بإخوانهم المحاصرين، والممنوع عنهم كل شيء حتى الخبز والماء! وكيف ننسى مراقبتكم الصارمة لمواطنيكم، ولما يكتبونه أو ينشرونه على وسائل التواصل الاجتماعي… وغدت يافطة مطعم تحمل اسم « 7 أكتوبر »، تزعج تواضعكم، فأزلتموها لكي لا تعكر أجواء علاقتكم الحميمة بالكيان الفاشي…! وكيف ننسى تصدير بعضكم الخضار والفاكهة للكيان الغاصب، طمعا ببعض الجوائز، والثناء على إنسانيتكم الممجوجة!!
المؤامرة ولعبة الوقت
كيف ننسى يوما، أولئك الذين أمتعونا عبر أجهزة الإعلام بعباراتهم الجميلة، وبتصريحاتهم ووعودهم.. وعقدوا اجتماعات تلو الاجتماعات، ومسؤول يأتي وآخر يذهب… هذا يحمل رسالة، وآخر يطلق تصريحا بعبارات طنانة رنانة، متحدثا عن اقتراب حل الدولة، وربما نصف دولة، أو شبه دولة، ويدخلنا متاهة الألفاظ كالسفسطائيين ما بين الكيف والأين، والبين، والبين بَيْن… وكل هذا ضمن لعبة الوقت، ولكي يعطوا الكيان الغاصب فرصة، ويتنفس الصعداء، ويكمل مهمته ومجازره، والانتقام من غزة شعبا ومقاومةً وحجرا وبشرا… وتكتمل بالتالي المؤامرة على الشعب الفلسطيني، الذي لا ولن يرضى إلا بدولة على كامل ترابه… والذي لن يتوقف عن الدفاع عن أرضه، وكرامتنا جميعا وعزة أمتنا وحياضها كما لم يدافع يوما من يتشدقون بالوطنية، وصرفوا المليارات على شراء الأسلحة التي أكلها الصدأ…
كيف ننسى أنكم كنتم كذاك العجوز القاطن في البلاد البعيدة، وغيره من قادة الاستعمار، تحلمون بأن تستيقظوا طيلة هذه المدة على أمل سماع الخبر الذي سوف يسعدكم، وهو أن غزة قد سقطت، واستسلمت مقاومتها ـ لا سمح الله ـ فترتاح نفوسكم وتستعدون لإلقاء التصاريح والخطب التي أعدت لكم مسبقا… ولكن ما لم تتوقعوه وكل العالم الاستعماري معكم، هو أن تصمد غزة صمودا أسطوريا، وتتخطى في صمودها قرابة أربعة أشهر… ولم يتوقف الأمر عندكم، بل حتى المنظمات الدولية التي تتاجر بفقرائنا ومآسينا، ولا تترك مناسبة إلا ونراها فيها حاضرة، قد اختفت فجأة من الساحة، وبقي بعض أفرادها كشاهد زور، ولكي يطلوا علينا بابتساماتهم التي تبعث على التقزز عبر الفضائيات، وهم يتحدثون عن المجاعة ونقص الأطباء والدواء والغذاء والمعدات الطبية وكل شيء… من دون أن يسموا المجرم باسمه، أو أن يذكروا شيئا عن تآمر المجتمع الدولي المتمدن جدا، وما وقف الدعم لمنظمة الأونروا، إلا فصل من فصول ذلك التآمر المفضوح!
رفح والحدود المصرية
وإن نسينا أشياء كثيرة كعادة البشر، فإننا لن ننسى استغلال المرضى والجرحى على معبر رفح، والمافيات المَحْمية التي نبتت فجأة، وأخذت تبتز المواطنين البائسين، وكل يوم ترفع أسعارها، حتى أصبح العبور عدة آلاف من الدولارات، وكأنهم عابرون إلى فردوس الله… طبعا من دون أن تهتز في جسدكم شعرة! ثم كيف ننسى أيضا، أولئك الذين نهبوا شاحنات المساعدات بينما كانت تنتظر إذنا بالدخول إلى القطاع، فوصل بعضها بربع حمولته، وبعضها الآخر شبه فارغ…؟!
وكيف ننسى كذلك، عمليات الاستيلاء على المعدات الطبية الحديثة، وإبدال سيارات الإسعاف الجديدة، بأخرى حضرت الحرب العالمية الثانية، وبالكاد تدور محركاتها…؟! وكيف ننسى ذلك الخبر الذي نزل علينا كالصاعقة، عندما أعلن محامي الكيان الغاصب أمام محكمة العدل الدولية، وعلى الملأ، أن الكيان الفاشي غير مسؤول عن إقفال معبر رفح، وأن ذلك بقرار مصري، غامزا بكلامه وبلؤم فاضح إلى موضوع «السيادة»، وإلى المشاركة معه في التآمر على الشعب الفلسطيني… ومع ذلك لم تهتز لكم شعرة، أو تستحوا فتنفوا كلامه، أو تعلقوا عليه!
وكيف ننسى، جموع شعب مصر الأبي التي حضرت مشيا على الأقدام إلى أمام معبر الذل، وهي تحمل على ظهورها الماء والأغذية والأدوية، وما أمكنها حمله، وبقيت لأيام أمام المعبر، تنتظر إذنا، بالسماح لها بملاقاة إخوانها في العروبة والإنسانية، فأجبرتموها على الرجوع من حيث أتت، وقمتم بالتعتيم على حركتها التي فضحت تآمركم… وكيف ننسى، الأوفياء للقضية من أبناء الشعب المصري، وهم يحتجون أمام نقابة الأطباء، والصحافيين، والمحامين، وفي الجامعات… ويهتفون:
عملوها أحفاد مانديلا.. واحنا في عار وخوف ومذلة…
طول ما الدم العربي رخيص، يسقط.. يسقط.. أيِّ رئيس… اكتب عالحيطة والباب.. أمريكا بترعى الإرهاب…
كيف ننسى بعض أنظمتنا، التي وضعت الفلسطينيين المقمين عندها تحت المراقبة، وبعضها ذهب أبعد من ذلك، بأن اعتقل بعض الناشطين من الفلسطينيين احتياطا وحذرا، مرسلا برسالة إلى من يهمه الأمر… وكيف أصبح الفلسطينيون بالتالي متهمين، فقط لأن إخوتهم في غزة لبسوا أكفانهم، مدافعين عن أرضهم وعرضهم، معلنين «ننتصر.. أو ننتصر». وكيف ننسى مراقبتكم الصارمة لخطباء الجمعة في بلادكم، حتى أصبح كثير من مواطنيكم يفضلون صلاة ظهر الجمعة في بيوتهم أربع ركعات، وعدم الذهاب إلى مساجد يسرح ويمرح فيها رجال المخابرات، وتعلو فيها أصوات الخطباء خالية من كلمة الحق، التي هي أفضل الجهاد… كيف ننسى أولئك الذين طالما صدعوا رؤوسنا بكرامة دم المؤمن عند الله، وعندما فاضت بحار دماء الأبرياء، جلسوا صامتين يتفرجون، واعتبروا أن ذلك فتنة..!
لكن، تأكدوا أننا لن ننسى أولئك الذين كنتم تنعتونهم في خطبكم بالكفار، كيف أنهم خرجوا إلى الشوارع متضامنين متظاهرين، رافعين أصواتهم هاتفين من أجل فلسطين وحريتها، ولكي يتوقف الذبح والقتل والتدمير في غزة… وكيف ننسى أن جماهير كرة القدم في كل دول العالم هتفت لغزة ولفلسطين، ولوقف هذه الحرب الظالمة، وأنتم كممتم أفواه المشجعين في بلادكم، بحجة أن ذلك يسيء إلى سمعة الرياضة ويُسيُّسُها، فصفق لكم مجرمو الكيان الغاصب، الذين لم يخطر ببالهم مدى حِذقكم…
وأخيرا، وليس آخرا.. لماذا تريدون منا أن ننسى، وبناء على أي مكرمة قدمتموها وكل قادة العالم الغربي خلال هذه المأساة الفاجعة…!؟ وإذا كنتم أنتم ستنسون يوما خطاياكم وأفعالكم، فشعوبنا لا تنسى، ولن تنسى… وراجعوا حكايات شعوبنا وتراثها المَحْكي، وكيف أن البُسطاء في بلادنا يروون حتى يومنا هذا، ما فعله كل المتخاذلين عبر التاريخ، ويتندرون بخياناتهم وجبنهم… واعتبروا يا أولي الألباب…
كاتب وباحث لبناني مقيم في باريس
المصدر: القدس العربي
نعم كيف ننسى ولماذا ؟ سؤال يتكرر عن مآسي وخيانة وخذلان و…. الأنظمة العربية بكل شيئ من أجل غزة ؟ قراءة موضوعية لمواقف خذلان الأنظمة العربية لشعبنا المكلوم بغزة وما قدمته جنوب أفريقيا والآخرين لشعبنا في غزة بعد طوفان الأقصى .