منذ بدء الهجوم الإسرائيلي الوحشي على غزّة بعد عملية 7 أكتوبر، اهتم الأميركيون بفصل ساحات “المقاومة” المرتبطة بإيران عما يجري في غزّة، وتحديداً جنوب لبنان؛ استقدموا حاملات طائرات وصواريخ كروز إلى شرق المتوسط، وكان في مقدّمة مهام وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في جولاته الخمس إلى المنطقة، تهدئة جنون حكومة نتنياهو المتطرّفة، ومنع جنوحها باتجاه رفع مستوى الرد على استفزازات حزب الله شمالاً إلى حربٍ في لبنان. وأرسلت إدارة بايدن موفدها، عاموس هوكشتاين، بين بيروت وتل أبيب، للتوسّط في تسوية وفق القرار 1701 حول ترسيم الحدود البحرية، والمقابل إطلاق يد حزب الله في الداخل اللبناني، لكن الحزب اشترط وقف العدوان على غزّة للبدء في التفاوض، ويصعّد يومياً ضرباته العسكرية المحدودة على الأراضي المحتلة شمال إسرائيل. التصعيد الحوثي في البحر الأحمر، ربطاً بما يجري في غزّة، كان مفاجئاً بالنسبة لواشنطن، وردّت عليه الأخيرة بحذر، بأن ارتجلت تحالفاً دولياً رمزياً، رفضت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا الانضمام إليه، وكذلك دول عربية وازنة، كالسعودية ومصر والإمارات، فيما اقتصرت الضربات الأميركية المحدودة والرمزية أيضاً ضد جماعة أنصار الله في اليمن، على مشاركة بريطانية، في رسالة واضحة إلى طهران ومليشياتها المنتشرة في أربع دول عربية، لمنعها من تحقيق الانتصارات في لعبة تصعيد محدود بين الطرفين تبدو أشبه بالعضّ على الأصابع.
رفعت إيران عبر وكلائها منسوب التصعيد، في لبنان ضد استقرار شمال إسرائيل، وفي اليمن ضد حركة التجارة البحرية، وفي العراق وسورية ضد القوات الأميركية، بأسلوب حرب العصابات، رافعة شعار نصرة حركة حماس؛ بذلك اختارت أن تتقدّم الساحات لتكريس دورها في المنطقة، بعد أن توقفت المفاوضات مع الغرب بشأن برنامجها النووي، ولرفع تكلفة الانتشار الأميركي في الشرق الأوسط، وأن يصبح محل جدل وإرباك لإدارة بايدن في أروقة الكونغرس في سنة انتخابية. ليست إيران أيضاً في وارد توسيع الحرب خارج غزّة، لأنها غير مستعدّة لخسارة استثماراتها في أيٍّ من مليشياتها بعد أن أمضت سنوات في دعمها وتمويلها، والتي تلخص نفوذها في المنطقة، وتشكل العمود الفقري لمجمل سياستها الخارجية، كما أن الحرب ستقود إلى تصاعد حدّة الاحتجاجات الشعبية الإيرانية في الداخل. ما تريد طهران تحصيله من تصعيدٍ عالٍ في المنطقة، لكن من دون مستوى الحرب الإقليمية، هو تسجيل النقاط، وحجز مقعدٍ متقدّمٍ للتفاوض مع الغرب على كل الملفات الإقليمية بعد غزّة، وبالتالي أن تصبح هي الدولة الإقليمية الأقوى في المنطقة، في غياب تركيا المأزومة اقتصادياً عما يجري في فلسطين، وضعف الموقف العربي الذي يميل إلى إظهار الحيادية، والانكسار الإسرائيلي أمام طوفان الأقصى وصمود المقاومة.
يدعم الموقف الإيراني في التصعيد كلٌّ من روسيا والصين، خصوصاً بالنسبة للتهديد الحوثي للتجارة الإسرائيلية عبر البحر الأحمر، كجزء من الصراع مع الغرب على الممرات الملاحية العالمية؛ حيث رفضت موسكو وبكين التصويت في مجلس الأمن على قرار يطالب الحوثيين بوقف الهجمات على السفن. ورغم أن تجارة الصين باتجاه شمال أفريقيا وأوروبا متضررة، لكنها متحمسة لإلهاء أميركا في حروب جديدة في الشرق الأوسط. الضربات الأميركية- البريطانية لمواقع تخصّ البنية التحتية لجماعة أنصار الله محدودة ورمزية، كان قد تم تسريب معلومات في وسائل الإعلام عن توقيتها وأهدافها العسكرية، ولم يوقف استهداف الحوثيين عبور السفن بالصواريخ؛ كما أن طهران أبعدت سفنها قبيل الضربات بساعات، ما يدلّ على تجنّب الطرفين للمواجهة المباشرة. كما أن حماية ممرّ البحر الأحمر، والذي يعبر منه 15% من التجارة الملاحية في العالم، أمر مكلف بالنسبة للغرب ولا يمكن أن يكون استراتيجية مستدامة.
بقي القول إن انتشار المليشيات الطائفية المدعومة من إيران في المنطقة، قد تم تحت نظر وموافقة أميركيين ضمناً؛ فقد انسحبت إدارة أوباما من العراق وتركته للمليشيات المدعومة من إيران، وسمحت بدور بارز للحرس الثوري الإيراني في سورية لدعم نظام الأسد، وتركت لضربات إسرائيل على المواقع الإيرانية في سورية مهمّة تحديد هذا الدور، فيما تمر قوافل الإمداد الإيراني إلى الضاحية الجنوبية في لبنان عبر العراق وسورية ضمن كوريدور لا يبعد سوى عشرات الكيلومترات عن قاعدة التنف الأميركية في سورية على المثلث الحدودي السوري الأردني العراقي. وفي اليمن، أوقف بايدن، حال وصوله إلى البيت الأبيض، الدعم الأميركي لحرب اليمن، ورفع جماعة أنصار الله (الحوثيين) من قوائم الإرهاب، وهو الآن يعيد إدراجهم في تلك القوائم في تخبّط واضح للإدارة الأميركية.
هذا التخبّط الأميركي سببه خيارات واشنطن لتنفيذ استراتيجيتها في التحكّم في منطقة تعتبرها، هي وحلفاؤها الغربيون، مسرحاً لمصالحهم. واستمرار تقديم الإنعاش العسكري والاقتصادي إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي هو في أساس هذه المصالح، لأن استمرار هذا الكيان والمضي في التطبيع العربي معه، وفق منطق استعلائه “الحضاري” وتفوّقه العسكري، يضمن تحكمه في المنطقة كأداة بيد الغرب، خصوصا بعد اتضاح قوة المخزون البشري في المنطقة بعد موجة الثورات العربية. وبالتالي، من الأنسب حرف الصراع في المنطقة، من صراع عربي “جماهيري” ضد الوجود الصهيوني، إلى صراعاتٍ طائفية. هكذا كان هناك تواطؤ أميركي إيراني لنشر مليشيات شيعية في أربع دول عربية، وأن يشكّل تصاعد نفوذ طهران فيها أساساً لدخول دول عربية في تحالفاتٍ مع إسرائيل ضدّ إيران. قلبت عملية طوفان الأقصى الطاولة في وجه الأميركيين، فهم يواجهون اليوم صراعاتٍ جانبية مع وكلاء إيران كنتائج لتركهم تلك المليشيات تنتشر في المنطقة، إلى جانب التعاطي مع اندلاع الصراع الأساسي ضدّ الكيان الصهيوني في غزة.
المصدر: العربي الجديد