إن ما جرى ويجري على الساحة الفلسطينية في غزة العزة والضفة الغربية، هو أهم ما يواجهه المشروع الغربي الاستعماري بكل أطيافه ومسمياته في المنطقة العربية، وفي العالم الثالث على الإطلاق. ونستطيع القول وبكل أريحية إنه المسمار الأهم في نعش المشاريع الاستعمارية والصهيونية في العصر الحديث، ومنذ سايكس بيكو.
صحيح إن أمتنا خاضت قبلها حروبا كثيرة في هذا المجال يأتي في مقدمتها «العدوان الثلاثي» وإسقاط ما كان يسمى «حلف بغداد » ولكن، هذه هي المرة الأولى التي يقوم بهذه المهمة شعب مقاوم، وليس نظاما من الأنظمة. شعب محاصر في بقعة ضيقة من الأرض، ممنوع عنه كل شيء… ولكنه خلع ثوب الجبن الذي ألبسوه لشعوبنا وأبناء أمتنا، وخاض المعركة نيابة عن كل الأمة بمفرده، ناشدا الحرية له ولنا جميعا، وللأسف فإن بعض القادة لا يكتفون بالتفرج عليه وهو يذبح، ويسفك دمه، وتدمر بيوته، بل يسلطون عليه زبانيتهم من رجال دين، وإعلاميين موتورين، وذباب إلكتروني، وأشباه مثقفين، لكي ينهشوا بلحمه…!
إن هذه المعركة التي تخوضها غزة والضفة اليوم بمفردهما، هي بلا شك معركة حريتنا جميعا كأمة وشعوب وأوطان. إن أبناء غزة والضفة يقاتلون اليوم بالنيابة عنا جميعا، وذلك لأننا جميعا نقع ضمن نطاق الحلم الصهيوني القديم «من الفرات إلى النيل» هذا الشعار الذي ليس مجرد شعار مطلقا، بل هو حلم صهيوني وضعت لها خطط، ووضع قيد التنفيذ على نار هادئة، ويسعون لتحقيقه شيئا فشيئا. ومخطئ من ظن يوما أن وطنا واحدا من بلاد أمتنا سيكون في منأى عن مخاطر الصهيونية وأطماعها.
إن ما يتناقله كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي من أقوال لقادة سابقين في الحركة الصهيونية، وبعض حاخاماتهم ومؤرخيهم من أنه لن يهدأ لهم بال إلا بعد عودتهم إلى المدينة المنورة، مدينة الرسول الكريم، والسيطرة على ضفاف الفرات والنيل… ليست مجرد أقوال من تأليف العوام في سهراتهم كما كنا نظن يوما، إنما هذا طموحهم وما يسعون إليه، وهو ما اكتشفناه عندما حطت بنا الأقدار في أوروبا، وبدأنا نطالع أدبياتهم، وما ينشرونه حول تاريخهم وأمانيهم وأحلامهم… فكاد الواحد منا أن يصعق حقا…! حيث اكتشفنا أننا أمام منظومة متكاملة من كل النواحي، كتبت بما يستقيم مع الرواية التوراتية المدبجة أصلا لخدمة أهدافهم الصهيونية في السيطرة على المنطقة العربية، ومنها ينطلقون للسيطرة على العالم. وليس من باب المبالغة القول بأن ما يطمحون له، ويخططون له، هو أن تصبح شعوبنا مجرد عبيد عندهم، كالنعاج بل أضل سبيلا، وبأوامر إلهية كما يزعمون، انتقاما لما حدث معهم خلال السبي البابلي، وكأننا المسؤولون عنه، وعلينا دفع الثمن.
لقد اكتشفنا أيضا أن هناك ما يقولونه لعامة الناس حول الإنسانية والعدالة وحقوق الإنسان والمحبة وحب الشعوب الخ… وهي قضايا تخفي مشروعا صهيونيا حاقدا، يستريح في داخل المشروع الاستعماري الغربي للمنطقة، ويتوافق معه بالأهداف، ولكنه أكثر منه خطورة، لأنه يعتبر أن منطقة الشرق الأوسط بأمها وأبيها ملكه، وأن الله وهبها لشعبه، وعنده بذلك كل الحجج والبراهين والصكوك التوراتية المفبركة، التي يدعمها الغرب الاستعماري دبلوماسية وإعلاما وضغوطات على اختلاف أنواعها… واكتشفنا ما هو أخطر من ذلك، وهو أن النقاش في هذه الأمور لا يؤدي فائدة، لأنه نقاش عقيم مع أناس ألغوا العقل والمنطق، وتشبثوا بالترهات والأساطير، وأن النقاش الجاد معهم موصل إلى طريق العداء للسامية كتهمة جاهزة في جيوبهم، والتي قد تصل إلى الملاحقة القضائية إذا أرادوا.
هذه المعركة التي تخوضها غزة والضفة بمفردهما اليوم هي بلا شك معركة حريتنا جميعا كأمة وشعوب وأوطان
وهم يعتقدون وكما خططوا، أن مشروعهم هذا سوف يصل في نهاية المطاف إلى ما وصل إليه البيض العنصريون في أمريكا، والذين ارتكبوا حرب إبادة بحق السكان الأصليين «الهنود الحمر» وهو نفسه ما يقوم به الكيان الصهيوني في تعامله مع الفلسطينيين ومنذ عام 1948، من مجازر وتهجير وقمع واضطهاد وقتل، وتدمير للتراث، ومسح للهوية والشخصية واللغة، ومسخ للإنسان، وقضم للأراضي قطعة قطعة، وبنفس الحجج والذرائع «أرض بلا شعب»…!
وللأسف فإن عملية ما أسموه «تطبيع» ما هو إلا وسيلة وخطة محكمة للسيطرة على أوطاننا ومقدراتها، والتي في حقيقتها احتلال مقنع، يملون من خلاله شروطهم. ومن أحسن الظن وفكر عكس ذلك، فهو لا يفقه شيئا في فلسفة « الاستيطان الصهيوني » الاستعماري وخططه وأساليبه… وأن حال هذه الأنظمة المطبعة، سوف يكون يوما ما، وبعد فترة، كما هو حال السلطة الفلسطينية، شكلا مهلهلا بائسا من أشكال الحكم، يتلاعبون ويتحكمون بها كما يشاؤون… وهو ما يتطابق مع ما في كتبهم من نظريات في حكم العالم، وقواعد التعامل العنصرية. وها هي ذي السلطة الفلسطينية، كيف كانت في بداياتها فاعلة إلى حد كبير، وتقف لهم الند للند، وكيف حجموها فيما بعد على نار هادئة، وانتزعوا منها كل صلاحياتها، حتى غدت كفزاعة الحقول «خيال المآته» يتحكمون فيها أمنا واقتصادا وحركة.
أما التطبيع مع مصر، وإن كان يراوح مكانه منذ اتفاقية «كامب ديفيد» بفضل رفض وعناد الشعب المصري الأصيل، إلا أنه يتم طبخ مصر بهدوء وبأسلوب سافل، وما عملية محاصرة مصر من خلال سد النهضة مؤخرا، والضغوطات الاقتصادية المختلفة، إلا وجه من وجوه الصهيونية الاستعمارية القبيحة. وها هو ذا النظام المصري قد غدا وكما يبدو أمام الجميع عاجزا مطيعا، ولم يستطع بعد أكثر من مئة يوم على حرب الإبادة في غزة، أن يدخل إليها شاحنة مساعدات إنسانية من طحين أو ماء أو دواء، ويقفل حدوده معها ويفتحها، بأوامر من الكيان الصهيوني، ووفق مشيئته.
وما من داع للحديث عن التطبيع مع الأردن، واستئجار أراضيه في الغور، وماء نهره الذي هو اليوم بأمس الحاجة إليه، ويعاني شعبه اليوم من شح المياه، ويجد نفسه متورطا، لا يستطيع إلغاء هذه الاتفاقيات، أو حتى عدم تجديدها في المستقبل بعد انتهاء أجلها، لأنها غدت من حيث يدري أو لا يدري حقا مكتسبا، ولو فكر يوما بإلغائها، فإن أمريكا ودول الغرب قاطبة حاضرون لكي يضغطوا عليه، ويفرضوا عليه ما يريده الصهاينة، طبعا مع إعطائه بعض المساعدات التافهة، وكثير من المديح والكلام المعسول، في الوقت الذي سيتم فيه تحسين شروط وبنود الاتفاقية لصالح الكيان الغاصب.
إن حرب غزة اليوم قد أجلت مشاريع التطبيع التي كانت تدغدغ مشاعر البعض، وربما ألغتها إلى غير رجعة، وصنعت بدماء شهدائها سدا منيعا في وجه كل الأطماع والمشاريع الصهيو استعمارية. وقدمت للعرب شعوبا وأنظمة فرصة كبيرة لكي يخرجوا من تحت العباءة الصهيو أمريكية، ولكي تصنع أنظمتنا مستقبلا آخر لأوطاننا وشعوبنا… ولهذا لا بد من استغلال هذه الفرصة والبناء عليها.
ولو تركتم أيها العرب غزة تسقط، وسقطت ـ لا سمح الله ـ استعدوا من بعدها لدفع الثمن، الذي لا تعرف حدوده، ولن يفلت عندها أحد من براثن هذا الغول الصهيوني الحاقد، المستعد بكافة الوسائل لكي يتحكم برقاب الجميع، ولن تنفع عندها الحسرات… إن هذه الدماء الزكية في غزة فرصة يجب استغلالها لكي يفكر الطامحون للتطبيع ويدركوا قبل فوات الأوان، أن التطبيع احتلال مقنع، وأن أرض الأوطان لا يمكن بأية حال من الأحوال تأجيرها، وخصوصا لكيان لا يعترف أصلا بحدودنا، ويعتبرها جزءا من كيانه التاريخي، وكذلك لا يحترم اتفاقا ولا قانونا ولا عرفا، ولا يعرف للإنسانية معنى، وأن أطماعه التوسعية، وشهيته لاحتلال أوطاننا بلا حدود، وأن ساسته، ومن ورائهم الأمريكان والغرب الاستعماري، يكذبون لو قالوا في اجتماعاتهم بكم إنهم يريدون السلام… بل إنهم يريدون منكم كل شيء، فقط لا غير… يريدون الأوطان وخيراتها، وتسخيرنا جميعا لمآربهم وغاياتهم طائعين صاغرين، وبمعنى آخر يريدوننا عبيدا عندهم، وسبايا بكل ما لهذه الكلمة من معنى…!
كاتب وباحث لبناني مقيم في باريس
المصدر: القدس العربي
المسمار الأهم في نعش المشاريع الاستعمارية والصهيونية في العصر الحديث منذ سايكس بيكو يتمثل بما يجري بحرب غزة، كلام معبر ودقيق، وإن سقطت غزة ونجحت أجندة نتنياهو فعلى الانظمة العربية الاستعداد لدفع ثمن تخاذلهم لها ولن يفلت عندها من براثن الغول الصهيوني الحاقد أحد المستعد بكافة الوسائل ليتحكم برقاب الجميع، ولن تنفع عندها الحسرات.