حين انطلقت الثورة السورية قبل 13 عاما كان الشعب الثائر يهتف بلسان واحد وعلى قلب واحد وبحنجرة واحدة، الكل يندفع إلى الشارع الكل يشيد بالشهداء والكل يتداول الصور ومقاطع الفيديو المسكونة بعبق التحرر، حينها سادت ثنائية الشعب الثائر من جهة ونظام الأسد من جهة أخرى، ولكن بعد سنوات بدأ الصف الثوري تعتريه حالة من عدم الاستقامة وظهر عوار القادة والنخب التي تسيدت الثورة في مختلف الجوانب.
ويختلف الحال بالبلاد عما كان عليه مع بداية الثورة، ولا مجال للمقارنة بين قادتها الأوائل وبين من يتصدر قيادتها في الوقت الراهن، فقد كان رجال البدايات بعيدين عن كل الأهواء والمكاسب الشخصية ويتمتعون بالنزاهة، كما أن ارتباطهم بالبلاد وأهلها وكرامتها كانت تعلو على ما عداه.
في حين أن الذين يتسيدون المرحلة الراهنة غير قادرين على النهوض بواقع البلاد و المستوى الذي تتطلبه مرحلة إعادة ترميمها على كل المستويات، فالواقع المعاش يشهد أن المصالح والمكاسب أضحت متحكمة بالمطلق في كل قرار يتم اتخاذه ولم تعد البلاد بالنسبة لجميع القوى العسكرية والسياسية أكثر من مساحة جغرافية للإثراء حتى بلغ الأمر الجانب المدني بالمنظمات وكذلك التعليم التجاري الخاص بكل مراحله.
القوى العسكرية
بينما القوى العسكرية كل تنظيم منها اعتمد على مصدر اقتصادي معين لتمويل ذاته والمحافظة على وجوده وبقائه في الساحة، وعملت على توليد موارد اقتصادية واستغلالها، الأمر الذي زاد من حدة الصراع والصدام المسلح فيما بينها، وعملت على تجنيد الشباب العاطلين عن العمل عبر الحوافز المالية وبالتالي زيادة قوتها وتعاظم شوكتها في البلاد.
فالمناطق والنواحي التي تحررت من حكم طغيان نظام اللادولة أصبحت بيد سلطات عندها للنضال مقابل مادي ووظيفي يبرر لهم القيادة حتى ولو على حساب منهم أكفأ وأقدر على تصريف الأمور، وهكذا تناسل الفشل من رحم الفساد، لذا ما نعيشه اليوم من حالة ترد في مختلف الجوانب ليس إلا حصادا طبيعيا لتخبط وعبث سلطات الواقع العاجزة والتي لا تتقيد بعمل المؤسسات، وفي الوقت نفسه هي غير قادرة على تأمين حاجات ومتطلبات سكان المساحة الجغرافية التي تشغلها، بل هي أقرب ما تكون إلى كيانات صغيرة تسعى إلى تثبيت ذاتها بوظيفتها الشكلية.
وبعد سنوات من الثورة أصبح يسيطر هاجس الشك وعدم الثقة بالمعارضة السورية ومؤسساتها، والخوف من المستقبل وما يترتب على انهيار الأمن من تداعيات واتساع مؤشرات الفساد وعدم توفر فرص العمل، وازدياد سوء الحالة المعيشية للسكان، بينما ما زالت المعارضة السورية تدور في فلك الهذيان والضياع، وهم يتعللون بالحلول السياسية ومتطلباتها، ولا يعدو طرحها عن توصيف التحديات الداخلية والخارجية، دون تقديم رؤية واضحة ولا هدف ولا هوية والاكتفاء بالبناء على الركام القديم، مع سقوط الخيار العسكري في مواجهة نظام الأسد، وفقدان المعارضة لأهم مقومات القوة الذاتية وهي تحديد الهوية والهدف، والاكتفاء بترديد شعارات سئم الشعب سماعها دون أن يصاحبها على الأرض سياسات توضح النهج الجديد ومبادئ الثورة ذهبت أدراج الرياح مع قوة الرضوخ للإملاءات الخارجية.
فيما عجزت مراكز الأبحاث ومنظمات المجتمع المدني التي تديرها شخوص المعارضة عن تقديم بدائل ناجحة، بل توالى وكثر عقد ندواتها ونشر أبحاثها التي لا تعدو عن كونها توصيفا للماضي والحاضر وترديدا للشعارات والمناداة بمبادئ ليس لها مفهوم واضح ولا تطبيق ناجح يمكن الاتفاق عليه ولعل المنظومة التي تجمعهم هي المنظومة نفسها التي جمعت الأحزاب والاتحادات والنقابات في نظام الأسد ولم يتحقق منها سوى الخيبة.
أما الشعار الذي أجمعت عليه مراكز الأبحاث والمنظمات عند المعارضة السورية هو متطلبات المرحلة الانتقالية والمستقبلية، والسعي نحو الدولة الديمقراطية وهذا في الحقيقة جري وراء السراب الذي يحسبه الظمآن ماء، حيث تتميز دراساتها وبياناتها بمجمل المفارقات المتعلقة بضرورات المطالب الشعبية من جهة وتحدي بناء النموذج التنموي البديل من جهة ثانية، والضغوطات الإقليمية والدولية ومعاييرها مقابل الخصوصية الوطنية، كل ذلك مقابل إلزامات سياسية مكروهة، فضاعت الحرية المنشودة والاستقلالية في اتخاذ القرار وممارسة السيادة ومبادئ الثورة، حيث الإملاءات والتبعية للخارج.
وهو بشكل عام لم يخرج عن سياق ترديد شعارات عفى عليها الزمن حيث أخذ يردد شعار تداول السلطة؟ والفصل بين السلطات؟ واستقلال القضاء؟ وحرية التعبير؟ ولكن لم يستجد شيء من هذه الشعارات قبل أو بعد ثورة الشعب السوري؟
وقبل الثورة أنجز نظام الأسد مجموعة من الألفاظ على المستوى اللغوي وأفرغها من اي مضمون، ومن أهمها: “التطوير والتحديث ، الشفافية، حقوق الإنسان، الانتماء، التعددية السياسية” وغيرها من المسميات وفي سير خط الثورة أيضا سارت المعارضة السورية على نهجه باستيراد ألفاظ جديدة بحركات جديدة مفرغة أيضا من المضمون ومن أهمها: “الحوار الوطني، الدولة المدنية، الحوكمة، التشبيك والتمكين، والصوابية السياسية والشراكة المجتمعية والسلم الأهلي والعيش المشترك”، وكل هذه العناوين لم تنتج محصولا ولا حراس بيادر !
فقد اختفى عبق الثورة وانطفأت جذوتها وقل حماسها، لم يبق من الثورة إلا ذكرى أيام خالدة سطر فيها الشعب الثائر أروع صور التضحية والمواجهة أمام نظام ظالم مستبد.
فهل ماتت الثورة؟ أم هي في غرفة الإنعاش؟ هل يرجى شفاؤها؟
الضعف والهشاشة
هذا هو السؤال الذي اصبح يسأله الشعب الثائر
لماذا وكيف رضخت الثورة لمخططات الخارج؟ وماذا نسمي هذا الرضوخ والضعف والهشاشة من المكون السياسي والعسكري والتعامل من منطلق أنصاف الحلول وأرباعها؟
والتاريخ يقول إنه لا توجد ثورة انتصرت ثم استسلمت لجلاديها، وأن الشعوب لا يمكن أن تنسى، لكن في الوقت ذاته أخبرنا التاريخ أن الثورات تتسخ وتتلوث وتكون عرضة للإمتطاء من تجار الثورات والمؤدلجين والمحزبين والمتثورين واللصوص وأصحاب الأجندة اللاوطنية.
فقد أصبح في الشمال السوري انفصال رأي عام عن تأييد الثورة السورية، وهذا يسمى التراجع التعاقبي للحدث، أي العودة السلبية للحدث إلى نقطة البداية رغم كل الخسائر والتضحيات المهولة، وهذا كفيل بفشل الثورة حتى تحولت إلى بندقية للإيجار ومشاريع استثمار، أي أن الثوار أنفسهم فقدوا الأمل الذي دفعهم للقتال، وهو ما انعكس سلبا على طاولة المفاوضات وإيجابا على نظام الأسد؟
والنتيجة تحول مشروع الثورة إلى أغنية وحلم يقظة للمتاجرين بها وكابوس للشعب، وأي ثورة لا تعرف إمكانية الوصول إلى النتيجة النهائية بوضوح تقع بكمين اختطاف الثورات، أو مابات يعرف بالثورة المضادة.
فمن تسيد قيادة الثورة شكل سلطات وهمية تدعي الثورية وتلبس لبوسها وهي في الحقيقة جماعات من المتاجرين اختطفت الثورة وزاد نفوذها بـانكفاء أصحاب القضية والثوار الحقيقيين.
ما يسود حال الثورة من تراجع وانحلال وطني، والأخطر الانحلال المجتمعي من خلال تعزيز الانتماءات القبلية والدينية والقومية وما وصل إليه حال البلاد بفضل سلطات الأمر الواقع لا يخفى ولا يستطيع أن ينكره أو أن يجادل به أحد، إلا من به مس المصالح والمكاسب، وباستثناء القلة القليلة من المنتفعين لم يعد هناك سوري مقتنع بأن قيادة المعارضة السورية، التي تعيش على تاريخ الثورة الذي صنعه الشهداء والشعب الحر هي القيادة الأجدر والأمثل التي تليق بتضحياتهم، أو أنها القيادة القادرة والمؤهلة لقيادته نحو تحقيق أهدافه المنشودة، المرحلية أو المستقبلية.
الإصلاح وإعادة البناء
ولم يعد خيار الإصلاح وإعادة البناء، من خلال الفك والتركيب ممكنا، بعد أن أخذت السلطات فرصتها كاملة طيلة عشرات السنوات الماضية، فلا بد من التجريف والتطهير، وليس إعادة تدوير المستعمل، بل للجديد في الاستراتيجية السياسية والمجتمعية، وفي النظام السياسي والاجتماعي والجديد في الأداء والأدوات كافة، وعدم توفر الظروف لا يعني عدم تفعيل العوامل الذاتية المناسبة للتغيير.
الإصلاح ومحاربة الفساد هما المخدر الذي تستهدف به سلطات الأمر الواقع الشعب، ويتم خداعه بشعارات براقة من دون وجود أثر ملموس واقعي ومن دون استعانة بالعقل لتقييم تلك الشعارات التي تخدر عقلهم وتكسب عاطفتهم.
فالواقع الحالي للثورة السورية يستدعي تفكيرا غير نمطي وجاد في كيفية إنقاذها ممن تسلق عليها ولوثها وتلوث بالفساد والتشبث بالسلطة، وفشله بالرغم من امتلاكه سلطة وموارد، وكف يد المعارضة التي تتجاهل مسؤولياتها الوطنية
ومتفرغة للرحلات الخارجية وعقد المؤتمرات والندوات التنظيرية والبيانات الوهمية.
المصدر: القدس العربي
هل ماتت الثورة؟ أم هي في غرفة الإنعاش؟ هل يرجى شفاؤها؟ هذا ما يسأل عنه الثوار الأحرار ، لماذا وكيف رضخت الثورة لمخططات الخارج؟ وماذا نسمي هذا الرضوخ والضعف والهشاشة من المكون السياسي والعسكري وتعاملهم من منطلق أنصاف الحلول وأرباعها؟ يستدعي تفكيرا غير نمطي وجاد لكيفية إنقاذها ممن تسلق عليها ولوثها وتلوث بالفساد والتشبث بالسلطة .