سوف تسعى الحكومات القادرة إلى استمالة الناس الذين تصاعد شعورهم بالإذلال بسبب تأثيرات “كوفيد-19” والاستجابة لمطالبهم بمزايا أكبر، وقد خصصت بعضها مليارات الدولارات لهذه الغاية… أما الحكومات التي لا تستطيع -أو التي لن تلتزم- بتخصيص مثل هذا القدر من الأموال، فإنها قد تسعى إلى لجم المشاعر التي تم إطلاقها حديثا، وتحويل اللوم إلى كبش فداء آخر، والبقاء على قيد الحياة لمواصلة القتال. ومن المرجح أن تسعى بعض الحكومات إلى أن تكون قمعية بشكل متزايد، على أمل أن يتحول الساخطون الشاعرون بالإذلال إلى مجرد فقراء محيّدين صامتين، قانعين بأن المقاومة جهد عقيم، وأن يصارعوا لمجرد البقاء على قيد الحياة بدلا من النضال من أجل تغيير النظام.
* *
لم يأسر محمد البوعزيزي خيال العالم لأنه كان وسيما، أو غنيا أو قويا. بدلا من ذلك، كان بائع الفاكهة التونسي، الذي أحرق نفسه مؤذنا بانطلاق “الربيع العربي” في العام 2010، مصدر الإلهام لعشرات الملايين من العرب لأنهم تعاطفوا مع يأسه، وشعوره بالمهانة والإذلال.
إننا غالبا ما نفكر في السياسة بمنطق الثنائيات المعارضة: اليمين مقابل اليسار؛ الريف مقابل الحضر؛ الشمال مقابل الجنوب. ومع ذلك، مهما تكن الطريقة التي يعرّف بها الناس أنفسهم، فإن هوياتهم السياسية هي نتاجات للظرف والمعتقد، مع وجود نوع من الحسابات في جواهرها.
يؤدي الإذلال واسع النطاق إلى ظهور نوع مختلف من السياسة؛ سياسة تنطوي على قدر أقل من الحسابات وكم أكبر من العاطفة. واليوم، بينما يتسبب وباء “كوفيد-19” في تقويض الاقتصادات العالمية ويلقي بحصيلة قاتمة وثقيلة بشكل خاص على كاهل أولئك الأكثر ضعفا والأقل تمتعا بالأمان في جميع أنحاء العالم، فإن سياسات الإذلال سوف تتصاعد على المستوى العالمي. وسوف تستمر آثار هذه السياسة في العمل لسنوات قادمة.
والقضية المطروحة هنا ليست سياسات الفقراء. في أكثر الأحيان، يعاني فقراء العالم الدائمون بصمت، لأن حصيلة الخسائر التي تكبدوها في سنوات من النضال من أجل مجرد البقاء على قيد الحياة تولد في نفوسهم السلبية والانفصال.
إن الذين يتعرضون للإذلال هم، بطبيعتهم، ليسوا سلبيين. إنهم يستذكرون وضعا سابقا، أو يطمحون إلى وضع أفضل بشكل كبير. ويمكن أن يشهد تعقب شعورهم بالإذلال إلى تغيير هائل طرأ على حيواتهم -على سبيل المثال، معايشة هزيمة في حرب، أو نفي، أو انهيار اقتصادي- أو إلى الوعي المتزايد. وقد يعاني الأشخاص المهانون من صدمات فردية أصيبوا بها، مثل التعذيب الذي عانى منه زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، وزعيم تنظيم “داعش” السابق، أبو مصعب الزرقاوي، في السجون.
مهما يكن السبب، فإن جزءا مما يدفع الشاعرين بالإذلال هو اعتقاد عميق بأن مكانتهم المتدنية الحالية قد جاءت نتاجا للظلم. وينتج شعورهم بالإذلال رد فعل عاطفيا لا يني يحترق وينتشر، مثل النار في الهشيم، عبر المجتمعات. وعندما يشعر عدد كاف من الناس في أي شعب بعينه بالإذلال، فإن شعورهم بالمهانة يتحول إلى سياسة. وعنذئذ، لا يؤدي عملهم إلى رفع درجة حرارة السياسة فقط؛ إنهم يرفعون الرهانات والمخاطر أيضا. وسرعان ما تصبح سياسة الإذلال وجودية.
نظرا لعمق التباطؤ الاقتصادي الحالي وطبيعته العالمية، حتى أكثر السيناريوهات تفاؤلا تضع عودة الحالة الطبيعية على بعد أشهر. ولن نصل إلى نقطة توازن جديدة لبعض الوقت، وعندما نصل، سوف تكون مختلفة عن تلك التي كانت قبلها. وفي هذه الأثناء، وحتى بعد ذلك، سوف تنتشر المعاناة على نطاق عريض.
من الصعب ألا نتخيل أن تكون هناك فئات كاملة من الناس -في الولايات المتحدة وحول العالم- والتي ستكون جائحة “كوفيد-19” بالنسبة لها وقودا للشعور بالإذلال. ومع استمرار حالة عدم اليقين والقيود المفروضة على مدى شهور أو سنوات، سوف تؤدي معدلات البطالة التي ترتفع بشكل حاد بين العاملين في مجال الخدمات -في خدمات الطعام، والضيافة والتجزئة- إلى إسلام أسر الطبقة المتوسطة إلى براثن الفقر، وسوف تلقي بالأسر الفقيرة في أتون الأزمة. سوف تنفد الإعانات الحكومية، وسوف تعاني الأسواق المالية. وسوف تواجه الحكومات أزمات في الميزانية، وسوف تنخفض قدراتها، وسوف تتبخر قدرتها على تحمل مؤونة أنواع البنية التحتية ومشاريع البناء التي غالبا ما تخضع لبرامج التحفيز الاقتصادي. ويمكن أن يخسر الملايين مدخرات حياتهم، وأن يفقدوا منازلهم، وأن يجوعوا.
إن ما يضرب بشدة في العالم الغربي الآن سوف يضرب بقوة أكبر في العالم النامي. هناك، شبكات الأمان الاجتماعي أضعف، وثمة قطاعات أكبر من القوى العاملة التي إما تعمل لصالح مؤسسات صغيرة أو في القطاع “غير الرسمي”. وهناك، لديهم هوامش أضيق، والقليل من المساعدة التي يمكن الاتكاء عليها. والأكثر من ذلك، تفتقر الحكومات في ذلك العالم إلى قدرة نظيراتها الغربية على تخفيف الأعباء، وإنقاذ الوظائف وتوفير المأوى.
وقد رأينا مسبقا حكومات، مثل حكومة الهند، وهي تتراجع عن القيود والإغلاقات التي فرضتها بسبب فيروس كورونا، لأن اقتصاداتها لا تستطيع أن تتعامل مع استمرار إغلاق البلاد. وفي أماكن مثل إيران، التي كانت بطيئة في فرض القيود إلى أن توزع المرض وانتشر كثيرا، تتم إعادة فتح الاقتصادات على الرغم من ارتفاع معدلات الإصابة بشكل حاد. وهكذا، يجري الآن مسبقا زرع بذور الأزمة المستقبلية.
من التفاؤل الاعتقاد بأن السياسة التي ستنبثق عن “كوفيد-19” ستكون ممتنة لخبراء الأمراض المعدية وخبراء الصحة العامة الذين أنقذت تحذيراتهم المجتمعات من المزيد من اليأس. دائما سوف يأمل التكنوقراطيون في أن يتم تقدير حكمتهم.
لكن الأكثر ترجيحا هو أن يكون هناك بحث سياسي عاطفي عن المسؤولين عن البؤس واسع النطاق. ومن المرجح أن تكون الحكومات في الطرف المستقبل لهذا العداء المتزايد.
سوف تسعى الحكومات القادرة على ذلك إلى استمالة الناس الذين يشعرون بالإذلال والاستجابة لمطالبهم بمزايا أكبر. وقد خصصت الحكومة الأميركية حتى الآن 6 تريليون دولار للتعافي، وخصصت حكومة اليابان مؤخرا تريليون دولار لهذا الجهد. وسوف تأمل الحكومتان في إخراج العاطفة من السياسة.
أما الحكومات التي لا تستطيع -أو التي لن تلتزم- بتخصيص مثل هذا القدر من الأموال، فإنها قد تسعى إلى لجم المشاعر التي تم إطلاقها حديثا، وتحويل اللوم إلى كبش فداء آخر، والبقاء على قيد الحياة لمواصلة القتال. ومن المرجح أن تسعى بعض الحكومات إلى أن تكون قمعية بشكل متزايد، على أمل أن يتحول الشاعرون بالإذلال إلى مجرد فقراء محيّدين صامتين، قانعين بأن المقاومة جهد عقيم، وأن يصارعوا لمجرد البقاء على قيد الحياة بدلا من النضال من أجل تغيير النظام.
بالنسبة للولايات المتحدة، من المرجح أن يكون المشهد المحلي مختلفا، وأن يكون المشهد العالمي مختلفا أكثر. محليا، من المرجح أن يزداد الاستقطاب السياسي، بينما يضع تقلص الموارد الحكومية والمطالب المتزايدة مجموعات المصالح ضد بعضها البعض وأن تضغط على حكومات الولايات والحكومات المحلية. سوف يتم سن قيود مستدامة على الهجرة. وسوف تتضاءل التوقعات والغايات العالمية التي تبنتها الولايات المتحدة على مضض في خضم الحرب العالمية الثانية، ثم احتضنتها بقوة في أعقابها. وفي الوقت نفسه، ثمة مراجعة قادمة للإنفاق العسكري الأميركي، وللالتزامات الأميركية في جميع أنحاء الكوكب.
في الخارج، من المرجح أن تتشوش البلدان الأكثر ثراء، في حين ستعاني معظم البلدان متوسطة الدخل والفقيرة من البؤس المتزايد والاضطراب السياسي. وسوف يسعى السياسيون إلى حشد الناخبين حول الأعداء المشتركين، سواء كانوا طائفيين أو دينيين أو قوميين أو أيديولوجيين. ويمكن أن نشهد عودة لكل من الحروب الأهلية والحروب عبر الحدود، ومعها تصاعد في الإرهاب.
في المشهد العام، تعمل معظم هذه التغييرات على زيادة النفوذ العالمي للصين بينما تقلل من نفوذ الولايات المتحدة. سوف تنظر الحكومات التي تعاني من مشاكل بإعجاب إلى النموذج الاستبدادي الصيني، وسوف تقل فوائد التعاون مع الولايات المتحدة -اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. فالحكومة الصينية لا تطلب الكثير من شركائها، وليس لديها الكثير من المخاوف إزاء كيفية عملهم داخليا. وكدولة بلا حلفاء –حرفيا- وتنطوي على رؤية متشائمة بشكل عام إزاء الطبيعة البشرية، فإن مستقبلا عالميا “هوبسيا” Hobbesian هو واحد تشعر الصين بأنها مستعدة له.
لا تستطيع الولايات المتحدة منع قدوم مثل هذا المستقبل، لكنها يمكن أن تجعله أقل احتمالا. تحتاج الولايات المتحدة إلى فهم الظروف الحالية وإعادة التركيز على القدرات الفريدة التي تمتلكها للتأثير على البيئة العالمية. لا يوجد بلد أو مجموعة دول تتمتع بنفوذ يعادل نفوذ الولايات المتحدة، سواء من حيث القدرة على الإكراه أو الاستمالة. وكانت الولايات المتحدة، لعقود من الزمان، غير مركزة على مصالحها والوسائل اللازمة لتطويرها.
الفرصة المتاحة الآن للولايات المتحدة لا تتعلق بالمال أو البنادق -الأدوات الواضحة التي يسعى مسؤولو الحكومة الأميركية إلى نشرها في جميع أنحاء العالم. إن الفرصة تتعلق أكثر بالقدرة على القيادة والقدرة على التعريف والقدرة على الإلهام. وتحتاج الولايات المتحدة إلى أن تكون بصدد شيء أكبر من نفسها، وعليها أن تشير في اتجاه مستقبل يطمح إليه مليارات الأشخاص الآخرين، وأن تستشرف أيضا مسارا لتحقيقه. إن الولايات المتحدة لا تغتنم هذه الفرصة كما يبدو، والتي إذا ضاعت، فإن صدى النتائج سوف يتردد لعقود طويلة قادمة.
*نائب الرئيس الأول، وشاغل كرسي بريجنسكي في الأمن العالمي والجيو-استراتيجي، ومدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن يركز على قضايا الدفاع والأمن القومي والعلاقات الدولية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: COVID-19’s ‘politics of humiliation’: A chance for the US to lead — or to lose control
المصدر: – (ذا هِل) / الغد الأردنية