الانقلابيون يلعبون على مشاعر الأفارقة الذين يعانون نهب ثرواتهم واحتكارها من قبل فرنسا خصوصاً.
شهد العالم خلال الأعوام القليلة الماضية تطورات دراماتيكية في ما يعرف بدول الساحل الأفريقي، إذ وصل عدد الانقلابات التي شهدتها المنطقة منذ عام 2020 إلى ثمانية انقلابات عسكرية، كاشفة عن حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، في دول تعاني بالأساس فقراً وضعف البنى السياسية والاقتصادية.
يأتي ذلك بعد أن قطعت القارة الأفريقية عموماً شوطاً مهماً خلال العقد الماضي لجهة تداول السلطة بشكل سلمي، فما العوامل الرئيسة لانقلاب الأوضاع وعودة حالة عدم الاستقرار في منطقة الساحل؟ وهل الواقع الجديد الذي خلقته الانقلابات العسكرية المتتالية في كل من مالي وبوركينافاسو والنيجر والغابون يعد طريقاً لتحرر المنطقة من السيطرة الأجنبية، كما تزعم وسائل إعلام المجالس العسكرية الحاكمة، أم أن ذلك مجرد محاولة لتبرير الانقلاب على الأنظمة الحاكمة، وكسب التأييد، رغبة في تحقيق “شرعية شعبية”، في ظل غياب الشرعية السياسية والقانونية.
دلالات الاسم والجغرافيا
درج الباحثون في الشؤون الأفريقية على إطلاق مصطلح “دول الساحل الأفريقي” على منطقة تضم خمس دول، هي موريتانيا وبوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد، والتي تحاذي جغرافياً كتلاً جيوسياسية كبرى كالمغرب العربي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ومنطقة البحيرات الكبرى والقرن الأفريقي، وعلى رغم أن التعريف يحيل دلالياً على وقوع هذه الدول في شريط ساحلي، فالواقع أن معظم دول هذا المجال الجغرافي تعد دولاً حبيسة، ليس لها منفذ بحري، عدا موريتانيا التي تتمتع بإطلالة على المحيط الأطلسي.
وتذهب أبحاث أخرى إلى ضم دول مثل السنغال والسودان وإريتريا، لتمتد الخريطة من البحر الأحمر إلى المحيط بطريقة متصلة، إذ يشير بعض الباحثين إلى أن هذا الشكل الذي يمتد من ساحل البحر إلى ساحل المحيط في وسط شمال القارة، هو الذي أسهم في إطلاق التسمية المعتمدة بدول “الساحل الأفريقي”.
سكانياً تضم هذه الدول الخمس الأساسية لتعريف دول الساحل نحو 99 مليون نسمة، في حين يمتد نطاقها الجغرافي إلى نحو 5.4 مليون كيلومتر مربع، يقع معظمها على خط الصحاري القاحلة، في حين يأتي سكانها تحت وطأة الفقر والحاجة، على رغم تمتعها بثروات طبيعية عدة من المعادن الثمينة.
الأسباب الداخلية والخارجية
يقرأ الباحث في العلوم السياسية محمد أغ إسماعيل أن ثمة أسباباً داخلية وأخرى خارجية، أسهمت في حال عدم الاستقرار في منطقة الساحل.
ويحدد الأسباب الداخلية في أنها تتعلق بجملة من العوامل من بينها الطبيعة الجغرافية، إذ تقع المنطقة في صحراء قاحلة تعاني ندرة الأمطار، فضلاً عن أن المساحات الشاسعة مقابل قلة عدد السكان، إضافة إلى شح الإمكانات الاقتصادية والأمنية، القادرة على توزيع الثروة وفرض الأمن، قد أسهمت في عدم قدرة هذه الدول على خلق مناخ سياسي مثالي لقيام دول وطنية حقيقية، إضافة إلى فشل تلك الأنظمة في إدارة التعدد الإثني والثقافي داخل كل بلد وفشلها في القيام بمهامها الاستخراجية والتوزيعية، مما جعل الولاءات للقبائل وجماعات الضغط والمصالح أكثر من الانتماء للوطن.
وفي تناوله الأسباب الخارجية يرى إسماعيل “أن أهمها التدخلات السافرة على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية للدول الخارجية، وبخاصة المستعمر السابق فرنسا”، بسبب الموارد الطبيعية في هذه الدول، كالذهب والنفط واليورانيوم والحديد والفوسفات والمنغنيز، فضلاً عما يوفره “موقعها الجغرافي من ميزات استراتيجية لوقوعها بين أفريقيا جنوب الصحراء وشمال القارة”.
فشل الدولة الوطنية
من ناحية أخرى، يقول الباحث في العلوم السياسية إن الدول الأفريقية عموماً تعد صنيعة مؤتمر برلين (1884- 1885) الذي عمد إلى تقسيم القارة السمراء وترسيم حدودها الدولية، من دون مراعاة للمؤثرات الإثنية والثقافية والدينية لسكان الخطوط الحدودية.
ومن ثم “فإن هذه الدول قامت على بنى غير طبيعية كنتيجة لمخارج المؤتمر، إذ وجدت الجماعات السكانية نفسها منقسمة بين الدول”، وفق محمد أغ إسماعيل، الذي نوه بأن معظم من حكموا بعد الاستقلال لم يحدثوا قطيعة سياسية واقتصادية وثقافية وإدارية مع أنظمة ما قبل الاستقلال، بل ظلوا مرتبطين بمصالح المستعمر السابق، وبقي الأخير محافظاً على امتيازاته ومصالحه الاقتصادية، فضلاً عن استمرار التدخلات السياسية في دعم الأنظمة القائمة أو الانقلاب عليها في حال تهديدها مصالحه.
ويضيف “إن مشروع الدولة الوطنية المستقلة في منطقة الساحل الأفريقي قد فشل خلال العقود الستة الماضية”، مشيراً إلى أن استمرار حال عدم الاستقرار والخلل البنيوي في اقتصاداتها على رغم الثروات التي تتمتع بها، علاوة على تحولها إلى منطقة جاذبة للحركات المتطرفة، نظراً إلى غياب القدرات الأمنية، واعتمادها على قواعد عسكرية أجنبية تابعة للمستعمر السابق، كلها مؤشرات توحي بفشل هذا المشروع، رابطاً ذلك بالدرجة الأولى بفساد النخب السياسية الحاكمة، بجانب العوامل الأخرى.
صحوة أم كبوة؟
وفي رده على سؤال يتعلق بتقييم الانقلابات الأخيرة التي شهدتها أربع دول في منطقة الساحل، وما إذا كانت تعبر عن “صحوة وطنية ضد الممارسات السابقة”، بخاصة مع مظاهر التأييد الشعبي الذي تبلور في تظاهرات عدة عرفتها تلك الدول، يشدد الباحث المالي بالقول “لا أعتقد ما نراه اليوم جزء من صحوة وطنية، على رغم الحملات الإعلامية التابعة لمدبري الانقلابات العسكرية في هذه المنطقة”.
وتابع “التظاهرات التي تخرج للشوارع وتصور من قبل سدنة الأنظمة العسكرية الجديدة، باعتبارها عفوية، ليست سوى مجرد استغلال للمشاعر الشعبية”، مضيفاً “لا شك أن هناك غضباً شعبياً كبيراً على الأنظمة السابقة، وتطلعاً لرؤية نظام جديد، مما يحمل الفئات الشعبية على دعم أي توجه لإنهاء عهدها، إلا أن ذلك لا يعبر بالضرورة عن رغبة الشعوب الأفريقية في العيش تحت سلطة العسكر”.
ومضى في حديثه “فلننظر إلى كل من مالي وبوركينافاسو، فقد يشهد البلدان أسوأ مرحلة في تاريخهما بعد الانقلاب لجهة انتشار حالات القتل والانهيار الاقتصادي وكثرة النازحين واللاجئين مع استمرار مد يد العون إلى موسكو”، مشيراً إلى أن ثمة ضرورة لبروز تيار ثالث، لا يعيد الأنظمة السابقة ولا يمنح كارتاً أبيض للانقلابيين.
ثروة تحت خط الفقر
من جهته رأى الصحافي الغابوني جوزيف ليون أن الاعتماد على فرضية شح الموارد الاقتصادية والمالية، لتفسير فشل مشاريع الدولة الوطنية في الساحل، يحتاج إلى إعادة قراءة، مضيفاً أن “عدداً من هذه الدول تتمتع بثروات طبيعية هائلة، بما فيها النفط والمعادن مثل اليورانيوم والحديد والفوسفات وغيرها”.
وذهب ليون إلى أن الأنظمة التي أعقبت الاستقلال تميزت بعقد الصفقات مع مستعمراتها السابقة، إذ احتكرت من خلاله دولة مثل فرنسا معظم الثروات، مقابل توفير الحماية الأمنية والعسكرية والدعم السياسي والدبلوماسي لبقاء الأنظمة، وتثبيت أركان حكمها لفترة أطول.
ويتفق ليون مع فرضية نشوء هذه الدول بطريقة غير طبيعية، مما أفرز إشكاليات تتعلق بالأزمات الحدودية، إذ انقسمت القبائل القاطنة في مناطق التماس بين عدد من الدول، وأسهم فشل الأنظمة في إدارة التنوع الإثني والديني في خلق أرضية للنزاع الداخلي، إضافة إلى غياب مؤسسات رقابية في ظل انتشار الفساد المالي والاقتصادي، الأمر الذي ضاعف من “أزمة الانتماء الوطني”.
ويشير ليون إلى أن “دولة مثل الغابون التي تتمتع بثروات نفطية ضخمة، يرزح شعبها تحت خط الفقر”، وهذا مثال لفساد النظام في توزيع الثروة بشكل منصف، فضلاً عن غياب التداول السلمي للسلطة.
ويردف بالقول “إن ذلك لا يعفي المعارضة السياسية من المسؤولية، إذ اندمجت بعض الأحزاب في نظام الزبائنية، والقبول بلعب أدوار مرسومة من قبل الأنظمة، فيما ذهب بعضها الآخر للارتهان لقوى خارجية”، مضيفاً ثمة “تجريف سياسي ممنهج وواسع تم انتهاجه لسبعة عقود كاملة، مما أفقد الشعب الثقة في البدائل السياسية القائمة، من خلال أحزاب المعارضة، في الوقت ذاته الذي يرفض فيه استمرار النظام الحاكم.
ويبرر ليون خروج الناس للشوارع إثر الانقلابات التي شهدها عدد من دول الساحل لهذا السبب، إذ تبدو المؤسسة العسكرية كطرف ثالث، ينحو تجاه ممارسة دور وظيفي، على أمل بناء حياة سياسية جديدة.
ويضيف عاملاً آخر يتعلق بالخطاب السياسي الذي تبنته المجالس الانقلابية، والقائم على فض الشراكة مع القوى الغربية، وهو الأمر الذي يخاطب مشاعر الأفارقة الذين أصبحوا يشعرون بنهب ثرواتهم واحتكارها من قبل فرنسا خصوصاً، إلا أن هذا الخطاب وحده غير كاف – بحسب رأيه – إن لم تتبعه خطط تنموية واضحة، وجدول زمني لتنظيم انتخابات شفافة بأسس سليمة.
المصدر: اندبندنت عربية