قبل أيامٍ من دخول قانون “قيصر” الأميركي حيّز التنفيذ، اندفعت مجموعات من راكبي الدراجات النارية الرخيصة في شوارع بيروت، مُضرمةً النار في أملاك عامة وخاصة، وتنقّلت بخفّة مشهودة بين حواجز ومواقع القوى الأمنية الرسمية، ورشقتها بالحجارة والزجاجات الحارقة، قبل أن تُقفل عائدة إلى أحيائها بعد ساعات من الفوضى العارمة!
عادت فِرق الدمار الشامل سالمةً تماماً، إذ لم يتم توقيف أي فردٍ منها، بينما نشطت قوات حفظ النظام خلال الشهور الفاصلة منذ اندلاع انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) في ملاحقة المعلّقين على وسائل التواصل الاجتماعي والناشطين السلميين في التحركات الشعبية، وبلغ عدد الذين سجنوا أو حُقَّق معهم نحو ألف مواطن!
لم يُثِر هذا الأمر الاستغراب، فغزاة المدينة ليلة الثاني عشر من يونيو (حزيران) كانوا جزءاً من منظومة درّاجة، تولت قبل أربعة أيام فضّ وتخريب مسيرة شعبية، بحجة أن بعض المشاركين فيها يطرحون تسليم سلاح حزب الله، (الإيراني المصدر والتبعية)، إلى الدولة.
في ذلك اليوم أيضاً، دفع هؤلاء “المندسون” الوضع إلى حافة صدام مذهبيّ، عندما انخرطوا في ترديد شعارات وشتائم تمسّ مقدسات المسلمين، ثم توّجوا حركتهم باختراق حيّ مسيحيّ، هاتفين بعبارات مسيئة لمعتقدات سكّانه!
المجموعات نفسها عادت في يومٍ تالٍ إلى الشارع لـ”تتلو” شعارات نقيضة! صار ضرورياً الآن الهتاف بوحدة الشيعة والسُّنة والمسلمين والمسيحيين، قبل أن يحين موعد إحراق وسط البلد الذي تبنته وشجّعت عليه مواقع تواصل واضحة الانتماء والارتباط.
في كل هذه المعمعة الخطيرة التي وضعت لبنان على حافة حرب أهلية، بعد أن أنهكه انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق، لم يتم توقيف مرتكب، ولم توجّه التهمة إلى دراجة! والسبب الذي يدركه كثيرون ويرددونه سراً وعلناً، هو أن غالبية المشاركين في هذه الأحداث الخطيرة تنتمي إلى الحزبين الشيعيين، “أمل” و”حزب الله”، وتأتمر بأوامرهما.
والحال، أنّ المشهد اللبناني المعقّد يتحمّل أكثر من تفسير لهذا السلوك العدواني التفجيري الذي يسلكه “الثنائي” المذكور. فالطرفان وهما ركن السلطة القائمة يكنّان عداءً عميقاً لأي تحرّك شعبي مدني، وقد تفجَّر عداؤهما ضد المشاركين في انتفاضة الـ17 من أكتوبر، خصوصاً في المناطق الشيعية، أكثر من مرة، وعانى المنتفضون من أبناء الطائفة الشيعية الأمرّين منهما، اعتداءات وتهديدات لمراكز الاعتصامات في الجنوب والبقاع اللبنانيين، وفي بيروت العاصمة.
على أن “الثنائي”، وقد تمكّنا من الإمساك بالحكومة التي قامت في أعقاب الانتفاضة واستقالة حكومة سعد الحريري، باتا معنيين بحماية “حكومتهما” في وجه الاحتجاجات الشعبية المستمرة، وفي الوقت عينه استعمال هذه الحكومة لتحقيق الحد الأقصى من المكاسب في بنية السلطة اللبنانية. والحكومة القائمة هي في مسار الحياة السياسية اللبنانية المأزومة إنجازٌ سياسيٌّ للفريق الشيعي على حساب الطوائف الأخرى. وقد أضيف هذا الإنجاز إلى مكسب كبير سابق هو الفوز برئاسة الجمهورية، الموقع اللبنانيّ المسيحيّ المارونيّ الأول، وإذا أضفنا ذلك إلى الاختراقات في صفوف الطائفة الدرزية وطوائف أخرى لتبيّن كيف أن “الثنائي” الذي يقوده حزب الله تمكّنا من وضع أيديهما على مفاتيح أساسية في السلطة وفي المجتمع اللبناني المتنوِّع.
ويُجرى استعمال الحكومة الراهنة التي يرأسها حسّان دياب في شكل يثير غضب الأوساط الفاعلة في الطائفة السُّنية، التي تشهد على سقوط الموقع المخصص لها في النظام الطائفي اللبناني في يد وتصرف طائفة أخرى تذهب قيادتها الرئيسة بعيداً في تبني خيارات إيران المعادية السُّنة والعالم العربي، وتمعن على المستوى الداخلي في الاستحواذ على مواقع السلطة الإدارية والمالية، كما حدث في تعيينات أخيرة فُصِّلت على مقاس حاجات ومصالح رعاة دياب وحكومته.
ليس سلوك حزب الله و”الثنائي” الذي يقوده جديداً على السياسة اللبنانية الداخلية، فالسعي إلى الهيمنة هو ترجمة لأيديولوجيته الدينية الإيرانية، ولبنان في نظره ولاية من ولايات الوليّ الفقيه، المرشد الإيراني علي خامنئي. وفي ظروف الخصام الأميركي الإيراني يحوِّل الحزب المذكور لبنان إلى ساحة من ساحات إيران في الرد على الحصار والعقوبات الأميركية، وبسبب انخراطه في دعم الرئيس السوري بشار الأسد سيعمل على جعل لبنان أيضاً منصة مواجهة مع قانون “قيصر” الأميركي الذي يشمل بعقوباته كل من يتعامل مع النظام السوري، بمن في ذلك إيران وحزب الله والمتعاونون معه من الساسة ورجال الأعمال اللبنانيين.
لبنان اليوم عالقٌ في المتاهة الإيرانية السورية، ووظيفة سلطته، بدلاً من الاجتهاد للخروج من أزمته الاقتصادية والمالية والاجتماعية، توفير الأرضية المناسبة للدفاع عن مصالح إيران ونظام الأسد.
إنه وضعٌ مشابه للوضع العراقي في بعض وجوهه، لكن من دون حضور أميركي فاعل. لقد اضطر الحشد الشعبي العراقي، وهو المرادف لحزب الله اللبناني، إلى تقديم تنازلات ولو شكلية إلى حكومة الكاظمي عشية بدء الحوار الاستراتيجي بين أميركا والعراق، وجاءت هذه التنازلات في مذكرة قدّمتها قيادة “الحشد” مطلع الشهر الحالي، تتضمن تعهدات بالابتعاد عن المناطق الحضرية والاكتفاء بتسمية فصائل الحشد، وهي في غالبيتها تتعاطف مع إيران بأرقام، مثل “اللواء العاشر” بدلاً من “النجباء” مثلاً.
ومن الواضح أنّ الموالين إيران في العراق اضطروا إلى اتخاذ هذه الترتيبات عشية حوار الحكومة مع أميركا، الذي تولاه من الجانب الأميركي وكيل الخارجية الخبير بشؤون لبنان والعراق ديفيد هيل، بسبب معرفتهم حجم الثقل الأميركي في العراق، وهذا لا يتوافر مثله في لبنان، وإلا لكان حزب الله وافق منذ زمن، ومن دون أميركا، على مطلب اللبنانيين بإجراء نقاش حول الاستراتيجية الدفاعية. ذلك الحوار الذي بدأ في عام 2006 بقيادة نبيه بري، ثم توقف بعد غزوة مايو (أيار) 2008 التي احتل خلالها حزب الله بيروت الغربية.
من لبنان إلى العراق تتحكّم العناوين الكبرى التي ولّدتها محاولات إيران السيطرة على “غرب آسيا”، غير أن ذلك لن يوقف مطلب اللبنانيين، ومثلهم أبناء العراق، في استعادة دولتهم، وإنقاذ اقتصادهم، وإعادة إطلاق النمو والازدهار. ولذلك فإن أفلام الأيام الأخيرة في شوارع بيروت، ذات الإخراج التدميري والتعايشي الرديء، يصعب أن تقف عائقاً أمام استمرار انتفاضة اللبنانيين، وهو ما أكدته تحرّكات نهاية الأسبوع تحت عنوان: “البديل موجود”، وهو ما ستنحو إليه التطورات المرتقبة.
المصدر: اندبندنت عربية