منذ عدة أيام، والكثير من المعنيين بالشأن العراقي، وبعض المحللين السياسيين، مشغولون بالتحركات العسكرية الامريكية في عدد من المدن العراقية، والتي ترافقت مع طلعات جوية لطائرات حربية في سماء العراق. حيث وصفوا هذه التحركات، بانها تستهدف المليشيات المسلحة، وتصفية بعض قادتها، بالطريقة نفسها التي صفي بها قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس. اما البعض الاخر فذهب بعيدا، وقال ان أمريكا قررت انهاء النفوذ الإيراني في العراق او تحجيمه، وتمهيد الطريق امام رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، لتنفيذ برنامجه الإصلاحي، الذي يتعاكس، حسب زعمهم، مع مصالح هذه المليشيات المسلحة، ومصالح الإطار التنسيقي الذين ينضوون تحت لوائه، بقيادة الفاسد الأول نوري المالكي. لينتهوا الى دعوة الناس لإعلان فرحتهم باقتراب يوم الخلاص من هذا الكابوس على حد تعبيرهم.
سعى الى دعم هذا الخيال وترسيخه، من قبل الذين يصفون أنفسهم بأنهم قريبون من مراكز صنع القرار الأمريكي. فقد استحضر هؤلاء مقولات عفاها الزمن، وجرى التخلي عنها، لضعفها وهشاشتها، امام التحليل السياسي الدقيق، وامام الوقائع العنيدة. حيث استندت الى استنتاجات ساذجة، مفادها توجه امريكي لمعاقبة إيران وطردها من العراق، جراء دعمها لروسيا في حربها ضد أوكرانيا. اما الجانب الاخر من هذه المقولات، فتمثل في اجراء مقارنة، بين الاحتلال الامريكي والاحتلال الإيراني. ثم تغليب الخطر الإيراني، وصولا الى مقولة عدو عدوي صديقي. اي التعاون مع المحتل الامريكي لأنهاء النفوذ الإيراني والميليشيات المسلحة، الموالية لها. متناسين ان هذا النفوذ الإيراني، ليس وليد اليوم، وانما تحقق منذ احتلال بغداد، قبل أكثر من عشرين سنة، وان من فسح المجال لإيران بهذا الامتداد داخل العراق، هي امريكا مقابل الخدمات التي قدمتها لها إيران.
لم يقتصر الامر عند هذا الحد، فالمليشيات نفسها، ساهمت في اخراج هذه المسرحية، حيث انتهزت هذه الفرصة لتقديم نفسها، كفصائل مقاومة وليست كميليشيات مجرمة. زاعمه انها ستخوض حربا ضروس ضد القوات الامريكية. حيث قامت باستعراضات عسكرية تدعو للسخرية. فنصبت عناصر منها منصات لأسلحة مقاومة الطائرات فوق سطوح البنايات والمنازل، واغلقت عناصر أخرى، الشوارع والمنافذ المؤدية الى مقراتها، ومقرات الحكومة في المنطقة الخضراء، بصبات كونكريتية ضخمة. كما أطلق قادتها تصريحات نارية ضد أي عدوان يقع عليها. لكن العراقيين عامة تجاهلوا كل ذلك، واعتبروه ضحكا على الذقون. فهذه المليشيات المسلحة، قد تأسست ونمت وتغولت، تحت رعاية أمريكا، وبدعم منها وبمباركة إيرانية وتستر من المرجعيات الدينية.
يعود ارتكاب مثل هذه الأخطاء الفادحة، لضيق افق هذا النوع من السياسيين والمحللين. فهم ينظرون الى ما نشهده اليوم من احداث، او ما يشابها، كما يتمنون، لا كما هي على ارض الواقع. وقد حدث ذلك مرات عدة، كان اخرها التفاؤل المفرط بالتحرك الأمريكي الإيراني الخليجي لدعم مقتدى الصدر، وحلفائه محمد الحلبوسي ومسعود البرزاني، ضد نوري المالكي واطاره التنسيقي حول تشكيل الحكومة. حيث استبشروا خيرا بالشعارات البراقة التي أطلقها مقتدى، بشأن حكومة الأغلبية والإصلاح ومحاربة الفساد وانهاء المحاصصة، والتدخلات الأجنبية، واعتبارها فرصة ذهبية لإنقاذ العراق من محنته. وطالبوا العراقيين ان لا يفرطوا بها، او في الاقل منح الصدر فترة للوفاء بعهوده.
ان حقيقة الأوضاع في العراق تتلخص، بان عملية المحتل السياسية تعاني من مازق خانق، خاصة بعد ثورة تشرين، ليس من السهل الإفلات منه، كما كان يحدث في السابق. وان أمريكا الراعي الأول لتلك العملية المقيتة، قد أدركت هذه الحقيقة، وبدأت تخشى من مواجهة هزيمة منكرة، اشبه بتلك الهزيمة التي تلقتها في بلاد الأفغان على يد حركة طالبان. فمن جهة وصل متزعمو الأحزاب والكتل الحاكمة وميلشياتها المسلحة الى الدرك الأسفل من السقوط السياسي والأخلاقي والاجتماعي والديني. ومن جهة ثانية ازدياد حدة الاستياء الذي يعم جميع الأوساط العراقية وفئاته وطبقاته الاجتماعية، الى درجة بات ينذر بانتفاضة شاملة، يقودها ثوار تشرين وبأشكال نضالية متطورة.
اما السوداني الذي روج له كمنقذ، فقد أصبح لعبة بيد المليشيات المسلحة.، ورهينة بيد نوري المالكي. الى درجة فقد فيها القدرة على فرض سلطته او اتخاذ قرار دون الرجوع الى هؤلاء الأشرار. في حين ذهب مشروعه الإصلاحي ادراج الرياح، الامر الذي دعاه الى إيجاد أية وسيلة تقنع العراقيين بوجوده، فوقع في شر اعماله. حيث تحول امله بتحقيق انجاز من خلال استعادة مصفى بيجي من يد السارقين، الى فضيحة مدوية مازالت تفاصيلها يتداولها الناس سخرية واشمئزازا واحتقارا. يضاف الى ذلك انفلات الامن وانعدام الخدمات، وانتشار المخدرات وجرائم القتل والاختطاف وغيرها الكثير. وبالتالي، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس، فان الهدف من وراء هذه المسرحية البائسة، هو اقناع العراقيين بالرهان على أمريكا، وليس على الثورة الشعبية، وبالذات ثورة تشرين التي تعد العدة للعودة بقوة أكبر وإصرار اشد على تحقيق الانتصار.
إذا كان ذلك صحيحا، فليس من الحكمة الاعتقاد بعدم خبرة العراقيين بمثل هذه المسرحية البائسة، او عدم الانتباه لها او الاستهانة بها. فلدى أمريكا من إمكانات متنوعة، واعلام يدير الرؤوس ويطحن العقول. إضافة الى إمكانات حلفائها، مثل امارات الخليج العربي، وإيران وما ترتبط بها من مرجعيات دينية مؤثرة، الامر الذي قد يمكن أمريكا وادواتها، من اقناع فئات من العراقيين بجدية ما يجري، وادخالهم في خانة الانتظار فترة أطول.
اما ثوار تشرين فتقع على عاتقهم المسؤولية الأكبر. واهمها تحصين أنفسهم ضد هؤلاء الأشرار. بعبارة أوضح ينبغي على ثوار تشرين الانتباه بأنهم المستهدفون أصلا بهذه الخديعة. وبالتالي ليست مصادفة ان تعود الحملة الإعلامية المقززة والحاقدة ضد ثورة تشرين، رغم تراجعها وسكونها، من قبل الفضائيات الحكومية والصحف والمجلات التابعة لها، واتهامها بشتى التهم المعيبة مثل أولاد السفارات او صنيعة الأجنبي او تقاضي أموال من الخارج. او في أحسن الأحوال دعوة الناس الى عدم المراهنة على هذه الثورة بالعودة مرة أخرى.
ان ثورة تشرين ستصمد، امام كل محاولة للنيل منها، او الالتفاف عليها، او تضليلها. وأنها ستعود وتسقط حكم المحاصصة الطائفية وأحزابها وميلشياتها، وسوف تعيد للعراق استقلاله وسيادته، وتطرد القوات الأجنبية، وتنهي زمن الهيمنة والنفوذ الخارجي، وستقدم القتلة الى المحاكم. ولا يغرنكم تراجعها. فثوار تشرين ينتظرون الفرصة المناسبة لتحقيق الانتصار هذه المرة. وهناك العديد من الدلالات التي تؤكد هذه الحقيقة.
منها ان نيران ثورة تشرين مازالت متقدة داخل غالبية نفوس العراقيين، الذين يعانون من فقدان ابسط مقومات الحياة الضرورية، مثل الماء والكهرباء والصحة، وليس كما يتخيل المرتزقة والجهلة وأصحاب العقول المحدودة، او الذين يعانون من الشعور بالدونية، بان الثورة انتهت، او طواها النسيان.
ومنها اكتساب ثوار تشرين خبرة كبيرة بهذه المسرحيات. حيث لن يكتب النجاح لأية محاولة لتغيير مسارها، والقبول بوعود كاذبة او اصلاحات متواضعة، او تدوير الوجوه الكالحة. حيث لم يعد خافيا على الثوار، بان جميع الحكومات المتعاقبة عملاء وخونه. وخير دليل على ذلك النتائج التي افرزتها هذه الحكومات على مدى سنين الاحتلال العجاف. حيث الدمار والخراب الشامل، وانتشار الفواحش والجرائم، والعجز التام في تقديم الخدمات والامن، والتهجير والتفريط بالسيادة وضياع الثروات وكان اخرها بيع مدن عراقية ومياه إقليمية الى امارة الكويت مقابل مبالغ ضخمة. بل أصبح لدى الثوار قناعة كاملة بان هؤلاء الاشرار فقدوا نهائيا والى الابد ضمائرهم وشرفهم وارتضوا ان يكونوا عبيدا اذلاء للأجنبي الامريكي والايراني.
ومنها، وهذا هو الأهم، ان العراقيين عامة، سيساندون ثورة تشرين المرتقبة. فهم يعلمون جيدا، بان هؤلاء الشباب الابطال لم يفعلوا شيئا معيبا، وما اتوا فاحشة سوى انهم ثاروا ضد الظلم والطغيان، بعد ان طفح بهم الكيل وبلغ السيل الزبى، وفقدوا القدرة على التحمل والصبر ازاء هؤلاء الاشرار، فأعلنوا ثورتهم مسلحين بمشروعية مطالبهم وعدالتها، والتي تمثلت في تشكيل حكومة وطنية مستقلة، تتمكن من استعادة الوطن المنهوب، وتؤمن حياة حرة كريمة للعراقيين.
لقد قدم لنا تاريخ الشعوب نماذج تؤكد هذه الحقيقة. فعلى سبيل المثال لا الحصر انتصر الشعب الجزائري على الاستعمار الفرنسي بعد احتلال دام 130 سنة. وانتصر الشعب الفيتنامي على الامريكان. وطرد الشعب الافغاني القوات الامريكية المحتلة شر طرده بعد احتلال دام عشرين سنة. اما العراق، فقد انتصر شعبه على المحتل البريطاني في ثورة 14 تموز المجيدة عام 1958، دون مساعدة من اية دولة او جهة، وقدم رؤوس عملاء المحتل للمحاكم.
ليس هذا فحسب، فمدينة الفلوجة الصغيرة مساحة في العراق، انتصرت لوحدها على القوات الامريكية في معركتها الأولى، وكبدته خسائر كبيرة في معركتها الثانية، على الرغم من دخولهم المدينة. الامر الذي دعا الامريكان، لتسمية السفينة الحربية التي دخلت الخدمة مؤخرا، باسم مدينة الفلوجة. وقد برر كارلوس دل تورو، الأمين العام للبحرية الامريكية، في خطاب على الهواء مباشرة، هذه التسمية بقوله، “ان معركة الفلوجة كانت وستبقى مطبوعة في اذهان جميع مشاة البحرية، وهي بمثابة تذكير لامتنا واعدائها” في حين قال في جانب اخر من الكلمة ” بان معركة الفلوجة الأولى والثانية، هي أشرس معركتين خاضتها القوات العسكرية الامريكية ضد المقاومة العراقية في مدينة الفلوجة. وقد شاهد هذا الحدث مئات الملايين عبر شاشات التلفزيون ووسائل الاعلام الأخرى.
هذه ليست اضغاث أحلام كما يعتقد الجهلة، الذي يظهرون على الفضائيات، او يسطرون الترهات في الصحف والمجلات، او الذين يحملون الحقد الدفين على العراق، وانما هي حقيقة ناصعة البياض، أعلنت وتعلن عن نفسها عاجلا او اجلا. وإذا فشلت ثورة تشرين في العودة وتحقيق الانتصار، فان الشعب العراقي سينتج ثورة بعد أخرى. إذ لا يمكن للشعب العراقي، ولا غيره من الشعوب، قبول العيش تحت نير الاحتلالات وحكم المليشيات، وسطوة المرجعيات الدينية. وحدهم الساقطون اجتماعيا وخلقيا، يقبلون العيش تحت سطوة المحتل، والقبول بالذل والمهانة. مقابل معيشة مرفهة. واعلموا ان سقوط الساقطين لا يتمرحل، بل يحدث دفعة واحدة والى الابد.
المصدر: الكاردينيا