حينما تشتد مشكلات المجتمع ضراوة وقهراً في النفوس؛ وتزداد حدة وتفاقماً؛ وتنسد آفاق التغيير وحل المشكلات وفقاً للطرق والوسائل المعتمدة في المجتمع والمسموح بها تبعا للنظام السائد فيه؛ تتجمع عوامل موضوعية للقيام بالثورة كطريق وحيد للتغيير وإزالة الإحتقان وفتح الأفق المسدود أمام حياة تسمح للمواطنين بممارسة ذاتهم وشخصياتهم الإنسانية والإجتماعية وتحقق مطالبهم في الحرية والعدل والمساواة والمشاركة الوطنية..
حينها يتطوع المثقفون لتحريض المواطنين على الثورة فيستعجلونها دون تقدير لمتطلباتها التنظيمية والإعدادية اللازمة والكافية لنجاحها..فيظنون بذلك أنهم الأجدر بقيادتها ثم توظيفها وإستثمارها شخصيا حينما تندلع فترفعهم إلى مواقع الصدارة والقيادة والوجاهة الإعلامية وبالتالي تجعلهم الأحق بقبض ثمنها وتوظيفها..لا يدرك المثقفون عادة الضرورات التنظيمية لإطلاق الثورة وحمايتها وإنجاحها وإستثمار نتائجها – حينما تنجح – في تحقيق المطالب الشعبية ، أي مطالب الثائرين..وهم ، أي المثقفون ، في غالبيتهم الساحقة يتجنبون الإلتزام التنظيمي والإداري فيبعدون أنفسهم عن الجماعة المنظمة ومتطلبات العمل وفقها والإلتزام بقواعدها الجمعية الصارمة..فهم يظنون أنهم أرفع شأنا من أي إلتزام وتنظيم وجماعة منضبطة..وأنهم أكبر من كل فرد فيها وبالأحرى أرفع مقاما وإدراكا من كل الثوار الميدانيين..وبالتالي يرون دورهم في التعبئة والتحريض والحض على الثورة حتى يحين موعد قطفهم هم أولا لثمراتها ونتائجها..
ولما كانت الثورة عملا ميدانيا أولا يتطلب المواجهة بكل ما فيها من تضحيات غالية وأثمان باهظة يدفعها الثائرون الميدانيون..
ولما كان المثقفون يرون أنفسهم في الحشد النظري والكلام التحريضي وهم في مقاعدهم الوثيرة وخلف شاشاتهم المضيئة ؛ فإنهم لا يدفعون ثمنا لمواقفهم تضحيات شخصية من أي نوع..فيبقون في منأى من الأخطار الكثيرة والكبيرة التي تصاحب الثورة وتصطحبها في كل مراحلها..
وكلما إشتد صوت الثورة كلما تقدم المثقفون للتحدث بإسمها والتفاوض نيابة عنها..فيبرزون على سطح الثورة وترتفع أصوات ضجيجهم ” الثوري ” ..
ولما كان دورهم مقتصرا على التحريض والكلام والشرح والتحليل بعيدا عن التضحية ودفع الأثمان الشخصية ؛ فإنهم حينما تلوح بوادر الضعف في الثورة ، مقدمة للتراجع والإنحسار ثم الهزيمة ؛ فإنهم يمتلكون القدرة على التحايل على مواقفهم السابقة ثم التنظير للتحولات المستجدة وصولا إلى تبرير إنكفائهم عن الثورة حتى التراجع التام عنها والإنصراف إلى شؤونهم الخاصة أو للإهتمام بأمور ومشكلات بعيدة تماما من قضايا الثورة وما نتج عنها وما أدى إلى تراجعها وإنكسأرها..وهذا ما يجعلهم مؤهلين بما يملكون من مواصفات ؛ للتفاوض مجددا نيابة عن الثورة والثوار ؛ في بداية مرحلة الضعف والإنكفاء ؛ لإيجاد الحيثيات اللازمة والكافية لإتمام مرحلة التراجع هذه..فيتقدمون صفوف التنحي والتراجع والتحريض ” الثوري ” على الإنكفاء والتخلي عن الثورة..فهم لم يقدموا تضحيات شخصية أولا ؛ ويمتلكون المقدرة الكلامية والتحليلية والتبريرية لذلك التراجع حتى لو بلغ مرحلة الإنحراف عن الثورة وخيانة تضحياتها وأهدافها..
وبما لديهم من إمكانيات معرفية وثقافية ومعلوماتية تحليلية ؛ ولتغطية فشلهم وتراجعهم وتخليهم عن الثوار والثورة ؛ فأنهم ينسحبون إلى مواقعهم الخاصة ثم يبدؤون بإطلاق النار على الثورة وعلى الثوار متهمينهم بأنواع مختلفة من الصفات والمواصفات التي تبرر لهم تخليهم أو إنحرافهم أو خيانتهم لقضية الثورة..
يتجلى هذا الإنكفاء عن الثورة بأشكال مختلفة من السلوك..
من المثقفين من يغرق نفسه في إهتماماته الشخصية ومصالحه ورفاهية حياته ومتطلباتها دون أي إهتمام أو حتى متابعة لمن كان بالأمس يحضهم على التضحية مهما كان الثمن ..
نوع آخر ينضم إلى صفوف أعداء الثورة متعاونا معهم مجتهداً في شرح أخطاء الثورة وخيبة الخروج فيها من الأساس..
نوع ثالث ينصرف إلى إثارة إهتمام مصطنع بقضايا فرعية وهامشية وليست في صلب قضية الثورة مبررين لأنفسهم ببقاء إهتماماتهم العامة وهم يعلمون أن الأمور التي يثيرونها ليست أولوية وليست مصيرية لا بل بعيدة عن المرحلة الراهنة التي يعيشها المجتمع والناس الذين يعيشون فيه وفي مقدمتهم أؤلئك الذين دفعوا تضحيات وأثمانا باهظة في سياق الثورة والمواجهات التي صاحبتها..
نوع آخر من المثقفين ينبري لمهاجمة الثائرين متهما إياهم بالجهل والتخلف والطائفية والقبلية وغير ذلك من التهم التي تبرر للمثقف تخاذله أو إنحرافه وتحمل المواطنين والمجتمع مسؤولية فشل الثورة..ويبقى هو بريئا منزها من التقصير والجبن والتخاذل والتواطؤ..
جميع هؤلاء يتركون الإنسان الذي ثار ودفع ثمنا ؛ يتركونه لمواجهة مصيره البائس المنكوب فردا مفردا لا حول له بمقاومة الظلم والقهر والفساد فيما فرضت عليه ظروف حياتية عسيرة جدا لا يكاد يقدر على الإستمرار وسطها دون مزيد من القهر والمعاناة ولو إضطره ذلك إلى تقديم تنازلات من كرامته وقناعته وقيمه ودوره الإنساني..فيزداد إتهام المثقفين أؤلئك له ولتخاذله وسكوته المجبور وفهمه القاصر المقهور…
إن إنتكاسة الثورة تزيد من معاناة الناس وتفرض عليهم مزيدا من الخوف والقهر وحتى الأمل..وما كان مكبوتا في الأساس ثم إندفع ثائرا ثم فشل ؛ فسوف يتحول إلى عائق أشد ضراوة من ذي قبل ؛ يجعل الإنسان مترددا الف مرة قبل الخروج مجددا..فالفشل الأول خاصة إذا ما ترافق مع خيبات أمل بمن كان يتصدر المشهد الإعلامي والواجهة السياسية ؛ سوف يعيد الحالة الثورية وقبول الناس لها ؛ سنوات إلى الوراء..فيما تزداد شراسة الإستبداد وإصراره وتمسكه بما بين يديه من أجهزة القمع ثم يلجأ إلى الإنتقام من الجموع بإخضاع حياتهم إلى المزيد من المعاناة والتعسف والحرمان والفاقة والإنشغال بأبسط مقومات الحياة التي كانت من بديهيات وأوليات المعيشة البدائية..
قد لا يملك المثقف إمكانيات المشاركة النضالية الميدانية لسبب أو آخر ؛ فيقتصر دوره على صناعة الوعي والحض عليه وهذا مهم ويشكل جزءا متمما للعمل الثوري أو مقدمة له ؛ ويبقى هذا مقبولا طالما بقي المثقف إياه ملتزما بقضايا الثورة وحقوق الناس ومطالبهم فوق أي إعتبار آخر..أما أن يلتف عليها عند أول إنتكاسة فيتراجع ويتخلى ثم يتحور ليمارس دورا مضللا أو تحريفيا أو مساوما أو لاهيا متلهيا بأمور هامشية ؛ فليس مثقفا وليس ثوريا ولا يمكن أن يكون كذلك..وعنده أن مصلحته الشخصية تتفوق على كل الإعتبارات الأخرى الوطنية والإنسانية والأخلاقية..
ما لم يكن المثقف ثائرا مشاركا ميدانيا قادرا فعليا على تقديم التضحيات وتحمل نتائجها ؛ تبقى مشاركته قليلة الجدوى وسيصل عاجلا ام آجلا إلى التراجع والإنكفاء حتى الهروب ” الثوري ” إلى الأمام..والتنصل من مسؤوليات الدعوة والثورة معا..أللهم إلا قليلا منهم باقون على إلتزامهم وإخلاصهم ومسؤوليتهم تجاه الثورة وقضيتها المتشعبة..
لقد إبتليت ثورات عربية حديثة وقديمة بأمثال هؤلاء المثقفين ممن تحولوا إلى مبررين للواقع الذي يشكل المادة الأولى والأساسية للثورة..أو مختبئين خلفه هربا من المراجعة والنقد الذاتي وتحمل تبعات الفشل ..
قليلون من المثقفين ممن شاركوا وضحوا فدفعوا ثمنا شخصيا فبقوا على إلتزامهم وحرصهم ووعيهم الثوري..
أما الكثيرون فقد شغلتهم ” الفزلكة الثورية ” هروبا وإنكفاء وتخليا وحتى إنحرافا وخيانة..
إن الإهتمام بأمور غير ذات صلة مباشرة ملحة بالواقع الراهن الذي يعيشه المجتمع العربي وبالمشكلات الضاغطة التي تتحدى الإنسان العربي وكيفية مواجهتها ؛ وما يستدعيه كل ذلك من رفع مستوى المقدرة على المشاركة الجماعية الفعلية لرد كل خطر داخلي أو خارجي ؛ ليس إلا نقصا في المعرفة والوعي أو هروبا من متطلبات المشاركة وما فيها من تضحية ؛ أو خوفا وجبنا من هول قوى العدوان والقهر ؛ أو غدرا وخيانة وتلفيقا وتصريفا للإنتباه عن الملح الطارئ الضاغط إلى الهامشي والثانوي ، قليل التداخل أو ضعيف الأثر الراهن..أو حتى لهاثا وراء مغريات كثيرة وإمتيازات ضخمة تملكها وتمنحها قوى العدوان ذاتها لمن يستجيب لها أو يرضخ لرؤيتها ومطالبها ..
يعيش الإنسان العربي وخصوصا في بلاد المشرق العربي أخطارا تهدد كل وجوده العيني والمباشر وتسحق مكوناته ومقوماته وتتحدى قيمه وثقافته وعقله وأخلاقه وبنيته الإنسانية والأسرية والأخلاقية المجتمعية ..يتعرض الإنسان العربي لعدوان داخلي من قوى القهر والتبعية والفساد مصحوبا بعدوان أشد شراسة من قوى إقليمية وخارجية تستهدف وجوده ذاته فردا ومجتمعا وهوية وأمة وأوطانا..
عدا عن أهوال العولمة الرأسمالية المفترسة المتوحشة وما تحمل من خطر وجودي إنساني عام وليس أخلاقيا فقط ؛ يتعرض لها كل إنسان عربي في كل مكان..
المثقف الحقيقي من يتصدى لمواجهة هذه الأخطار الوجودية المحدقة المتفاقمة ، مشاركا بالوعي والحركة والعمل الحر الشريف في إطار الجماعة ؛ ومحرضا على تنظيم الجماعة وتثبيت مقومات وجودها وزيادة فعالية إيجابياتها وكل ما هو مشترك فيها..
إن أوسع مشاركة شعبية في مواجهة مشكلات الواقع العربي والعدوان المتفاقم عليه ؛ تبقى هي معيار الصدق والإلتزام في ضمير وإهتمام كل مثقف.. لا تحتمل أي تبديد للقوة الإيجابية ، ولا أي تشتيت لها تحت أية ذريعة حتى لو كانت تبدو في ظاهرها بريئة أو مفيدة..
في هذا الظرف الراهن ، فالحض على الجماعة والعمل التعاوني الجماعي المنظم ، واجب وطني وقيمة أخلاقية ومسؤولية إنسانية إجتماعية..