على وقع الحديث الدائر عن انكفاء خطوات التطبيع بين نظام الأسد والمملكة العربية السعودية، يتواتر حديث موازٍ حول أسباب هذا الانكفاء، إذ يذهب كثيرون إلى أن مبعث الاستياء لدى الدول العربية من بشار الأسد يكمن في خذلان الأخير لأقرانه العرب، وعدم إيفائه بعهوده التي كان قد قطعها على نفسه، وخاصة فيما يتعلق بإجراءات عملية وملموسة حيال عودة المهجرين السوريين والإفراج عن المعتقلين والعمل على الحد من انتشار المخدرات وتصديرها لبلدان الجوار، كما تذهب معظم الآراء إلى ان ثمة خديعة قد وقع بها بعض القادة العرب حين توهّموا ان ثمّة جدّية لدى رأس النظام في دمشق حول تفاعل حقيقي مع المبادرة العربية، إلّا أن هذا الوهم الذي اكتشفوه جعلهم ينكفئون عن المضي قدماً نحو دمشق، وهنا يتواتر الحديث كالعادة عن ضبط المزيد من شحنات الكبتاغون التي ما تزال مستمرة باتجاه الأردن، ومن ثم إلى السعودية وباقي بلدان الخليج، كما تتسرّب أنباء كثيرة عن توقف أعمال ترميم السفارة السعودية في دمشق، إيذاناً بمُستَجَدٍّ سيء في سيرورة العلاقات بين البلدين.
أمّا واقع الحال فلعلّه يحيل إلى غير ذلك تماماً، إذ إن الفرضيات التي بُنيَ عليها مشروع التطبيع وروّج لها الإعلام هي غير صحيحة على الإطلاق، وبالتالي فإن الوقائع التي نتجت عن تلك الفرضيات هي أيضاً غير صحيحة، وبالتالي فإن ما يُدعى ب (خيبة الأمل) لدى الدول التي سارعت للتطبيع مع حاكم دمشق لا تعدو كونها مجرّد ادّعاء للتستّر على مزاعم تم الترويج لها وهي لم تكن موجودة في الأصل، وفي هذه الحال فإمّا أن يكون قادة أنظمة التطبيع قد ساهموا في اختلاق خيبة الامل المُفتعلة ليبرروا خيبة مسعاهم أمام شعوبهم، أو انهم بلغوا من السذاجة درجةً جعلتهم في ذروة نشوتهم بلقاء الأسد يحسبون الصرصار نسراً، ثم استبدّت بهم النشوة حتى تخيّلوا ان هذا النَّسر الوهمي يريد بلحظة مباغتة ان ينقضّ عليهم ليجهز على آخر مسحة كرامة في وجوههم.
المسار المنطقي للأحداث، وكذلك الوقائع الفعلية لخطوات التطبيع من أولها وحتى آخرها، تثبت أن حاكم دمشق لم يخذل أحدا من الحكام العرب، بل كان شديد الانسجام مع ذاته، إلى درجة شديدة الوقاحة، فهو لم يتردّد في تكذيبهم في عقر جامعتهم العربية، إذ حضر بشار الأسد مؤتمر جدّة، وتحدث كسواه من الرؤساء والقادة، ولم يتضمن حديثه أي ملمح من ملامح الاستعداد للتعاون مع مبادرة مزعومة للحل في سورية، وكذلك لم يشر بالمطلق إلى ما يمكن احتسابه شعوراً او رغبةً بإيجاد حل للمأساة السورية، بل تحدث بنبرة لا تحتاج إلى مزيد من التأويل والاستنتاج، ليستشف منها المرء كل نوازع الحقد والانتقاد الجارح لأقرانه الحضور، فضلاً عن عنجهية معهودة تكللت بإعطائه درساً للحضور عن فلسفة (الحضن) ودورها في مفهوم الانتماء القومي. وقد تكرر هذا الموقف أكثر من مرة على لسان وزير خارجية النظام، سواء في لقاء عمان الوزاري، أو في لقاءات موسكو الأمنية التي جمعت نظام الأسد مع وزراء دفاع ومسؤولين أمنيين لدى كل من روسيا وتركيا وإيران، ويكفي التذكير بقول فيصل المقداد ردّاً على سؤال حول ما يمكن أن تقدمه دمشق ضمن مشروع (خطوة مقابل خطوة) حين قال بكل صلف: لقد قدمت دمشق مئات الخطوات، دون ان ترى خطوة من الطرف الآخر. وهذا دليل ناصع على أن عودة العلاقات بين الأسد وأقرانه العرب لم تكن تنطوي على أية شروط مزعومة، سوى شرط قبول الأسد بحضور لقاء جدة، وإمتاعه لبقية الحضور بمحاضرته المهيبة عن مساوئ الليبرالية العالمية وتهديدها للهوية القومية.
تؤكّد الأحداث المتتالية أن بشار الأسد لم يكن حريصاً على شيء بمقدار حرصه على ديمومة انسجامه مع ماهيّته الحقيقية، ليس لعدم قدرته على تغيير نوازعه الجوانية فحسب، بل لعقمه الذاتي على أي شكل من أشكال التغيير أو التبدّل، بل ربما اعتقد أن أي زعم من الآخرين يوحي بتغيّر الأسد ولو إيجابياً فلن يزيده إلّا غيظاً، لأنه لا يرى ذاته إلّا بما هو عليه من الإجرام والشناعة، ولعل هذا ما دفعه إلى ان يكون أكثر وضوحاً في توبيخ أقرانه من القادة العرب وذلك خلال حديثه الذي أدلى به لقناة سكاي نيوز عربية يوم العاشر من آب الجاري، نعم لقد شاء بشار الأسد ان يُكذِّب نظراءه من الحكام العرب في معرض ردّه على مسألتين اثنتين، تتعلق الأولى بسؤاله عما يمكن أن تفعله السلطات السورية حيال تجارة المخدرات المتفاقمة وما تشكله من خطورة ليس على الدولة السورية فحسب، بل على المنطقة برمتها، فكان جواب رأس النظام: إن الدول التي ساهمت بإيجاد الفوضى في سوريا هي المسؤولة عن تجارة المخدرات، ويأتي هذا الجواب معزّزا حالة الإنكار الدائم التي لازمت رأس النظام، فضلاً عما يحمله هذا الردّ من تحدٍّ سافر وقاطع أمام كل ما يراوده الظن بأن حاكم دمشق يمكن أن يرتدع عن رذيلة اقترفها أو ينتابه قليل من الخجل حيال هذا الكم الهائل من الوقاحة. وثاني تلك المسائل يتجلى في ردّه عن سؤال يدور حول ما يمكن للسلطات الأسدية فعله بخصوص عودة المُهجرين والنازحين السوريين، وهنا كان الردّ أكثر إيغالاً في الوقاحة حين أكد رأس النظام بأنه لا قدرة للسلطات الأسدية في إعادة اللاجئين بسبب انهيار البنية التحتية وعجز الحكومة عن تأمين أبسط مستلزمات العيش الكريم، ولئن كان من الصحيح أن البؤس المعيشي في سوريا بدأ يجتاح الجميع، ولكن لا يبدو أن هذا بالفعل هو ما يحول دون عودة اللاجئين الذين هجّرتهم طائرات بشار وقاذفاته وليس انعدام البنية التحتية، ولكن ربما كان وعي الكثير من السوريين سبّاقاً إلى ان رفض بشار لعودة اللاجئين إنما مبعثه حرص رأس النظام على ديمومة انسجامه مع ذاته، وخاصة انه تحدث منذ العام 2012 بنظرية (التجانس) التي تقضي باستبعاد، بل باستئصال جميع حواضن الثورة، ولم يكن تهجير سكان الغوطة وحلب الشرقية والقلمون ودرعا والقصير إلّا تجسيداً لمفهوم التجانس كما نادى به حاكم سوريا.
يبقى القول: إن حديث حكومات التطبيع العربي عن خيبة الظن الناتجة عن الخذلان الذي طالهم من سلوك نظام دمشق، هي لم تكن كذلك عند السوريين الذين يدركون قبل سواهم ان حسنَ الظن بنظام الأسد من جانب الحكام العرب هو الخيبة الحقيقية.
المصدر: موقع المجلس العسكري السوري