محطات متوترة كثيرة مرت بها العلاقة بين السلطة والفصائل تحديداً بينها و”حماس” و”الجهاد الإسلامي”. يمكن القول إن التصعيد الذي عاشته المنطقة في الأسابيع الأخيرة والذي بدأ مع عملية إطلاق النار على الكنيس اليهودي في القدس، وثم المواجهات والعمليات العسكرية والاشتباكات التي شهدتها مدن الضفة الغربية بين مقاتلي الفصائل الفلسطينية والقوات الإسرائيلية، وتتويجها بإطلاق صواريخ “حمساوية” من جنوب لبنان باتجاه الداخل الفلسطيني، هذا التصعيد كان فيه غائب واضح، ظهر وكأنه غير معني بالتطورات وتداعياتها وما يمكن أن ينتج منها من معادلات جديدة، لن تكون إلا على حسابه.
هذا الغائب لم يكن سوى السلطة الفلسطينية التي يبدو أنها لمست بعد عملية “حوارة” أن المعادلة التي بدأت بالتبلور، يتأرجح موقعها في هذه المعادلة بين العزل أو القبول بالشروط التي سيفرضها الممسكون بطرفي اللعبة، سواء الإسرائيلي أو الفصائل التي تدور في فلك الرؤية والإستراتيجية الإيرانية في معركتها مع تل أبيب، مما جعل رام الله تظهر وكأنها آخر من يعلم بما يدور في محيطها وما يحاك من معادلات من المفترض أن ترسم المشهد الفلسطيني ومستقبل العملية السياسية والقرار في المرحلة المقبلة.
وإذا ما كانت طهران استطاعت الانتقال إلى الخطوة الأهم في مسار نفوذها الإقليمي الذي راكمته على مدى العقود السابقة، فإنها استطاعت العمل على تغيير المعادلات التي كان من المفترض أن توظفها تل أبيب وعواصم القرار ببناء جدار من دويلات إسلامية متشددة وظيفتها تقديم المسوغ والغطاء لتكريس يهودية الدولة الإسرائيلية، ويمكن القول إن طهران تكبدت خسائر قاسية لوقف هذا المسار الذي يشكل تهديداً لها مباشراً، ويؤسس لتحويلها إلى جزيرة معزولة ومحاصرة ومجبرة على الدفاع عن نفسها أمام إسلام سياسي يتعارض ويتخالف ويشتبك مع النموذج الذي تمثله من هذا الإسلام، ودخلت علاقاتها مع بعض الفصائل الفلسطينية في حال من التأرجح، تحديداً مع حركة “حماس” وأداء هذه الحركة في الأزمة السورية، بخاصة بعدما وجدت هذه الحركة فرصتها للابتعاد عن إيران والانتقال إلى تحالفات جديدة وفرها استلام جماعة “الإخوان المسلمين” السلطة في مصر ومحاولة تركيا لعب دور العراب للإسلام السياسي الذي أنتجه “الربيع العربي”.
ويمكن القول إن الاتفاق الثلاثي الذي تم التوصل إليه بين إيران والسعودية برعاية صينية في الـ 10 من مارس (آذار) الفائت شكل الفرصة الذهبية لطهران للانطلاق نحو تكريس مشروعها الإقليمي ورؤيتها الإستراتيجية، مستفيدة من الصدمة التي أحدثها الاتفاق مع الرياض وردود الفعل الإسرائيلية التي كشفت عن حجم الصدمة التي أصابتها، وأدركت معها قيادات تل أبيب أن ما تشهده الضفة الغربية من أحداث ومواجهات، بالتزامن مع أزمة داخلية معقدة وصعبة، يشكل حلقة من حلقات مواجهتها مع إيران وأن التصعيد الذي تمرست عليه والتهديد بتوجيه ضربة مباشرة إلى المنشآت النووية وتدميرها، لم يعودا يؤديان دورهما بدفع عواصم القرار إلى اتخاذ خطوات تحد وتعطل الطموحات الإيرانية.
فبعدما كانت طهران خلال العقد الماضي تواجه محاولات لمحاصرتها وتقليم أظافرها وتقطيع أذرعها في الإقليم، وكانت تل أبيب هي المبادرة من خلال محاولة فرض معادلة تمكنها من الوجود والتمركز على مقربة من الحدود الإيرانية في إقليم كردستان – العراقي أو في دولة أذربيجان (السفارة الإسرائيلية لا تبعد سوى 17 كليومتراً عن الحدود الإيرانية- الأذربيجانية)، وإستراتيجية “وحدة الساحات” كانت الخيار الإيراني الذي وضعته طهران على طاولة المعادلات الإقليمية وفي صراعها مع تل أبيب، فهي من جهة أوصلت رسالة إلى القيادة الإسرائيلية أن أي اعتداء على العمق الإيراني سيجر المنطقة إلى حرب شاملة وستستخدم فيها طهران بشكل مباشر وواضح جميع الساحات والقوى المتحالفة معها، وستسقط معها حال التهدئة القائمة منذ 2006، لذلك لم تكتفِ بالعمليات العسكرية في الضفة الغربية والصواريخ من قطاع غزة لإيصال هذه الرسائل، بل شكلت الصواريخ المنطلقة من لبنان والجولان السوري وما قيل ولم يتم تأكيده عن اكتشاف منصات لإطلاق الصواريخ من سيناء، الخطوة المتقدمة في هذه الرسالة واستعراضاً واضحاً لقدرتها على محاصرة تل أبيب في حروب ومعارك في محطيها تجعل من الصعب عليها أو في الأقل تؤدي إلى إنهاكها قبل أن تنتقل للتفكير بتوجيه ضربة لإيران.
ومن جهة أخرى، فإن وحدة الساحات أوصلت رسالة أخرى ذات خصوصية فلسطينية داخلية، مفادها بأن الفصائل المتحالفة مع إيران علناً أو مواربة أو بعيداً من الأنظار، لم تعد تأخذ في الاعتبار عينه أي إحراج للسلطة في تحركاتها وعملياتها وأهدافها، وأن الوحدة التي تم التوصل إليها في القرار العسكري قد لا تقف عند حدود التعامل مع الاعتداءات الإسرائيلية، بل ربما تأخذ أيضاً بعداً سياسياً سيسعى إلى إعادة صياغة المعادلة الداخلية ودور السلطة الفلسطينية التي تم استثناؤها من هذا التنسيق الذي تقوده طهران بين هذه الفصائل.
محطات متوترة كثيرة مرت بها العلاقة بين السلطة والفصائل، تحديداً بينها وحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ولم تفلح جميع الوساطات في الوصول إلى مصالحة قابلة للحياة والاستمرار، وآخرها ما قام به الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، فهذه الفصائل تسعى إلى إعادة تعريف دور وعمل وسلطات منظمة التحرير الفلسطينية، بما أنها، دولياً، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وليس فقط العضوية فيها، وهي النقطة التي تشكل مكمن الخلاف مع السلطة وقيادتها. وعليه، فإن أي جهود لجمع هذه الأطراف على طاولة مصالحة جديدة ستكون مختلفة لأن هذه الفصائل المدعومة من طهران ستضع شروطها على الطاولة هذه المرة بشكل واضح، بخاصة في ظل التطورات التي تشهدها المنطقة من إعادة صياغة معادلاتها، فهل ستكون رام الله قادرة على التعطيل أو التخفيف من حدة الاندفاعة لدى هذه الفصائل؟
المصدر: اندبندنت عربية