ما معنى أن يعيش الإنسان ويكافح لتحقيق ذاته؟ ما معنى أن ينتمي إلى مجتمعه ويشعُر بالفخر والاعتزاز بهذا الانتماء؟ وما معنى أن يكون الإنسان إنساناً؟ هذه أسئلة مهمة لا بد أنها تخالج الإنسان العربي الواعي بوجوده، لكن الإجابة عنها بوضوح تتطلّب حوارا ثقافيا ووعيا جمعيا مشتركا يكاد يكون غائبا في عالم العرب المعاصر. نعم، يمكننا أن نسمع ونرى حوارا عامّا يتعامل مع هذه الأسئلة مرّة أو مرّتين كل عقد أو عقدين، ولكن رغم تباعد الحوار بشأن هذه الأسئلة الجوهرية والمصيرية، فإنه، مع ندرته، غالبا ما يجري في دوائر ثقافية ضيقة، أو من خلال قصص ومشاهد وتحليلاتٍ تحاكي حواراتٍ جرت قبل قرون طويلة، هروبا من تبعات الخروج عن حدود التفكير المرخّص به رسميا. يعيش معظم العرب لحظاتٍ تثار من خلالها هذه الأسئلة المهمة عبر قراءة أدبياتٍ تاريخيةٍ تعود في أحدث أشكالها إلى نهايات العصر العباسي، أو من خلال القلة القليلة من الروايات والمسلسلات التلفزيونية التاريخية التي تعيد إنتاج الماضي، أو تثير أسئلة الحاضر بنقلها إلى زمن ماضٍ خشية من انتقام الأجهزة الأمنية التي تسعى جاهدة إلى منع إثارة أسئلةٍ تذكّر رعاياها بمعنى وجودهم، وغاية سعيهم، وقواعد التعامل بين أبناء المجتمع، ومسؤوليات المواطن الذي ينتمي إلى بقعةٍ جغرافيةٍ وجماعةٍ سكّانية تسمّى الوطن.
مع غياب الحوار الجادّ العميق، ونتيجة مصادرة دول ما بعد الاستعمار في عالمنا العربي حق “مواطنيها” في التفكير الحر، يمضي الإنسان العربي، منذ عقود طويلة، حياته وهو يسعى إلى كسب لقمة عيشٍ تبقيه على قيد الحياة، لكنه يبقى عاجزا عند طرح الأسئلة عن معنى الحياة العامة والنظام السياسي والقانون الحاكم وممارسة السلطة والاستئثار بالثروة. ذلك أن الثقافة التي يتحكّم في مفرداتها رعاة الشعوب من أصحاب السعادة والسماحة والقداسة والسيادة تصل إلى أبناء الشعوب العربية مستوردةً ومعلبةً وجاهزةً وناجزةً، لأن الشعوب لا تملك الحقّ في صناعتها ونقدها وتحليلها وتطويرها وإنتاجها، كما لا تملك الحقّ بتطوير وإنتاج أدوات الحياة ووسائل العيش، التي تأتيها جاهزة مصنّعة في أوروبا وأميركا والصين واليابان. لذلك نجد أن عربا كثيرين يعيشون حياة تفتقد الأصالة، لأن الكلمات التي تعبّر عن الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي خاوية تم تفريغها من كل دلالة ومعنى. العرب عموما يتحدّثون في إعلامهم الرسمي وكتاباتهم المرخّصة عن الحرية والتقدّمية والديمقراطية والعدالة، لكن الكلمات التي تشكّل خطابهم العام فارغة لا تعكس حقيقة الأشياء التي تشير إليها، ولا تفصح عن ضمير المتحدّث وواقعه المعيش. فالعربي الذي يتحدّث عن الحرية لا يستطيع الإفصاح عما في نفسه من مشاعر ومعانٍ حقيقية، وهو غير قادر على الخروج عن حدود الخطاب المعتمَد لدى وزارات الإعلام العربية ولجان الرقابة. كذلك يتحدّث العربي عن الديمقراطية ويمارسها عبر انتخابات رسمية دورية لاختيار “نوابه” و “ممثليه”، وهو يعلم أن خياراته العملية هي في اختيار من اختارته بدءا الأجهزة الأمنية وسمحت له بالترشّح. وهو يدرك أيضا أن الأجهزة الأمنية هي التي تدير العملية الانتخابية، وتشارك في تقدير نسب الاقتراع، وتعلن نتائج الانتخابات.
الأنظمة المركزية التي تشكّلت خلال فترة الاستعمار الأوروبي، وأخذت شكلها المعاصر في زمن دول ما بعد الاستعمار، حالت بين المجتمعات العربية ومتابعة النهوض الحضاري الذي بدأ نهاية القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، ودفعت الإنسان العربي بعيدا عن دوائر المبادرة والإبداع والحوار البناء الضروري لتطوير المجتمع العربي الحديث. فعلى الرغم من امتلاك الإنسان العربي القدرات والكفاءات التي لا تظهر إلا في حياة المنفى والاغتراب بعيدا عن الوطن، نراه غير قادر على صناعة حياته وتاريخه الذاتي على امتداد الوطن العربي، فضلا عن المساهمة في صنع الحياة والتاريخ الإنساني الراكض بسرعةٍ نحو المستقبل. وهذا هو جوهر التحدّي الذي يواجه المجتمعات العربية على العموم: غياب المعنى والغاية والفعل الأصيل. فمن لا ينتج الأفكار التي يعتمدها للتأثير في ذاته ومحيطه لن يتمكّن من تطوير الحياة من حوله بالطريقة التي تتناسب مع آماله واحتياجاته. ومن لا ينحت الكلمات التي يستخدمها في خطابه لن يستطيع إدراك دلالاتها ومعانيها الحقيقية، ولن يستطيع لذلك الوصول إلى مآلاتها في حياته اليومية. وبالتالي، يجب ألا نتفاجأ أو يعترينا العجب والذهول عندما نجد أن الأمة التي كانت سبّاقة في ألفيتها الأولى إلى تحرير الشعوب من التسلط والخرافة والجهل تعاني اليوم من الاستبداد والظلم والاستلاب.
ولأن لتكميم الأفواه وتعميش العيون أجلاً هو لا محالة بالغُه، فقد بدأنا نشهد في العقدين الماضيين تغيّرا كبيرا في الحراك الاجتماعي والسياسي العربي، مع تمكّن الشباب الناهض من توظيف أدوات التواصل والتنقل، والاستفادة من تموضع جالياتٍ عربيةٍ تواقةٍ إلى الحرية والنهوض في أوروبا وأميركا، وانتقال مثقفين وإعلاميين عديدين بعد نجاح الثورات المضادّة إلى فضاءات حرّة خارج الأوطان المنكوبة. ما لم تدركه النخب المهيمنة بعدُ هو استحالة كمّ الأفواه وخنق الحوار وإخفاء عيوب الأنظمة المركزية المستعلية على هموم الشعوب وآلامها مع تزايد العجز وانتشار الفقر وهجرة العقول. لم تستوعب هذه النخب بعدُ استحالة ترويج فضائل الدولة الأمنية التي تستمر في تقويض أركان الأمن في المجتمعات العربية، بعد أن اختارت الوقوف في وجه الحركات الوطنية وانحازت إلى صف قوى الهيمنة والتسلط العالمي.
نعم، تستحيل اليوم العودة إلى زمن الاستخفاف بالعقول وحجب الشمس عن الأنظار، فوسائل التواصل الاجتماعي، والفضائيات العابرة للحدود، تمكنت في العقدين الماضيين، وبصورة متسارعة مع هبّات الربيع العربي، من تحريك الحوار الراكد وإظهار مشاهد العدوان والتسلط والفساد الذي تمارسه الدولة “الأمنية” في عالم عربيٍّ يتطلع أبناؤه إلى حكوماتٍ تمثل مصالح الشعوب وتحمي كرامتها، لا مصالح النخب التي تفضل التقارب مع قوى الهيمنة الخارجية والاستلاب الداخلي طمعا في الاحتفاظ بشرعيةٍ لا تملك مقوّماتها. وهكذا نجد أن الثورات المضادّة التي نجحت في قمع الأصوات الحرّة المنادية بالإصلاح تساهم في إظهار سَوءات الدولة الأمنية وخطرها المتزايد على مصالح الشعوب بطريقةٍ عمليةٍ تفوق بمراحل الخطاب النقدي للمعارضة، بسبب استشراء الفساد وانتشار رائحته الكريهة في كل زاوية من زوايا الوطن. المفارقة الكبيرة التي تعكس انفكاك الدولة الأمنية المركزية عن الشارع العربي أن الثورات المضادّة التي قادتها الأجهزة الأمنية لم تتعلم شيئا من تجربة الربيع العربي، ولم تعمل على محاربة الفساد وتطوير مشاريع إنتاجية جديدة، بل نرى هوسا عجيبا بمشاريع خلّبية يتراكم من خلالها الديْن العام بتزايد الإنفاق على الأجهزة الأمنية وبناء مزيد من القصور الرئاسية والأحياء المسوّرة والعواصم الجديدة البعيدة عن متناول المواطن العادي، وزيادات إضافية من الضرائب على المواطن المنكوب بتضخم تكاليف المعيشة. والنتيجة تزايد حدة الأزمات المالية والتعليمية والخدمية، وتسارع في التدهور الأمني والاقتصادي والسياسي.
وبالعودة إلى موضوع الحوار الوطني وطرح الأسئلة الصعبة، يجدُر التأكيد على أن الحوارات المفتوحة والمبادرات المدنية أصبحت ضرورية أكثر من أي وقت مضى، للحفاظ على بنية الدولة وتوليد الوعي المشترك والعمل الوطني الذي تحتاجه المنطقة العربية، لكي يعود المجتمع العربي إلى دائرة الفعل الحضاري والتاريخي الذي غاب أو غيّب عنها طويلا. ويجدر بنا أن نؤكّد كذلك على أن مسؤولية إطلاق الحوار الثقافي والاجتماعي والسياسي في الفضاء العام تقع، بالدرجة الأولى، على النخب المثقفة والشباب الواعي والقادر على توظيف الكلمات والفنون لتوضيح المشاهد وصياغة المناهج وتطوير النماذج وتقديم البدائل وإنهاء التناقض بين الكلمات ومعانيها وبين المؤسّسات والوظائف الملقاة على عاتقها، فالحوار الحر والتعاون الوطني الصادق يشكلان الخطوة الأولى الضرورية لتجاوز الأخطاء ومواجهة التحدّيات والإجابة عن أسئلة المعنى والغاية والمصير التي لا يمكن لأي أمةٍ أو شعب أن ينهض ويتطوّر ويتقدّم من دون طرحها وبحثها وتقديم أجوبة مناسبة لها. وعندها ستدرك المجتمعات العربية أن التغيير الحقيقي لا يمكن تحقيقه بالاكتفاء برفع الدعاء والجهر بالمطالب وترديد الشعارات، بل يحتاج أيضا إلى جهود صادقة وحثيثة لاستبدال الوعي الزائف الذي يقوم على كلماتٍ فارغة وأفكار مستورَدة بخطاب وجهد وطني تتحد فيه الألفاظ ومعانيها، وترتبط عبره الأفعال بالأقوال والأماني.
المصدر: العربي الجديد