وصل الأمير محمد بن سلمان لمركز القرار في المملكة العربية السعودية حيث كان وصوله يوحي بعهد جديد لمملكة أحفاد الملك عبد العزيز آل سعود، ويمكن قراءة سياساته التي انتهجها بالسنوات القليلة الماضية داخلياً وخارجياً ويمكن لنا تَوقّع ما ستؤول إليه تلك السياسات وفقاً لمعطيات المرحلة السابقة باستشراف لآفاق المستقبل:
أولًا – على المستوى الداخلي: حاول ولي العهد تكريس سلطته والعمل على مركزية القرار بإضعافه لثلاث مراكز قوى ستكون عقبة في طريقه وأوّلها إزاحة طبقة الأمراء السعوديين المنافسين عن أيّ تأثير في صُنع وتنفيذ القرار، وقام بتحجيم الطامحين منهم بل وإضعافهم ماليا عن طريق مصادرة أموال استولوا عليها عبر عمليات فساد تَمّت في العهود السابقة..
وثانيهما إضعاف سلطة رجال الدين وإبعادهم عن الفضاء العام للدولة والمجتمع والقيام بحل أداتهم التنفيذية وهي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل وقامت السلطات الأمنية باعتقال البعض منهم ومنع ظهور البعض على وسائل الاعلام…
وثالثهما تصفية طبقة كبار التجار والمقاولين الكبار والذين يشكلون خطرا أو مراكز قوى تُهدّد أو تُعيق تنفيذ رؤية ابن سلمان للحكم ..خاصةً إذا ما تعاونوا مع أمراء ناقمين من الأسرة المالكة
وكانت سَعوَدة الاقتصاد والأعمال والعمالة والإهتمام ببناء إقتصاد حديث لايعتمد فقط على الريوع النفطية من أكبر إهتماماته ويُعبّر عن ذلك برؤية 2030 …ما أودّ قوله أنّ جُلّ إهتمام العهد السعودي الجديد كان بإتجاه الداخل السعودي ..كُلّ ذلك كان يسير بخطوات حثيثة لتحويل نظام الحكم السعودي الى نظام أوتوقراطي حديث والتحلل من نظام القبيلة الذي ساد في العقود الماضية …مع ملاحظة بدء تبلور هوية وطنية سعودية جامعة
2– على الصعيد الخارجي كانت التحديات كبيرة على المملكة…
كانت( ولازالت) تُعاني المملكة من تخادم أمريكي مع إيران رغم كلّ الشعارات المرفوعة…فقد كانت المملكة تُعاني من تقييد صفقات الأسلحة المنوي شراؤها من الولايات المتحدة وأسواق غربية أخرى تارة بحكم عدم إبرامها صلحاً مع دولة الإحتلال ومؤخراً بفعل الحرب في اليمن..بينما كان غَضّ الطرف الامريكي على تمدد أذرع الحرس الثوري الإيراني في المنطقة واضحاً وجلياً للعيان..
وفي مرحلة الربيع العربي تَمكّنت المملكة من إفشال المخططات الإيرانية على مملكة البحرين عَبر تَدخّلها العسكري المباشر وإرسالها لقوات درع الجزيرة….
وتَدخّلت المملكة بالشأن السوري بُعَيدَ إنطلاق الثورة السورية بقليل(وكان قرار التدخل يعني أن المملكة من المؤيدين لإسقاط نظام عائلة الأسد والذي عانت منه على مدى أربعون عاما) وقادت جهود طرد النظام من الجامعة العربية بعد رفضه لخطة السلام العربية لِحلّ الصراع الوليد في سورية..ووقفت علناً إلى جانب الثورة السورية بدعم عسكري وإغاثي إنساني وسياسي قوي ..
لكنها اضطرت للانكفاء عن هذا الدور لسببين رئيسيين:
1- قيامها بقيادة تحالف عربي لمجابهة الذراع الإيرانية في اليمن والتي تَمكّنت من السيطرة على العاصمة والميناء الرئيسي مدينة الحديدة ..وتهديدها بإجتباح كامل الاراضي اليمنية وأُسمي هجوم التحالف العربي على جماعة الحوثي بعاصفة الحزم والتي إنطلقت في آذار 2015 ولازالت لحد الان.
2- بعد وضع الولايات المتحدة لعراقيل كبرى أمام تسليح نوعي للثورة السورية بذرائع شتى….وإدراك المملكة لنيّة الولايات المتحدة (والتي كان رئيسها باراك اوبام يسعى بكل جهودة لاتمام صفقة الإتفاق النووي 2015) أنَّ سورية ستكون إحدى الهدايا الأمريكية لإغراء إيران بالتوقيع على الإتفاق…أعقبه رضى أمريكي على طلب قاسم سليماني من الرئيس الروسي بوتين بالتدخّل عسكرياً بقواته لإنقاذ نظام الأسد بدمشق والذي فشلت كلّ جهود فيلق القدس في الحفاظ عليه..وتلببة الرئيس الروسي للطلب الإيراني ب30 أيلول 2015…وكان كلّ رهان المملكة بعد ذلك التدخل على نفوذ روسي رئيسي في سورية على حساب نفوذ إيراني غير مرغوب به…وانكفأت المملكة عن لعب أيّ دور في الملف السوري على الأرض واكتفت بأوراق سياسية مُهمّة تُمسك بها وهي رفض التطبيع السعودي والعربي مع نظام الأسد…حتى إنّ دعمها لهيئة التفاوض السورية تلاشى كثيراً الامر الذي أدّى لوقوعها تحت الهيمنة التركية ..وساد جَوّ من القطيعة السعودية التركية إلى بدايات عام 2021 مع قدوم الإدارة الديمقراطية الجديدة ..وكان انقطاع العلاقة مع تركيا سينسحب بالضرورة على ضعف العلاقة مع المعارضة السورية المرتبطة بتركيا ارتباطاً وثيقاً لَم تَعد المملكة تملك (ولم ترغب بإمتلاكها أصلاً) أيّ أوراق مُؤثّرة بالملف السوري يَحجز لها مكاناً رئيسياً على طاولة المفاوضات بل كانت تُردّد العبارات المعروفة بأنها أحد رعاة القرار الدولي 2254 حول سورية…وتعلم المملكة أنّ دوراً رئيسياً يَنتظرها وهو إعادة الإعمار إذا ماتَمّ الوصول لحل سياسي…
لم تفتح المملكة أبوابها للنظام السوري في لحظات قاسية كانت تَمرّ بها بل زادت في ممانعتها ورفضها لأيّ تطبيع معه وتَجلّى ذلك خاصةً في نهايات العام 2018 عند احتلال الروس والإيرانيين لمناطق الجنوب السوري وحوران بِتخاذل أو رضى أمريكي عبري عربي…ولم تَستجب أبدا للرغبات الروسية المنتشية بانتصاراتها على الشعب السوري بفتح علاقات مع نظام الأسد كأمر واقع وانتشاله من أزمته الاقتصادية وإعطاء بعد عربي لمسار أستانة القوي حينذاك على الأرض…ولم ترفض كلّ الطلبات الروسية فحسب بل قَدّمت موقفا مهماً في الأمم المتحدة عبر سفيرها المعلمي بخطابه حينذاك ولاءاته العشر الشهيرةو التي تصف نظام الأسد بنظام القتلة …ولم تُلقِ بالاً المملكة لألف صاروخ ومسيرة من أذرع الحرس الثوري نالت من حرمة أراضيها ومنشآتها الاقتصادية …ولم تُقدّم أيّ تنازل لإيران تكون إحدى مفرداته الإنفتاح على النظام في دمشق
كانت الضغوط الأمريكية على المملكة كبيرة جداً إِن كان بغضّ نظر عن وصول كُلّ أنواع الدعم الإيراني للجيب الحوثي وبالتأكيد بإمكان البحرية الامريكية منع ذلك التهريب او التضييق عليه كثيراً …واكتفت الولايات المتحدة بعد ضربات آرامكو بأيلول 2019 بالتنديد الباهت به وأرسلت منظومة باتريوت مالبثت بعذ ذلك أن سحبتها لمناطق أكثر أهمية …وكانت النغمة الامريكية تَتَردد بأن منطقة الشرق الأوسط لم تعد إحدى أولويات الإهتمام الأمريكي والذي يجب أن يتركّز بشرق آسيا بجوار الصين….ومعروفة تصريحات الرئيس بايدن أثناء حملته الإنتخابية بالسعي لو فاز لجعل المملكة دولة منبوذة وكانت سهام طائفة أوباما الامريكية في الاداراة والكونغرس وأذرعهما الإعلامية غالباً ما تَكيل الإتهامات للمملكة بإنتهاكها لحريات الإنسان وحقوق المرأة وحرية الإعتقاد وما إلى ذلك من بضاعة الديمقراطيين المعدة للتصدير والمسيسة بالتاكيد…
أغلب الظنّ أنّ السهام الأمريكية من ضمن ماتهدف إليه الضغط على المملكة للإنخراط بالسلام الابراهيمي الذي ترعاه أبو ظبي والذي يَنصّ على إجراء صُلح بين العرب والإسرائيليين يتجاهل حلّ الدولتين الذي تَنصّ عليه المبادرة العربية للسلام والتي قَدّمها الملك الراحل عبد الله إلى مؤتمر القمة العربية في بيروت 2002 وتتضمّن حَلّ الدولتان فلسطينية وعبرية…بينما خطة السلام الابراهيمي تنصّ على دولة واحدة مع اجراء ترتيبات دفاعية بمواجهة الخطر الايراني وإنهاء حالة الصراع العربي الإسرائيلي بعد دخول المملكة لحظيرة السلام الابراهيمي…
يبدو أنّ القيادة السعودية لن تتحمل مسؤولية هذه الخطوة بتصفية القضية الفلسطينية ..وكان أمامها خياران…إمّا الإخراط مع ذلك السلام الموعود وعمل تنسيق دفاعي أشبه بمنظومة أمن إقليمية مدعومة غربياٍ لمناهضة المشروع الإيراني (وهي ليست واثقة من موقف الولايات المتحدة بعد والتي لايزال أمل جَرّ إيران لإتفاق نووي يراودها) ..وبذلك تدخل بمرحلة تسعير الخلاف مع إيران وتَحَمّل شرور أذرع الأخطبوط الإيراني المحيط بها…أو تذهب لتنظيم خلافاتها مع إيران وتبريد التوتر في المنطقة دون التنازل عن أيّ ثابت من ثوابت المملكة وذلك لشراء الوقت ريثما تنضج أو تتوضّح التحولات الإستراتيجية بالعالم والتي تنعكس على الشرق العربي بالتأكيد وأقصد هنا مآلات الغزو الروسي لأوكرانيا
تَشنّ المملكة حربها على فريق أمريكي وليس أمريكا كلها ذلك الفريق الذي تخادم مع إيران حتى وصلت إلى ماهي عليه الآن واستعدى المملكة كثيراً ..إنّه التوجّه الأوبامي في الحزب الديمقراطي ..وعدم إستجابتها للرئيس بايدن في الصيف الماضي بزيادة إنتاجها من الخام لخفض الأسعار وتعزيز علاقتها مع الصين وعدم أخذ موقف حاد من روسيا بسبب غزوها لجارتها مع إستمرار العمل معها بمنظمة أوبك بلس..ماهو إلا حافة هاوية تنتهجها الإدارة السعودية إتجاه فريق أمريكي والرسالة أن كل شيئ جاهز للإستدارة شرقاً ..وهنا يَصبّ الإتفاق الذي رعته بكين بين طهران والرياض
وماعلى الولايات المتحدة إلا العودة للتفاهمات السابقة والتي دشّنها الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت على متن الباخرة كوينسي عام 1945…
أيضا نظام الملالي بحاجة للتهدئة وتعويض الإخفاق بالإندماج الدولي (عبر الاتفاق النووي) بنجاح بترطيب العلاقة مع الجوار القريب وإظهار الإندماج مع الإقليم ..والإيحاء أنّ دول الإقليم لاترى مانعاً من الوضع الجديد والذي يتجلّى بسيطرة طهران على أربع عواصم عربية مع غزة
ولم يكن الإتفاق السعودي الإيراني مفاجئاً للمراقبين بل إنه أتى بعد 5 جولات من المباحثات رعتها بغداد ومسقط…وأتى بعد برودة الملف اليمني والذي إنتهت هدنة الستة أشهر من نيسان الماضي ولم تُمدّد وبالوقت ذاته لم تُستأنف المعارك…
وسيشمل التبريد الساحة اللبنانية والسورية …حيث بالإعلان عن نِيّة إستئناف الخدمات القنصلية السعودية في دمشق والتلويح بإعادة إفتتاح السفارة قريبا ..ماهوإلّا إختبار لجدية نظام الملالي بالضغط على الحوثي للدخول بعملية سياسية ..ولن تُلقِ المملكة بأوراقها القليلة نسبياً في الملف السوري جُزافا ولن يُفيدها بشيىء إعادة تعويم النظام لأن لامكاسب تُرتجى من ذلك…فنظام الأسد قد يُخفف قليلاً من شحنات تهريب المخدرات إلى المملكة لكنه مستحيل أن يتغير أو يدخل بعملية سياسية مع المعارضة السورية
وما تصريحات وزير الخارجية السعودي المتكررة مُؤخّرا بأنّ الوضع في سورية لم يعد مقبولاً إلّا إعتراضاً على ماوصل إليه الحال من إحتلال إيراني وتغيير ديمغرافي بسببه هُجّر 14 مليونا من العرب السنة خارج بلادهم….وتَحوّل تلك الدولة إلى مزرعة كبيرة لتصنيع وترويج المخدرات للجوار والعالم…كما أنّه من غير المقبول إستغلال مأساة اللجوء السوري لأسباب سياسية وإمتلاكها كورقة للتفاوض عليها
تشتري المملكة الوقت الآن وتنتظر مآلات الحرب الأوكرانية وما سيسفر عليه الوضع الإيراني والذي تُحيط به نُذر الحرب وكلّ يوم تُصبح إحتمالات ضربة إسرائيلية لمنشآت ايران النووية أكثر قرباً سواءً إشتركت معها الولايات المتحدة بشكل مباشر أو ساعدتها لوجستياً
وبالطبع لايراهن القادة السعوديون على مقولة إنتزاع الأسد من الحضن الإيراني لانه لامجال لذلك إلا بسقوط الأسد أو تَغيّر النظام في طهران..لذلك لن تكون كل دبلوماسية الزلزال ودبلوماسية التبربد إلا مرحلة عابرة بدون مقاربات جوهرية للملفات السورية المعقدة.
المصدر: داماس بوست