هناك إجماع بدأ يَتشكّل في العالم العربي على أنّه لا جدوى من عزل سورية وأنّ الحوار مع دمشق مطلوب “في يوم ما” حتى تَتَسنى على الأقل معالجة المسائل الإنسانية بما في ذلك عودة اللاجئين، هذا تصريح للأمير فيصل بن فرحان آل سعود وزير الخارجية السعودي في منتدى ميونخ للأمن، وأضاف الوزير السعودي سترون أنّ إجماعاً يتزايد ليس فقط بين دول مجلس التعاون الخليجي بل في العالم العربي على أنّ الوضع الراهن غير قابل للاستمرار.
وأضاف الوزير أنّه في ظل غياب سبيل لتحقيق الأهداف القصوى من أجل حل سياسي فإنّ نَهجاً آخر بدأ يتشكّل لمعالجة مسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار ومعاناة المدنيين خاصة بعد الزلزال المدمّر في سورية وتركيا.
وقال الأمير فيصل “لذلك ينبغي أن يَمرّ ذلك عبر حوار مع حكومة دمشق (في وقت ما) بما يسمح على الأقل بتحقيق الأهداف الاكثر أهمية خاصة فيما يتعلق بالزاوية الإنسانية وعودة اللاجئين وما إلى ذلك.
ولدى سؤال الوزير السعودي عن تقارير أفادت بأنّه قد يزور دمشق بعد أن زارها نظيراه الإماراتي والاردني في أعقاب الزلزال، قال الأمير فيصل بأنه لن يُعلّق على الشائعات.
وفي ميونيخ ذاتها قال الشيخ سالم الصباح وزير الخارجية الكويتي لرويترز إنّ بلاده لا تتعامل مع دمشق وتقدم المساعدات عبر منظمات دولية وعبر تركيا، ولدى سؤاله عمّا إذا كان هذا الموقف سيتغير؟ قال الوزير الكويتي لن نُغيّر شيئاً في الوقت الراهن.
قد يبدو كلام الوزير السعودي مفاجئاً للكثيرين خاصةً أنه يأتي في ذروة ضعف النظام السوري والذي لا يختلف اثنان على أنه يعيش أسوأ أيامه بفعل تفاقم أزماته الاقتصادية وعزلته العربية والدولية وبسبب قد يكون أهمّ من ذلك وهو الضعف الواضح لحليفيه الصلبين.
الروس الذين يزداد غوصهم في المستنقع الأوكراني والذي لانهاية له في المدى المنظور.
والإيرانيون الذين فقدوا الكثير من أوراقهم بفعل موت الاتفاق النووي وبقاء الضغوط الاقتصادية القصوى بل وزيادتها بفعل عقوبات تطال القمع الذي تُمارسه السلطات بحق المحتجين الإيرانيين في انتفاضتهم والتي دخلت شهرها السادس، وأيضاً بسبب سوء العلاقات كثيراً بين طهران والاتحاد الاوربي في أعقاب الدعم الإيراني للقوات الروسية الغازية لأوكرانيا بالمسيّرات والصواريخ البالستية في اصطفاف واضح إلى جانب روسيا الإتحادية في حربها على أوربة.
كما أنّ الفيتو الأمريكي على عدم تعويم نظام الأسد يزداد وضوحاً ومصداقية، ليس بسبب قانون قيصر فقط بل في سلسلة مواقف من ضمنها مثلاً عدم إعطاء موافقة على مرور الغاز المصري إلى لبنان عبر سورية، وقد لا يكون صدور قانون كبتاغون – الأسد آخرها واعتبار أنّ الأسد ملك مخدرات دولي يُشكّل خطراً على الأمن القومي للحلفاء في المنطقة والولايات المتحدة نفسها
ولا يَقلّ موقف الاتحاد الاوربي وضوحاً عن موقف الولايات المتحدة في عدم عودة العلاقات الدبلوماسية بين دوله ودمشق أو حتى التعبير عن امتعاضها من أيّ خطوة إيجابية لأي دولة أخرى تجاه دمشق.
وتُعتبر المواقف السعودية إلى جانب المواقف القطرية العقبة الكأداء في وجه أي تَسلّل للوهن في الموقف العربي إجمالا تجاه نظام الأسد.
وعندما كانت روسيا مَزهوّة بانتصاراتها العسكرية في سورية وكانت الميليشيا التابعة للحرس الثوري الإيراني تستهدف أراضي المملكة العربية السعودية بِمُسيّراتها وصواريخها، لم تُقدم المملكة على أي خطوة إيجابية تجاه نظام الأسد على الرغم من الإلحاح الروسي الشديد بذلك لتحقيق اختراق سياسي يتوّج تقدمه العسكري في سورية، بل فاجأهم السفير المعلمي بخطابه الناري الشهير في الأمم المتحدة، لا تصدقوهم إنّ نظام القتلة في دمشق يجثو على جماجم ضحاياه.
ما الذي حدث الآن لنسمع تلك اللهجة السعودية؟
أصبح من المعروف للجميع أنّ المشروع الإيراني يقتات على جُثث الدول المتفسّخة، ويستثمر بالفوضى، بل لا يستطيع العيش بدونها، وهذه تنسحب على إيران نفسها وليس على الدول التي تمدّد إليها الحرس الثوري فقط، والحال الذي ذكره الوزير السعودي بأنه لم يعد مقبولاً هو حالة النظام السوري الضعيف الذي تُسيطر إيران على معظم قراراته السياسية خاصةً بعد أفول النفوذ الروسي نسبياً، وبالتالي من مصلحة إيران بقاء الوضع في سورية ولبنان والعراق على ماهو عليه من انهيار للدولة وسيطرة الميليشيات، وهذا الهلال الإيراني والتمدّد في العواصم العربية الأربعة مع غزة لا يتناسب مع القوّة الحقيقية لإيران في المنطقة.
إيران الضعيفة المأزومة حتى داخلياً والتي أنهى فيها الحرس الثوري التخادم مع أمريكا والغرب عموماً بإفشاله لفرص حقيقية أتت بها الإدارة الأمريكية الديمقراطية للعودة للاتفاق النووي.
إيران الضعيفة والتي يَتمّ تهديدها جدّياً بضربة عسكرية لمنشآتها النووية تَمّ إجراء مناورات تدريبية علنية عليها.
إنّ التماهي المنطقي للمشروع الإمبراطوري الإيراني مع المشروع الإمبراطوري الروسي العابرين للحدود الوطنية للدول وتحالفهما عملياً لضرب عاصمة أوربية تُحارب دفاعاً عن الاتحاد الأوربي من مشاريع الهيمنة الروسية، بات لزاماً على الولايات المتحدة وحلفائها هزيمة هذين المشروعين بعد إضعافهما.
تُمثّل سورية واسطة العقد أو جوهرة التاج في الهلال الشيعي الذي يتيح لطهران ربط محورها الإقليمي والوصول للسواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط في سورية ولبنان.
وبالوقت نفسه يعتبر النفوذ الروسي في سورية هو الأهمّ لموسكو خارج مجالها الحيوي، ويُتيح لموسكو قواعد جوية وبحرية في خاصرة الناتو الجنوبية على المتوسط.
ولابد لاكتمال المعركة من تحرير الطاقة وطرق وصولها لأوربة من طرد النفوذ الروسي والإيراني من المنطقة وذلك في حلقة الصراع الدائر مع روسيا حول تجريدها من سلاح الطاقة أو التأثير في انسيابية وصوله للأسواق، وتُعتبر الأراضي السورية التي يتحكّم نظام الأسد بها هي القواعد الأهم والمعروفة للنفوذ الإيراني والروسي في المنطقة.
إن كانت هناك مبادرة عربية تجاه دمشق كما توحي زيارة رئيس النظام إلى مسقط واستقباله من جانب السلطان هيثم بن طارق كرئيس دولة (للمرة الأولى منذ اندلاع الثورة السورية) ببساط أحمر وحرس شرف فإنها قد تكون الأخيرة للأسد بذلك البروتوكول، في إشارة إلى إمكانية تعويمه ودعوته لحضور قمة العرب في الرياض في شهر آذار، ولكن عليه الامتثال للشروط المطلوبة منه.
ولا أظنّ أنّ الولايات المتحدة بعيدة عن أجواء تلك الزيارة وإن كُنت أعتقد أنّها لا تُعوّل عليها ولكن فليستعمل العرب آخر أوراقهم مع الأسد ويعرضون عليه تطبيعاً أفضل وأجزى له من التطبيع مع تركيا مثلاً.
ولا أظنّ أنّ الشروط التي عُرضت على الأسد هي لمناقشته بها أو طلب موافقته على بعضها ورفض الأخرى وإنّما لقبولها حزمة واحدة أو رفضها كلها، ولا مجال لاستعمال مهاراته المعروفة بالمناورة واللعب على الحبال لأنّ الوقت ضَيّق وأبواب الرياض ستكون مفتوحة له وقد تكون المطالب العربية الرئيسية الثلاثة هي:
1- إلغاء النفوذ الإيراني بكل أشكاله المدنية والعسكرية من سورية ضمن خارطة طريق واضحة وصارمة تبدأ بقطع كل العلاقات مع أذرع الحرس الثوري مثل ميليشيا حزب الله وحركتي حماس والجهاد والحشد الشعبي (الشيعي) العراقي.
2- البدء بتطبيق مفردات القرار الدولي 2254 للحل السياسي في سورية وأهمّها وأوّلها تشكيل هيئة الحكم الانتقالي.
3- الموافقة على التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، لإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي وفق المبادرة السعودية التي طرحها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في قِمّة العرب في بيروت عام 2002.
قد يكون الجميع مدركين أنّ الأسد لا يقدر على تنفيذ تلك الشروط التي تعني نهايته حتماً، وبدون شَنّ حرب عليه، فلاهو قادر على تنفيذ الشرط الأول الذي سيكون مشابهاً لمصير الرئيس اليمني الأسبق علي عبد الله صالح، ولا هو قادر على تنفيذ الشرط الثاني الذي حاول التهرّب منه على مدى السنوات الماضية بدعم روسي.
ولا هو قادر على تنفيذ الشرط الثالث الذي يعني عملياً إسقاط ذريعة محور المقاومة ورافعة مشروعه التي تستهدف بالطبع السيطرة على المنطقة العربية بحجة محاربة الاحتلال الإسرائيلي.
استبق النظام الإيراني التحرك العربي الذي رافق كارثة الزلزال الأخير بإرسال قائد لواء فيلق القدس الإيراني الجنرال إسماعيل قاآني مع رئيس أركان الحشد الشعبي العراقي عبد العزيز المحمداوي المعروف بلقب أبو فدك مع رهط من قادة الميليشيات إلى حلب واجتماعهم مع بشار الأسد في رسالة أنّ بشار الأسد هو أحد قادة الميليشيا التي يُديرها الحرس الثوري في المنطقة ولا أمل في انتزاعه من ذلك الحلف غير المقدس.
وبالطبع سيكون العرب أمام رفض جديد من بشار الأسد لشروطهم، التي ستكون كإبراء ذِمّة تجاه المشاركة في تحالف دولي لإسقاط الأسد، وقد يكون من بوابة عقوبات الكبتاغون الجاري تحضيرها، وليس بالضرورة أن تُستعمل القوّة العسكرية في إسقاطه على المدى القريب بحرب شاملة بل بِتضييق الخناق عليه وتجفيف موارده المالية من تجارة الكبتاغون وإحداث اضطرابات داخلية في مناطقه كثورة جياع أو ربيع ملوّن، مع انتظار نتائج التطورات الدراماتيكية التي ستصيب حليفيه الروسي والإيراني.
المصدر: نينار برس