القارئُ النهمُ للتاريخ في المنطقة العربية والعالم، يجدُ نفسَه في حالة من الإحباط الشديد؛ من كثرة الأقنعة التي ارتداها أصحابُ القرارِ، التي أثَّرت سلبًا على كل زوايا حياتِنا الاجتماعيةِ والثقافية والسياسية والاقتصادية، فلا تكادُ تجدُ من حولك إلَّا ملايينَ الأقنعةِ الزائفة، وسلاسلَّ لا تنتهي من التدليس والكذب والمؤامرات والدسائس والاتفاقات السرية، مما يجعلُك في حيرة من أمرك توصلك لدرجة الشك في التركيبة الجينية لأبناء جلدتك أو حتى للجنس البشري بشكل عام! في وسط هذا البحرِ الهائجِ الزاخرِ بالأقنعة الزائفة التي مازالت إلى اليوم تُحيط بكل مفاصلِ حياتنا، يخطر على بالنا تساؤلٌ قد نجد فيه جوابًا لهذه المعضلة: هل المشكلةُ تكمن في الأقنعة الخارجية التي لا تسقط إلَّا بعد فوات الأواِن أمِ المشكلة في القناع الداخلي الذي نرتديه جميعًا دون أن ندري؟ وهل هذا القناعُ الداخلي قديمٌ أم جديد؟ وما علاجُه حتى ننجو؟
كان الوليدُ بن المغيرة زعيمًا من زعماء قبيلة قريش وسيِّدًا من ساداتها، وهو من قُضاة العربِ الكبار في الجاهلية إذ اشتُهر بحكمته وبلاغته، ولُقِّبَ بين العرب بالعدل؛ لأنَّه كان يكسو الكعبة وحدَه سنة، وقريشٌ جميعُها تكسوها سنة، فكان يعدلُ قريشًا في ذلك، ولذلك كان عظيمَ القدر في الجاهلية، وكان من أكثر الناس مالًا وولدًا في قريش، ورغم جاهليتِه وشركه فقد حرَّم شرب الخمر على نفسه وعلى أولاده.
ووردَ عن ابن عباسٍ أنَّ الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله وطلبَ منه أن يقرأ عليه من القرآن، فقرأ -عليه السلام-آياتٍ من كتاب الله، فرقَّ قلبُ الوليد، ووصلَ هذا الخبرُ إلى أبي جهل، فجاء إلى الوليد، وأخبره أنَّ القوم سيجمعون له مالًا كثيرًا حتَّى يطعنَ في القرآن الكريم، فرفض الوليد وردَّ عليه بأنَّه من أكثر الناس مالًا، فطلب من أبي جهل أن يقولَ في القرآن قولًا قاسيًا يعلمُ منه الناس أنَّ الوليد ينكرُ الكلام الذي جاء به النبي، خشيةً من أن يؤمنَ الناسُ إذا سمعوا مدحَ الوليد لكلام الله. فقال الوليد قوله الشهير: “وماذا أقولُ فو اللهِ ما فيكم رجلٌ أعلمُ بالشِّعرِ منِّي، ولا برجزِه ولا بقصيدِه منِّي، ولا بأشعارِ الجنِّ، واللهِ ما يُشبهُ الَّذي يقولُ شيئًا من هذا، واللهِ إنَّ لقولِه لحلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوةً، وإنَّه لمنيرٌ أعلاه، مشرقٌ أسفلُه، وإنَّه ليعلو وما يُعلَى عليه ، وإنَّه ليُحطِّمُ ما تحته”، لكنَّ أبا جهل أخبره بأنَّ القوم لن يرضوا بمثل هذا الكلام، فطلب الوليد مهلةً، ثمَّ خلُصَ إلى أنَّ ذلك الكلامَ سحرٌ يؤثر، فأنزل الله تعالى قوله: “ذَرۡنِي وَمَنۡ خَلَقۡتُ وَحِيدٗا (11) وَجَعَلۡتُ لَهُۥ مَالٗا مَّمۡدُودٗا (12) وَبَنِينَ شُهُودٗا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمۡهِيدٗا (14) ثُمَّ يَطۡمَعُ أَنۡ أَزِيدَ (15) كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيدٗا (16) سَأُرۡهِقُهُۥ صَعُودًا (17) إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيۡفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدۡبَرَ وَٱسۡتَكۡبَرَ (23) فَقَالَ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ يُؤۡثَرُ (24) إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ (25) سَأُصۡلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبۡقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٞ لِّلۡبَشَرِ (29). من عظمة سورة المدثر ومعناها المتغشِّي بثيابه أو نحوها، أنَّها تمثل هذا القناعَ الداخلي الذي نرتديه جميعًا فيجعل بيننا وبين الحقيقة ثوبًا رقيقًا نضعه فوق أعيننا عمدًا حتى لا نرى الحقائق. لقد كشفت وثائقُ استخباراتية بريطانية رُفعت عنها السريةُ حديثًا حقائقَ مذهلةً عن نكبة الشعب الفلسطينيّ في العام 1948، فقد كانتِ الحضارةُ التي تعيشُها المدنُ الفلسطينية قبل النكبة مذهلةً، فقد كان لدى الفلسطينيين 28 مجلة أدبية، ودور سينما، ومكتبات عامة، ومسارح، وصحف، وإذاعة، وموانئ، ومباني بمعمار مذهل. كذلك كشفت تلك الوثائق أنَّ إضراب عام 1936 نجح بالفعل، وكاد يُفشل مخطط إقامة دولة إسرائيل، لولا تدخلُ أصدقاء بريطانيا وعلى رأسهم الملك عبد العزيز. إذن لماذا استطاع حفنةٌ من رجالات استخبارات بريطانيا أن يتلاعبوا بأوطاننا إلى يومنا هذا؟! ربما يكون الجوابُ واضحًا جليًّا بناءً على ما سبق؛ لأنَّنا كلنا لدينا قناع داخلي لم نسقطْه من على وجوهنا، يذكرنا بقناع الوليد بن المغيرة! أكاد أجزم أنَّ الدول التي تحررت لم تتحررْ إلَّا عندما أسقطت الأقنعة الداخلية قبل الخارجية! فلم نسمع أنَّ عنصرَ استخبارات بريطاني اتفق مع الشعوب العربية ضد بلده أو إسرائيليًّا باع معلومات سرية لدولة عدوة، لماذا يا ترى؟ لقد سمعنا عن جواسيس بريطانيين للاتحاد السوفيتي، لكنهم لم يكونوا جواسيس لمصالح شخصية، ولكن دفاعًا عن عقيدة هم مؤمنون بها، فحتى هذا الشخص الذي يصفونه بالخائن في بلاده، لا يملك قناعًا داخليًّا يختبئ وراءه! بينما نجد على سبيل المثال نوري المالكي الذي يمثل مصالحَ دولةٍ عدوةٍ للعراق يجلس مرتاحًا على سدة الحكم، ووراءه ملايين العراقيين الذين ينتخبونه، والأمرُ كذلك في كل زاوية من زوايا حياتنا…في تجارتنا وبيئاتنا الاجتماعية في مساجدنا في بيوتنا في مجالسنا…. لدينا أقنعةٌ داخليةٌ نتمسك بها مثل المدثر الخائف مما حوله يظنُّ أن قناعًا رقيقًا يمكن أن يحميَه من الأخطار والمجهول! لن تنتصر أيُّ ثورةٍ إلَّا إذا أُسقطت الأقنعةُ الداخلية قبل الخارجية؛ لأنَّها هي بيت الداء وسر الدواء. “يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤٌ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمْه مما يأكل، وَلْيُلْبِسْهُ مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم”. نعم، إنْ لم نُسقطِ القناعَ الداخلي لن ننتصر في معركة الحياة، وفي السؤال يوم القيامة. رؤية الحقائق كما هي، والاعتراف بها هي سرُّ قوة الأمم المتحررة، أمَّا الأممُ التي تريد الانعتاق من سلاسل العبودية والتخلص مما يُحاكُ لها في الغرف السرية وفي أقبية الاستخبارات، فإنَّ عليها أن تسقط أقنعتها الداخلية لتجد أن كلَّ الأقنعة الخارجية سقطت وحدَها وإلَّا سنظل كقافلة الجمال تسير معلقة بذنب حمار. يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ (1) قُمۡ فَأَنذِرۡ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ (4) وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ (5) صدق الله العظيم.