يطرق الأذهان، عشية كل ذكرى عاشوراء، تساؤلات تراكم الأيام والأحداث أجوبتها، هل يُحيي “الثنائي الشيعي”، وتحديداً “حزب الله”، ذكرى عاشوراء الحسينية العظيمة، أم انه يخطفها ويحولها الى مناسبة بل فرصة حزبية مؤاتية يسقط خلالها على نفسه مظلومية الحسين، و”يتاجر” بها دنيا وآخرة؟! الذكرى وأبعادها ومعانيها السامية في مكان، ومن ينظمها ويُحييها منهم في مكان آخر، حتى بات ينطبق عليهم المثل الشعبي الشهير “البكاء على الهريسة لا على الحسين”! منذ نشأة لبنان الكبير، لم يخلُ مشهد الاحتفاء بذكرى عاشوراء في لبنان، من جدل وسجال حول طريقة إحياء الذكرى، وكيفية مقاربتها في كل زمن وبأيّ هدف وغاية. لعل أبرز قضية طالها هذا السجال هي ما اصطلح على تسميته ب “التطبير” وهو يقضي بشطب الرؤوس بآلات حادة حتى اسالة الدماء، وهذا “الطقس الدموي” لم يزل قائما داخل البيئة الشيعية، بين من يحرمه او يدافع عن ممارسته بشراسة وبين من يتحاشى الدخول في هذا السجال لأسباب مختلفة. على ان ذلك، لم يحتكر السجال الذي طالما امتد، ليطال السيرة الحسينية وصحّة ما ورد في بعض النصوص، فضلاً عن “الإضافات” التي اتسمت في بعض الأحيان بالمبالغات وعدم الدقة، وما الى ذلك من أحاديث اختُلف حول صحتها واخرى في تفسيرها، بشأن واقعة كربلاء ومنطلقات الثورة الحسينية، والأهداف التي رسمها الإمام الحسين لنهضته في مواجهة السلطة الأموية، الممثلة بيزيد بن معاوية. غاية القول، ان النقاش حول ثورة الحسين ممتد في التاريخ، ليس بين المنتمين للمذهب الشيعي وغيرهم، بل داخل الاتجاهات في المذهب وبين رجالاته. على ان بعداً آخر متصلاً باحياء ذكرى عاشوراء، هو المتمثل بطغيان الحزبية على مراسم الذكرى واحتفالاتها في لبنان، حيث يكاد المنبر الحسيني ان يكون مصادرا بشكل كامل تقريبا في لبنان، من قبل “حزب الله” بالدرجة الأولى، ومن “حركة امل” بدرجة ثانية، ومنشأ هذه المصادرة يتأتّى من الاستحواذ والسيطرة على جلّ المساجد والحسينيات، بحيث باتت نسبة قليلة من المجالس الحسينية، خارج سيطرة هذه الثنائية لا بل نادرة. وهذا ما لم يشهده لبنان ولا الديمغرافيا الشيعية بتاريخها، التي طالما كانت تحيي الذكرى من خارج التوجيه الحزبي او الرسمي وحتى السياسي بمعناها الضيّق، مع التأكيد على ان إحياء الذكرى يبقى في الوعي العام، هو محاولة لتأكيد رفض الظلم ومواجهته ايّا كان الظالم ونصرة المظلوم مهما كانت هويته. الشهيّة الحزبية والسلطوية لابتلاع الذكرى، ورسم شعائرها على مقاس الحزب او الحركة، هو سلوك انتج وينتج بطبيعة الحال، “حسيناُ” على مقاس كل منهما، أي بما يعزز السلطة الحزبية وثقافة الولاء الحزبي، ورؤية الظالم والمظلوم من منظار قائد الحزب وخطبائه، وتفقد المناسبة وشعائرها عنصراً جوهرياً في نهضة الإمام الحسين اي الحرية، فالحسين قتل بسيف السلطة اي الخليفة، الذي لم يحتمل فكرة ان الحسين لن يبايعه، من موقع رأيه وقناعته وحريته. هذه العناوين هي الجوهر، وهي نفسها الغائبة عن مراسم الذكرى، التي يعرف الكثير من اللبنانيين، ان احياءها لم يكن مقتصراً على الشيعة كما هو الحال اليوم، بل الكثير من الذين عاصروا قبل عقود الحياة اللبنانية، يعلمون ان منبر عاشوراء كان منبراً متنوعاً، لم تكن شيعيته هوية ضيقة، بل كانت هوية انسانية تقدم رمزية الامام الحسين، باعتبارها رمزية انسانية تتجاوز الانتماء المذهبي او الديني. الابتلاء الحزبي او الابتلاع الحزبي لمراسم عاشوراء، تجاوز الحدود ويمتد، ليس بعناوين انسانية تخلق التفاعل مع غير الحزبية الشيعية، وتبدع الجاذبية الفكرية والفنية والثقافية، بل تستقوي بالنفور والتقوقع والعصبية المقيتة، هذا ما يمكن ان يلاحظه اي مقيم في لبنان، واي مراقب لمشاهد إحياء الذكرى في كثير من الشوارع او المراكز، التي تقع خارج المناطق ذات الغالبية الشيعية. وإلى “الطامة الكبرى”، في نقل الحسينية الى “مسرح المدينة” في شارع الحمرا، لكأنما ثمة حاجة لنقل الحسينية الى المسرح، أما المفاجأة الصادمة فكانت في موقف الفنانة الكبيرة نضال الأشقر، من إلغاء المسرح لصالح الحسينية، وإن كان لها مكانتها ودورها ووظيفتها، كما للمسرح دوره ووظيفته. كان من واجب نضال الأشقر ان تتمسك بشروطها الفنية والمسرحية، إذ انه مع التقدير لرحابة صدرها وحريتها، كان من المنتظر منها ان تشترط المحافظة على وظيفة المسرح، وان تستفز عقل من طلب منها إشغال المسرح، بسؤاله المفترض، “أليست عاشوراء مجالا لابداع مسرحي وفني، هاتوا ما لديكم من إبداع لتقارعوا إبداعات الآخرين”. ربما هذا تخيّل لا مكان له في الواقع، فالذي يسري في “المدينة ومسرحها” اجتياح لا مساحة فيه للتفاعل والحوار والابداع، ولا مكان فيه لجوهر الحرية، التي لبست لبوس الميليشيوية، والتي تبقى بكل ابعادها الأمنية والثقافية، هي المثل الأعلى وهي القيمة التي لا قيّم فوقها ولا مسرح ولا فنون.. ولا عاشوراء الحسين، إذ هو من قال في بواعث ثورته “: إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين”. فأين هم منها؟!
المصدر: جنوبية