هذه محاضرة ألقيتها في ندوة موسعة خُصصت لتسليط الضوء على المشروع المقترح لمد أنابيب تحت سطح البحر الأبيض المتوسط، لنقل المياه العذبة من تركيا وإيصالها إلى فلسطين المحتلة، كان الحديث عن هذا المشروع قد أخذ أبعاداً سياسية واقتصادية جدية وحظي بدعم دولي من القوى المساندة لإسرائيل، ولكن فكرة المشروع أخذت بالتطور مع تصاعد الحديث الإعلامي عن المكامن الهائلة لنفط بحر قزوين وتم تسويقه على أنه قارب النجاة لاقتصاد الطاقة لأنه سيحرر الغرب عموماً والدول المستهلكة الكبرى للنفط من التوظيف العربي لسلاح النفط في ابتزاز الدول الفقيرة في مصادر الطاقة.
وقد دعا إلى عقد الحلقة البحثية، المنتدى الثقافي العراقي في دمشق في 6 كانون الثاني/يناير 2009، وشارك فيها عدد من المتخصصين في شؤون الطاقة، والمياه والأنهار الدولية، وقد طُلب مني أن أشارك في الندوة ببحث سياسي للتعاطي مع الأزمتين، فكان هذا البحث الذي ألقيته عندما كانت ملامح السياسة التركية الجديدة وخاصة فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل، والذي شهد تعديلا ًملموساً بعد واقعة سفينة مرمرة والتي حصلت في 31 أيار/مايو 2010، عندما داهمت قوات البحرية الإسرائيلية النشطاء الحقوقيين على متن السفينة في المياه الدولية للحيلولة دون وصولها إلى غزة، وأدى الهجوم إلى مقتل 10 ناشطين أتراك بالإضافة إلى إصابة 60 آخرين، كما أن الندوة عُقدت قبل انطلاق ما سُمي بالربيع العربي عام 2011 الذي أوجد معادلات وتوازنات جديدة وأدخل أطراف إقليمية لم تكن تحلم بما مُنح لها من فرص.
—————-
كان الإنسان ومنذ أنْ وجد على سطح المعمورة، يتطور في أساليب عيشه واستفادته من الموارد الطبيعية التي تحيط به، وخاصة في مجال استخدام مصادر الطاقة، وبإمكاننا أنْ نطلق وبلا تردد اسم حضارة النار ، على مسيرة الإنسان في تطوره عبر الحقب المختلفة.
وربمّا كان الحطب أول مصدر معلوم، لجأ إليه الإنسان لتأمين احتياجاته في التدفئة وسائر الاستخدامات المنزلية والتي كانت تتسم بالبساطة المفرطة، وحينما تطورت حاجاته تبعا لتطور فعالياته ومداركه معا، ودخول النشاط الاقتصادي على مستوى الجماعات، دخلت قوة الريح في تسيير المراكب، وقوة الماء لإدارة النواعير لرفع مناسيب الماء من الأنهار إلى الحقول المجاورة، وهما من المصادر المتجددة والتي تصلح لإدارة جزء حيوي من عجلة الاقتصاد العالمي، وخاصة في مجال توليد الطاقة الكهربائية.
وكان لاكتشاف قوة البخار في مطلع عصر النهضة، قوة الدفع الكبرى التي أطلقت عمليات تنقيب كبرى عن الفحم الحجري، الذي اختزنت منه أوربا والعالم الجديد الشيء الكثير، وقد ساعد الفحم على تشغيل المحركات سواء في السفن التي طفقت تجوب أعالي البحار، بحثا عن المزيد من الموارد الطبيعية التي تدخل في الصناعات التي أخذت طابع الإنتاج الكبير، أو في تسيير القطارات بين المدن المختلفة والتي ربطت مصالح متعاظمة مع مرور الزمن، سواء بجلب المواد الأولية للمصانع التي كانت تقام بوتائر متسارعة، أو لتصريف المواد المصنعة والتي كانت تبحث لنفسها عن أسواق استهلاكية تناسب حجم إنتاجها.
وبعد اكتشاف أهمية النفط ومكامن وجوده، اندلعت حروب من طراز جديد بين الشركات داخل البلد الواحد، وبين البلدان التي وجدت أنّ مصالحها توجب عليها دعم شركاتها في حروب عقود النفط التي تم فرضها على الكثير من دول العالم، والتي لم تكتشف أهمية ما تمتلكه من ثروة ستحدد مصير الخرائط السياسية لدول العالم، وعلى الرغم من أنّ النفط لم يحذف الفحم من لائحة مصادر الطاقة، إلا أنّ النفط ونتيجة لدخوله في معظم المفاصل الأساسية للاقتصاد العالمي، إنتاجا وتسويقا وتصنيعا، ولسهولة استخداماته في كل المحركات، فقد أصبح المصدر الأول للطاقة في عالم اليوم، بحيث لا يضاهيه مصدر آخر، مثل الطاقة النووية التي دخلت على خط الإنتاج للأغراض السلمية، ولكنْ بحذر شديد نتيجة المخاوف من أخطارها على الجنس البشري وسائر الكائنات الحية، ويمكن القول إنّ الطاقة النووية كانت تتقدم خطوة وتتراجع اخرى للأسباب المذكورة، كما توسعت بحوث الطاقة البديلة وخاصة المتجددة، فعاد الإنسان إلى الشمس باعتبارها مصدر كل الطاقات التي يمكن للإنسان الاستفادة منها، وإنْ كانت بحوثها لم تحقق مكاسب ملموسة بما يتناسب مع طموح الإنتاج الواسع لها وكذلك مع تطر التكنولوجيا في مختلف الأغراض، وإلى تطوير إنتاج الطاقة الكهربائية من مساقط المياه فأقام لهذا الغرض السدود الكبرى إضافة إلى ما توفره من مياه لأغراض الري، أو الطاقة المنتجة من قوة الريح، أو تطويع ظاهرة المدّ والجزر لإنتاج الطاقة الكهربائية، ولعلّ التوسع في إنتاج الوقود الكحولي هو الأمل الذي تعلق عليه دول زراعية كبيرة مثل البرازيل، لتقليص حاجتها للنفط المستورد، ولكنّ هذه السياسة اصطدمت بردود فعل مناهضة نتيجة الآثار المترتبة على ذلك، وخاصة في ارتفاع أسعار الغذاء على المستوى العالمي، ويتوقع بعض العلماء أنّ الجهود يجب أنْ تتركز على بحوث إنتاج الهدروجين والأوكسجين من الماء بأرخص التكاليف وأيسرها من أجل الحصول على مصدر راسخ للطاقة وقد لا يعرف النضوب، ولكنّ بحوث هذا المصدر ما تزال في نطاق التجارب المختبرية ولم تنزل إلى ميدان الاستخدامات التجارية.
وهكذا تمكّن الإنسان من التحول عبر الحقب الزمنية المختلفة، من مصدر للطاقة إلى مصدر أو مصادر بديلة، فإذا كان الإنسان قد طوّر الكثير من المصادر لاستخدامات الطاقة، فإنّه ظل عاجزا عن إيجاد بديل آخر عن الماء في إدامة أسباب الحياة على سطح الأرض، بل أنّ الإحصائيات تؤشر أنّ هناك عجزا فادحا في المصادر الطبيعية للمياه العذبة اللازمة لأغراض الاستهلاك البشري ولأغراض الزراعة والتوسع فيها تبعا للزيادات المطردة في عدد سكان الأرض وتطور قدراته المادية مما جعل طلبه للماء في تزيد مستمر، ومع ذلك فهناك تفاوت كبير بين ما يحصل عليه الفرد الواحد من المياه الصالحة للاستخدام البشري بين دولة وأخرى، ولمّا كانت الأنهار الدولية المشتركة بين أكثر من دولتين، وخاصة في الدول النامية لم تجد لها حلولا قانونية حاسمة تمنع الخلاف والتفسيرات المتقابلة، فمن المتوقع أنْ يكون القرن الواحد والعشرون قرن حروب المياه، ما لم يتوصل العالم إلى حلول عادلة تضمن حقوق الدول المتشاطئة على حوض الأنهار الدولية، ويمنع الدول التي تمنحها تضاريس مرور النهر القدرة على إلحاق الحيف بدول أسفله، ولعلّ منطقة الشرق الأوسط هي من بين أكثر المناطق المرشحة لمثل هذه الحروب، خاصة وأنّ إسرائيل تسعى لجلب المزيد من المستوطنين لغرض إسكانهم في صحراء النقب، وهو هدف لا يمكّن تحقيقه حتى في حال توفر القدرة العسكرية، ما لم تتوفر حصص مائية ثابتة، ولمّا كانت فلسطين من الدول الفقيرة في مواردها المائية أصلا، فإنّ إسرائيل سترنو بنظرها نحو مصادر المياه العربية في الجولان ولبنان، ولأنّ ذلك غير متاح بصفة مستمرة، أو غير كاف في حال توفره، فقد وجدت إسرائيل أنّ أمنها يستوجب ربط أطراف إقليمية غنية بمصادر المياه العذبة مثل تركيا، بالمشروع الإسرائيلي بأوجه متعددة، فكان مشروع الأنابيب المتوسطي الرابط بين ميناء جيهان التركي والموانئ الإسرائيلية المزدوج الأغراض أي لجلب المياه الفائضة عن الحاجة التركية إلى اسرائيل التي تعاني من شحة في المياه، وهذا مشروع استثماري التقت فيه مصلحة تركيا بمصلحة إسرائيل سيدر موارد لا يستهان بها، وحتى قبل البدء بتنفيذ المشروع أو حتى قبل وضع تصاميمه النهائية، بدأت الأفكار تتلاحق في تطوير مدياته تبعا لما تخطط له إسرائيل على المدى البعيد، فبدلا من شواطئ المتوسط كنهاية لخطه الجنوبي، بدأ الحديث عن ضرورة إيصاله إلى ميناء إيلات على خليج العقبة، كي يجعل من إسرائيل محطة وسيطة بين جهات مختلفة المصالح، تسعى إلى أيجاد قواسم مشتركة في الطاقة والمياه والاتصالات، وفيما بعد في شؤون الأمن، وربمّا تُولي إسرائيل هذا الجانب أهمية استراتيجية، لترابط الأمن الإسرائيلي بثبات موارد المياه والطاقة.
ومن حقنا بل من واجبنا أنْ نطرح سؤالا محددا عن دوافع الهند للبحث عن طاقة يجب أنْ تمر عبر المتوسط ثم البحر الأحمر ثم البحر العربي ثم المحيط الهندي حتى تصل إليها؟ بعد أن قيل أنها تدعم هذا الشروع بقوة، فإذا كان الحديث عن إحدى مزايا خط النفط القادم من ميناء سامسون على البحر الأسود والذاهب إلى جيهان التركي ثم إلى ميناء عسقلان ومن ثم إلى ميناء إيلات، يمكن أنْ يختزل المسافة لنقله من ميناء جيهان إلى الموانئ الهندية من 50 يوما إلى 19 يوما، فهل أنّ الهند قررت التحول عن نفوط الخليج العربي والتي يمكن أنْ تصلها من موانئ الخليج العربي في وقت أقصر من أقصر وقت تستغرقه الرحلة من ميناء إيلات إلى ميناء بومبي، والتحول إلى نفط بحر قزوين؟ والذي سيمر عبر ممرات لا يمكن أنْ تضعه في موقع تنافسي مع النفط الخليجي الأقل تكلفة بحكم قرب المسافة مقارنة بأي نفط آخر، مع ما يترتب على ذلك من انخفاض كلف الشحن والتأمين، أم أنّ للهند حسابات اخرى دفعتها لتفضيل نفط قزوين على نفط الخليج العربي؟
قد تلتقي مصالح العالم الغربي خصوصا ومصالح الدول المستهلكة لمصادر الطاقة، في إعطاء الدعم لمكامن النفط البديلة والتي ترمي إلى تقليص أهمية النفط العربي وتقلص من دور منظمة أوبك في تجارة النفط الدولية، وبالتالي تحويل مركز الدول العربية المنتجة للنفط إلى دول متسولة للصداقات الدولية، بعد أنْ كانت دول العالم تجري وراءها كسبا لودها، دون أنْ تتمكن دول النفط من توظيف ثرواتها في محافل الصراع الدولي.
منذ استقلال الهند وانفصال باكستان بشطريها الشرقي المعروف حاليا بدولة بنغلاديش، والغربي والذي يمثل الدولة الباكستانية، شهدت علاقات شبه القارة الهندية بالوطن العربي وإسرائيل إشكالية وثنائية معقدتين، خاصة وأنّ استقلال دولتي الهند وباكستان قد جاء متزامنا مع إنشاء دولة إسرائيل بفاصلة قريبة، فحيثما اتجهت بوصلة باكستان، كانت الهند تتجه على الضد منها تماما، ويمكن الاستدلال على ذلك بالتطور اللافت للنظر في علاقات الهند بالاتحاد السوفيتي والذي أخذ طابعا مركبا في توريدات السلاح والتبادل التجاري، وعلى الرغم من أنّ الهند كانت عضوا مرموقا في رابطة الكومنولث، فإنّها كانت من الدول الرئيسة المؤسسة لحركة عدم الانحياز كما أنّ رئيس وزرائها البارز جواهر لال نهرو كان لولباً في مؤتمر باندونغ، وكان هو والرئيس الراحل جمال عبد الناصر والرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو، هم الذين وضعوا تواقيعهم على البيان التأسيسي لحركة عدم الانحياز في مؤتمر بلغراد.
بالمقابل فإنّ باكستان اختارت التحالف مع الولايات المتحدة والانضمام إلى حلف بغداد، الذي رعته ووضعت حجر الأساس له كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، وكانت هواجس كل من الهند وباكستان تتجه نحو الاخرى بأعلى درجات الارتياب، ولم يتمكن البلدان من التوصل إلى حلول مرضية للطرفين، خاصة وأنّ ملف كشمير سيبقى قنبلة موقوتة على طريق تحسين علاقاتهما، ويبدو أنّ الدول العربية قد توزعت في علاقاتها مع الهند وباكستان تبعا لطبية النظام الرسمي في كل دولة، فقد انحازت الدول القريبة من العالم الغربي إلى جانب باكستان، وربمّا كان للمال السعودي دور في انضمام إسلام آباد لعضوية النادي النووي، على حين أنّ مصر عبد الناصر اختارت العلاقة الصميمية مع نيودلهي، ولم تلعب القضية الفلسطينية إلا دورا صغيرا في رسم مساري هذه العلاقات وإنْ ترافق مع ضجيج إعلامي من كلا طرفي المعادلة العربية كل يدعي الدوافع القومية في علاقاته مع الهند أو باكستان، وبعد هزيمة حزيران 1967، ورحيل عبد الناصر عام 1970، ورحيل نهرو وهزيمة حزب المؤتمر الهندي في الانتخابات اللاحقة ومجيء حزب جاناتا بزعامة مورارجي ديساي، دخلت معادلات جديدة كان بالإمكان اعتبارها بداية التحول في علاقات الهند بإسرائيل وربط البلدين بشبكة مصالح متعددة المحاور بما في ذلك التعاون العسكري متعدد الصفحات، وربمّا خرجت الهند بحسابات جديدة مؤداها أنّ مصلحتها تقتضي عقد علاقات خاصة مع الولايات المتحدة، يمكن أنْ تضع علاقات باكستان مع واشنطن على أعتاب مرحلة جديدة من المفاضلة بين الطرفين، ورأت نيودلهي أنّ المدخل المناسب لعلاقات تعاون متدرج مع الولايات المتحدة، يمكن أنْ يجد مداخله الناجحة عبر البوابة الإسرائيلية، ومضت في هذا الخيار إلى نهايته، ولم تتوقف عند حد تلقي المقترحات لتوسيع آفاق التعاون، بل أخذت تجهد نفسها في اقتراح كل جديد من أجل إيصال العلاقات إلى درجة عالية من الفاعلية، لكنّ المثير في المشروع المقترح أنّه سيلحق ضررا مؤكدا بحليف قديم للهند وهو مصر، فإذا سلمنا بأنّ من حق الباب العالي أنْ يستنهض الموروث التاريخي من التحسس من دور مصر محمد علي، وأنّ مصلحة إسرائيل حتى وهي في أحسن أوقات علاقاتها مع مصر، تقتضي إبقاء مصر ضعيفة في عناصر قوتها الاقتصادية الرئيسة وخاصة في قناة السويس، فإنّ طبيعة الأشياء ستقودنا إلى التساؤل التالي، ما هي مصلحة الهند في تحويل التجارة الدولية وخاصة النفط إلى ممرات اخرى غير قناة السويس؟ قد ترى مصر تهديدا تشترك فيه أطراف دولية كثيرة لأمنها القومي، في ثلاثة مفاصل حيوية، الأول المشروع المقترح الذي يسعى أصلا لتحويل الخطوط الملاحية عن قناة السويس، والثاني إطلاق يد بعض دول حوض النيل والتي قد تجد في الخطوة التركية سابقة يمكن تكرارها لفتح أبواب تجارة الماء أو مقايضته بسلع استراتيجية، هذا فضلا عمّا يمثله من سطو على حقوق سوريا والعراق في نهر الفرات خاصة، حينما يتم تحويل جزء من موارده إلى أنابيب ثم تحولها إلى إسرائيل، وهي طرف لا صلة له بحوضي النهرين إلا من حيث الأسطورة التاريخية التي تقول إنّ حدود إسرائيل تمتد من النيل إلى الفرات، ويعتقد خبراء المياه في العالم، أنّ هذا القرن هو قرن حرب المياه بين الدول المتشاطئة على وديان الأنهار العابرة للحدود، ما لم تفعّل الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة، فهل تريد تركيا أنْ تفتح الصفحة الأولى في هذه الحرب في منطقة لا تنقصها أسباب إضافية للتوتر؟
والمفصل الثالث هو ما يشهده خليج عدن من تهديد لحركة الملاحة عبر قناة السويس، مما قد يفرض على مصر تقديم المزيد من التنازلات السياسية لصالح الغرب وإسرائيل، فقناة السويس تمثل شريانا لا غنى عنه لاقتصاد مصر، وأية محاولة لخنقه ستبدو محاولة لضرب استقلال البلاد السياسي بعد تجريدها من عنصر استقلالها الاقتصادي.