لم يسبق أن تحوّل ملف اختيار رئيس جمهورية العراق، ذي الصلاحيات المحدودة، إلى عقدة كبرى كما هو الآن، فاتفاق التقاسم بين الحزبين الكردستانيين الرئيسيين، الاتحاد الوطني (يكتي)، والحزب الديموقراطي (بارتي)، بقي نافذاً طيلة سنوات، وبموجبه، يحصل الأول على منصب رئاسة جمهورية العراق، فيما يحتفظ الثاني برئاسة إقليم كردستان العراق.
قواعد جديدة
إعلان التحالف الثلاثي، بين زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وزعيم “البارتي” مسعود بارزاني، ورئيس حزب “تقدم” محمد الحلبوسي، غيّر قواعد اللعبة، فبارزاني بات يعتبر نفسه في حِلّ من الاتفاق القديم، وأن من حقه الحصول على رئاسَتي الإقليم والعراق، بعدما انضم إلى الائتلاف البرلماني الأكبر، الذي يشكّل نحو 180 مقعداً من أصل 329.
رشّح بارزاني من مقرّه في أربيل، وزيرَ داخلية إقليم كردستان العراق، ريبر أحمد لمنصب رئاسة العراق، بعد استبعاد القضاء المرشح الأول للحزب، هوشيار زيباري.
وأحمد، شخصية قليلة الظهور في الإعلام، ومن خلفية أمنية، وبسيرة سياسية متواضعة، وهو أحد الناجين من المذابح التي نفذها نظام صدام حسين ضد الحركة الكردية.
أما “اليكتي”، الذي احتفظ برئاسة العراق منذ عام 2005، فقد قرر من معقله في السليمانية، على ما يبدو استخدام “جميع الوسائل” للرد.
ويحظى “اليكتي” بعلاقات تاريخية فوق العادة مع إيران، بينما يُعتبر “البارتي” أقرب إلى تركيا.
صالح وبارزاني
ينتمي الرئيس الحالي برهم صالح إلى “اليكتي”، وقد وصل إلى منصبه عام 2018، خارج إجماع “البيت الكردي”، على عكس أسلافه. وشهدت جلسة انتخاب صالح صخباً غير مألوف، حين تقدم الحزبان الكرديان بمرشحَين، تنافسا لحصد منصب الرئيس، وفاز صالح بفارق بعيد عن فؤاد حسين، مرشح “البارتي” الذي كان قد نظّم قبل أشهر من جلسة انتخاب الرئيس استفتاءً لانفصال إقليم كردستان عن العراق.
ورغم أن صالح قد اشترك هو الآخر في استفتاء الاستقلال، إلا أن اسمه كان أقل استفزازاً للنواب والرأي العام العراقي خارج إقليم كردستان، نظراً لمهاراته الخطابية، ولغته العربية الرصينة، وتركيزه على محوريّة بغداد في معظم أحاديثه.
واعتبر بارزاني حينها، أن ما فعله برهم صالح، و”اليكتي” كان تحدياً وخرقاً للاتفاق و”الإجماع الكردي”، وأبقى اسم صالح في القائمة السوداء، حتى بعد مرور 4 أعوام، إذ يعتبر “البارتي” أمر تجديد الولاية الرئاسية لصالح أمراً غير قابل للنقاش.
ويصف بعض متشددي “البارتي” برهم صالح بـ”العراقوي”، في محاولة لوصمه والتشكيك بصدق ولائه لقوميته الكردية، أما صالح فيلمز مرشحي “البارتي” بعبارة “العراق يحتاج رئيساً لا مرؤوساً” في إشارة إلى أن مرشحي حزب بارزاني، يتبعون زعيم حزبهم، على عكس صالح الذي يعتبر قيادياً في حزبه “اليكتي”، فضلاً عن أن الأخير ليس حزباً شديد المركزية مثل “البارتي”.
ولا ينظر بارزاني بارتياح لتنامي دور شخصية كردية بمهارات برهم صالح في بغداد، فإن كان ثمّة ممثل للكرد في العاصمة، فينبغي أن يكون من “البارتي”، أو فليكن رئيساً متواضع الإمكانات كفؤاد معصوم، وليس كردياً قادراً على خطف الأضواء بعيداً من أربيل، مثل برهم صالح.
لكن سياسة بارزاني التي تستهدف تعزيز الحضور في بغداد، بعد سنوات من خطابات الانعزال، تصطدم بافتقار الحزب إلى شخصيات “كارزمية” يمكن تصديرها إلى العاصمة.
ولذا، يطلب بارزاني من غريمه “اليكتي” استبدال برهم صالح بأي مرشح آخر، كائناً مَن كان. ويُطلق “البارتي” إشارات عديدة إلى قبوله بترشيح شخصيات من السليمانية، مثل وزير الموارد المائية الأسبق عبد اللطيف رشيد، الذي لا يُشكل، نظراً لسيرته واهتماماته، أي منافسة لزعامة بارزاني، كما تنشط حملة أخرى لدعم التصويت للقاضي رزكار أمين، الذي ساهم في محاكمة رئيس النظام السابق صدام حسين.
لكن “اليكتي” لديه هو الآخر أسبابه التي تجعله مصراً على ترشيح برهم صالح.
صالح وحزبه
لم يكن برهم صالح قيادياً “مريحاً” داخل “اليكتي”، وقاد حركات عدة كما في إعلانه تشكيل جناح مستقل داخل “الاتحاد” خريف عام 2016، ثم انشقاقه رسمياً وتأسيس حزب جديد مطلع عام 2018، وخوض الانتخابات منفرداً، بعدما تعهد بعدم العودة إلى “اليكتي” وأنه سيُطلق عهداً سياسياً جديداً في السليمانية والإقليم.
لكن “الاتحاد” سرعان ما تمكّن من استعادة صالح، حين عرض عليه مغادرة حزبه الجديد، مقابل ترشيحه لرئاسة الجمهورية، وهو ما وافق عليه، وأدار الظهر لمريديه، محلقاً إلى قصر السلام في بغداد الذي يقيم فيه منذ 4 أعوام، حيث يستريح من التدافع السياسي في الإقليم، كما يريح منافسيه في “اليكتي”، وفق صفقة مربحة للطرفين.
غير أن سيناريو فشل تجديد الولاية الرئاسية، وعودة صالح إلى السليمانية، سيعني أن السياسي الذي لا يتوقف عن الطموح، قد يعود إلى “إثارة المتاعب” بالنسبة لمنافسيه داخل “الاتحاد”، ولذا فإن إصرار الأخير على أن صالح هو المرشح الوحيد للرئاسة، ينطلق أيضاً من استقراء قيادات الحزب للمستقبل.
صالح والفصائل الموالية لإيران
بعد استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، على وقع احتجاجات تشرين الأول (أكتوبر) عام 2019، شكّل صالح وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ثنائياً مُنسجماً.
رفض صالح تكليف مرشح القوى الموالية لإيران أسعد العيداني بتشكيل الحكومة، وأعلن استعداده تقديم استقالته من المنصب، في قرار غير مسبوق، كما بدا تصلّب موقف الرئيس حينها ملائماً لبعض أوساط المتظاهرين، الذين اعتبروا ترشيح العيداني خطوة مستفزة، وهو الذي علّق متظاهرو البصرة صوره في الميادين إلى جانب شخصيات أخرى متهمة بالتواطؤ في اغتيال النشطاء المناهضين للنفوذ الإيراني.
وإثر ذلك تعرض صالح إلى ضغوط ثم تهديدات واتهام بالمشاركة في مؤامرة ضد القوى الشيعية، واضطر على إثرها إلى ترك قصره وسط بغداد، والمغادرة إلى مدينته السليمانية.
يتهم مقربون من “التحالف الثلاثي” الرئيس صالح بالتسبب في أزمة “الثلث المعطل” التي تعرقل حتى الآن مشروع الثلاثي بعقد جلسة انتخاب الرئيس الجديد رغم مرور 6 أشهر على إعلان نتائج الانتخابات، وذلك بعدما “نبش” الرئيس سؤالاً مسكوتاً عنه، ووجهه إلى المحكمة الدستورية، استفهم فيه عن عدد النواب اللازم حضورهم في جلسة انتخاب الرئيس، لتجيب المحكمة بأن المطلوب هو حضور ثلثي النواب، وليس أغلبية النصف زائداً واحداً.
وقد وصل صالح إلى منصبه الحالي، في جلسة حضرها 302 نائبين، وفاز بأغلبية ساحقة بعد حصوله على 219 صوتاً من أصل 329. لذا، لا يبدو متقبلاً لفكرة مغادرة القصر، وإخلائه لمرشح يفوز في جلسة يعقدها 170 نائباً.
وسيكون على صالح انتظار تفاقم الانسداد السياسي، وفشل “الثلاثي” بإقناع المستقلين، في إكمال نصاب جلسة انتخاب الرئيس، لتنتعش حظوظه مدعوماً من قوى “الإطار” الحليفة لإيران، التي حرص صالح على عدم استفزازها حتى بعد القصف الإيراني ضد أربيل، حيث لم يزر موقع القصف، واكتفى بتغريدة إدانة من بضعة أسطر.
صالح الأمس واليوم
لكن صالح يبدو اليوم بعيداً جداً من أرقامه في 2018، بعد 4 سنوات قضاها في المنصب، لم ينفذ فيها كثيراً من وعوده البراقة أثناء حملته الانتخابية، إذ كان ينتظر المتفائلون بصالح، رئيساً بمهام مختلفة عن أسلافه، الذين اقتصروا على تنظيم اجتماعات للوساطة والصلح بين الفرقاء عند الأزمات السياسية.
وكان من وعود صالح، حديثه عن إحياء “مجلس إعمار العراق” الذي انتهى عملياً بعد الانقلاب الذي أطاح المملكة العراقية.
أما مؤونة الرجل في رحلته الشاقة إلى التجديد، فترتكز على 3 شعارات، الأول هو “قانون استرداد عائدات الفساد والأموال المنهوبة من قبضة الفاسدين”، والثاني هو خوض المهمّة التي بقيت شبه مستحيلة بتعديل الدستور، والثالث “مشروع إنعاش وادي الرافدين لمواجهة التغيير المناخي” والذي يتحدث فيه عن خطة لزراعة مليار نخلة بحلول عام 2030. ورغم الرقم الفلكي الذي يمثل حلماً للعراقيين، إلا أن الفكرة لم تنل حماسة شعبية، ربما نظراً لسجلّ الرئيس في التصريحات النارية والبراقة.
وزارة الخارجيّة لشؤون التّرضية
ولا يبدو أن ثمة حلاً ناجعاً، يُبقي صالح بعيداً من مزاحمة زملائه في السليمانية، ويضمن أيضاً مشاركة “اليكتي” في إكمال نصاب جلسة انتخاب الرئيس، إلا اقتناع الرئيس بالتنحّي، عبر جائزة ترضية.
ودرجت العادة على اعتبار حقيبة الخارجية موئلاً لـ”الزعلانين”، حيث تم تسليم مرشح رئاسة الجمهورية الخاسر فؤاد حسين، وزارة المالية، ثم الخارجية عام 2020.
وعام 2014 تولى الحقيبة أيضاً رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري، الذي غادر حزب الدعوة بعد استبداله بنوري المالكي.
وإبان تكليف عدنان الزرفي بتشكيل الحكومة، تسرّب عرض عن ترشيحه للخارجية مقابل التخلي عن تشكيل الحكومة، إلا أنه قرر الدخول في فترة عزلة سياسية.
ويخوض التحالف الثلاثي واحدةً من أواخر محاولاته في إقناع المستقلين بإكمال نصاب جلسة انتخاب الرئيس. وفيما لو فشل الثلاثي في مسعاه، فسيكون مضطراً لإحياء التفاهم مع “اليكتي” ومحاولة استرضائه، أو الرضوخ لمبادرات حلفاء إيران في الإطار التنسيقي لتشكيل حكومة توافقية.
المصدر: النهار العربي