مع دخولِ العالمِ في الحرب الأوكرانية وما جرته معها من هزة للنظام العالمي، بدأ الكثيرُ يتساءل عن شكل العالم في المستقبل؟ وهنا في هذه السطورِ سنتحدث عن حالةٍ استشرافيةٍ عن شكل العالم في المائة سنة القادمة، لكن لن ننطلقَ من محض الخيالِ كما يروجُ له كتابُ سينما هوليود، بل سنجتهد في الاستناد إلى القواعد والحقائق العلمية التي ساهم في وضعها الكثيرُ من علماء الاجتماع والاقتصاديين الغربيين. ومع كلِّ ما سبق يبقى هذا السيناريو تخيليًّا محضًا لأن المستقبلَ لا يعلمُه الا اللهُ، وإن كان تجنبُ مخالفةِ السننِ الكونيةِ يخففُ من هوامش الخطأ في التقدير والاستشراف.
زيجمونت باومان Zygmunt Bauman عالمُ الاجتماعِ الشهيرُ في نظريته عما بعد الحداثة، تحدَّث بإسهاب عن العولمة وما جلبته معها من تحول في المجتمعات والشعوب إلى الحالة السائلة بعد مرحلةٍ جلبتْ فيها القوميةُ والفاشيةُ والثيوقراطيةُ حالاتٍ شبهَ صُلْبةٍ. وبناء على الحالة السائلة التي نعيشها، والتي أدت إلى صعود اليمينِ في الغرب والفاشية في الهند والنجاح القصيرِ بردات الفعل للديكتاتوريات التي سوَّقت للخوف من الانحلال في الصين والدول العربية، سنستند إلى التنبؤ بالعالم الجديد الذي سيحكم الدينامياتِ المحركةَ للبشرية في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة.
عبر بحثي عن أهمِّ توقعاتِ كبارِ خبراءِ الاقتصادِ العالميين في فترة كورونا اقبست تسعةَ تصريحاتٍ محوريةٍ، يمكن أن ترسمَ شكلَ العلاقاتِ الاقتصادية في المائة سنة القادمة. وعلى الرغم أن هذه التصريحاتِ كانت في أزمة كورونا وقبل الأزمة الروسية -الأوكرانية لكنها مازالت تصلحُ لتكونَ مؤشرًا هامًا لتحديد مستقبلِ العالم. ألخص هذه الآراء في النقاط التسعِ التالية:
- 1. يقول جوزيف إي. ستيجليتز: (Joseph Eugene Stiglitz)”سيتعيَّنُ على البلدان أن تسعى لتحقيق توازنٍ أفضلَ بين الاستفادة من العولمة ودرجةٍ ضرورية من الاعتماد على الذات”. وهذا يعني أن سلاسلَ التوريد عبر الحدود ستنخفض للحد الأدنى.
- 2. يقول روبرت جيه. شيلر : (Robert J. Shiller)”قد نجد الآن الدافعَ لبناء مؤسساتٍ دوليةٍ جديدةٍ، تسمح بمشاركةٍ أفضلَ للمخاطر بين البلدان”. هذا يعني منظماتٍ جديدةً بديلةً لكثير من المؤسسات الدولية مثل WHO,WFP,UN security council, WTO التي كانت ومازالت تحكم حياتنا.
- 3. تقول غيتا جوبيناث : ( Gita Gopinath) “فرضُ قيودِ حمايةٍ على التجارة تحت ستارِ الاكتفاءِ الذاتي وتقييد حركةِ الأشخاصِ بحجة الصحةِ العامة “. يعني تغيراتٍ شديدةً في القوانين وقواعدِ الاستيراد والجمارك وكلفهِ وتغيرًا في المعادلة القائمة حاليًّا بين التجارة والصناعة في كل بلد.
- 4. تقول كارمن م. رينهارت : (Carmen Reinhart )”قد لا تعيدُنا البنيةُ الماليةُ لما بعد كورونا جميعًا إلى عهد برايتون وودز قبل العولمة”. يعني هذا تغيراتٍ شديدةً في التحويلات المالية وكلفها وقواعدها الناظمة، كذلك قواعد جديدة في مفهوم ومعايير الثروة.
- 5. يقول آدم بوسين : (Adam S. Posen) “ستؤدي القوميةُ الاقتصاديةُ وبشكل متزايد الحكوماتِ إلى إغلاق اقتصاداتِها عن بقية العالم “. مما يعني إعادةَ النظرِ في البنية الصناعيةِ وتشريعاتِها على حساب التجارةِ وتشريعاتِها. كذلك وضع أسوارٍ عاليةٍ لكل تكتلٍ يمنعُ تبادلَ المنفعةِ مع التكتل الآخر، في عودة لتكريس مفاهيمَ من أمثال الحمايةِ وإفقار جاري، التي قادت إلى الحروب العالمية (Protectionism , beggar-thy-neighbor) .
- 6. يقول اسور براساد: (Eswar Prasad) “صعدتِ البنوكُ المركزيةُ لمواجهة التحدي من خلال تمزيقِ دفاتر قواعدِها الخاصة. حتى عندما يكون القادةُ السياسيون غيرُ مستعدين لتنسيق السياسات عبر الحدود، يمكن لمحافظي البنوكِ المركزيةِ التصرفُ بشكل متضافر “. يعني أن كلفَ التمويل للمعاملات التجارية وحوافز المشاريع الصناعية لن تكونَ متقاربةً، وتختلفَ بشدة من بلد لآخرَ وبشكل أسوأ مما قبل كورونا.
- 7. يقول ول آدم توزه : (Adam Tooze) “التداعياتُ الاقتصاديةُ تتحدى الحساب. تواجهُ العديدُ من البلدان صدمةً اقتصاديةً أكثر عمقًا ووحشيةً مما كانت عليه في السابق. قد يكون الإغلاقُ المؤقتُ نهائيًّا في كثير من القطاعات”. يعني إعادةَ تعريفٍ جديدةً لكثير من القطاعات والأعمال وآلياتها وديناميتها وجاذبيتها للاستثمار.
- 8. تقول لورا داندريا تايسون: (Laura D Andrea Tyson) “سوف يُسرِّع الانكماشُ الاقتصاديُ من نمو العمالةِ غيرِ القياسية وغيرِ المستقرة – العمال بدوام جزئي والعاملين المؤقتين والعاملين مع أصحاب عمل متعددين “. هذا يعني اضطراباتٍ اجتماعيةً مرافقةً لزيادة معدلات البطالة، وإعادة تعريف لعقود العمل ومشاكل قانونية لإعادة هيكلة العلاقة بين العمال والموظفين وأرباب العمل وخصوصًاً في المرحلة الانتقالية، التي قد تكون على بعد أسابيع وليس أشهر.
- 9. يقول كيشور محبوباني : ( kishore mahbubani) “سوف تسرِّعُ جائحة COVID-19 من التغيير الذي بدأ بالفعل: الانتقال من العولمة التي تركز على الولايات المتحدة إلى العولمة التي تتمحور حول الصين “. يعني قواعدَ فكِ اشتباكٍ اقتصاديةً جديدةً يصعُبُ التكهنُ بها ولها انعكاسات هائلة.
بناءً على ما سبق أتوقع أن يكون العالمُ على الشكل التالي في المائةِ سنةٍ القادمة: سيحاول صنَّاع القرارِ وضعَ حدودٍ وحواجزَ حول الحالةِ السائلة في دولهم لإعادة الحالةِ السائلة الى حالة أكثرَ لزوجةً، ولكون سلاسلِ التوريدِ عبر الحدود ستنخفض للحد الأدنى كما توقع جوزيف إي. ستيجليتز سيتحتم على هذه الدولِ التجمع في تكتلات تؤمنُ لها الاكتفاءَ الذاتيَ من غذاء واقتصاد، وتبني نمط اجتماعي-ثقافي كحالة وسطية بين العولمة والهوية الذاتية. وهذا يعني حتمًا التصادمَ بين تلك التكتلات. لذلك سيسعى المتحكمون في السياسات العالمية والذين يملكون مفاتيحَ التغييرِ العسكريةِ والاقتصادية والتكنولوجية وأيضًا الثقافيةِ الفصلَ بين تلك التكتلاتِ بدول ذاتِ حالةٍ سائلةٍ مستمرةٍ تعملُ كوسطٍ مُفرِّغٍ لشحنات التصادمِ ومُزوِّدٍ طبيعيٍّ للموارد الطبيعية والبشرية. يمكن وصفُ تلك الدولِ بدولِ المرتزقةِ، ومواصفاتُها عديدةٌ وعلى رأسها ألا تمتلكَ مقوماتِ دولٍ، فهي ذاتُ حكوماتٍ مركزيةٍ ضعيفةٍ تابعةٍ تجري على أراضيها الصراعاتُ وتفريغُ الشحناتِ بين تلك التكتلات. التنبؤُ بحجم وشكل تلك التكتلاتِ واضحٌ في مناطقَ، وفي مرحلة التشكلِ في مناطقَ أخرى , حيث تبدو بريطانيا ومن ينضوي تحت رايةِ الكومنولث البريطاني وعلى رأسهم كندا وأستراليا مضافًا إليها الولاياتُ المتحدة الأمريكية كتلةً واضحةَ المعالمِ, فيما تشكلُ أوروبا بأعراقها الأساسيةِ السلافية والجرمانية والرومانية تجمعًا مؤهلًا لتكوين كتلةٍ واحدةٍ أو ثلاثِ كتلٍ تفصلُ بينها في حال تعددها مساحاتٌ سائلةٌ من دول المرتزقة (من إجمالي عدد سكانِ أوروبا حوالي 740 مليونًا (اعتبارًا من عام 2010) ، يقع ما يقرب من 90 ٪ “أو حوالي 650 مليونًا” ضمن ثلاثة فروعٍ كبيرةٍ: وهي الشعوب السلافية والجرمانية والرومانية ). في آسيا الصينُ مرشحةٌ لعمل كتلةٍ صغيرة نسبيًّا مقارنة بالكتلتين أو الأربع السابق ذكرهم. فيما يبدو الأمرُ ليس محسومًا بعد في أمريكا اللاتينية والوسطى أو شبه القارة الهندية. لكن ما نحن متأكدون منه أن الدولَ العربية والإسلامية وأفريقيا وبعضَ دولِ شرقِ أوروبا مرشحةٌ لتكونَ دولَ مرتزقةٍ، تزداد حالتُها سيولةً تحت ضغوطاتِ ضياعِ الهويةِ والجهل والاستبداد. هنالك كذلك دولٌ وظيفيةٌ تعمل كشرطيٍّ معتمدٍ من تلك الكتلِ؛ لضبط درجةِ السيولة في دول المرتزقة، والمرشحُ للعب هذه الأدوارِ دولٌ مثلَ إيرانَ، إسرائيل، تركيا، تشيلي، كوريا الشمالية والجنوبية، وحتى اليابان …! وهي دولٌ ستشكلُ حالةً وسطيةً تابعةً تحاول أن تصلَ لشبه استقلالٍ، لكن لا يساعدها تصميمُها لتجاوز تلك الحدود.
حالةُ الكتلِ المتصادمةِ سيشكل بطبيعته حالةً استقطابيةً شديدةَ الانغلاقِ؛ ما يعني أن الحواجزَ المائيةَ والطبيعية ستشكل مناطقَ مزروعةً بالألغام لحماية تلك الكياناتِ من التجاوزات غير المرغوب بها من دول الفوضى؛ وعليه سوف نرى في المستقبل القريب بدلًا من إنقاذ سفنِ المهاجرين واستقبالهم كلاجئين ستكون هناك دورياتٌ لطائرات مسيرةٍ تعمل بالذكاء الاصطناعي لقصف هذه الزوارقِ وإغراقِها , أما دولُنا فريثما تستعيد هويتَها ستبقى دولَ مرتزقٍة سائلةً، تشكل صندوقَ بريدٍ بين الكتل المتصارعةِ ومناطقَ امتصاصٍ للأزمات، وموردًا جيدًا للعناصر الخامِ فقط، ويدير شؤونَها شرطيُّ المنطقةِ المكلفُ باتفاقٍ بين تلك الكتلِ وفق قواعد اشتباك وفك اشتباك واضحة!
قد تبدو الصورةُ قاتمةً، ولكن كما ذكرنا هو سيناريو تخيلي مستند للقراءات المتناثرة لما يسقط -عمدًا أو سهوًا- من مراكز الأنثروبولوجيا ذاتِ الميزانياتِ الضخمة، التي تحاول أن تُعيدَ تشكيلَ العالمِ بالاتفاق على حساب الاخرين وإلا سيكون التدميرُ الكليُّ هو المصيرَ الوحيد للبشرية.
أما بالنسبة لنهوض دولِ المرتزقةِ فهذا منوطٌ بعزيمة شعوبِها واتفاقِهم، وهذا ليس متوفر -مع الأسف- في مؤشراتُ الوقت الراهن، وفي النهاية فإن الفوضى الموازنة قد تقلبُ كلَّ تلك التوقعاتِ، كما سبق وشرحنا في مقالات سابقة، لكن قرارَ أن نكونَ في الجانب المنتصر من تلك الفوضى الموازنة مبنيٌّ على شيءٍ واحدٍ فقط وهو الصدقُ مع اللهِ، وقرارٌ جريءٌ نفتقدُه جميعًا هذه الأيام!
المراجع:
- 1. people, Power, and Profits: Progressive Capitalism for an Age of Discontents Joseph E. Stiglitz
- 2. Narrative Economics: How Stories Go Viral and Drive Major Economic Events/ ROBERT J. SHILLER
- 3. What the Economy Needs Now/ Gita Gopinath
- 4. This Time Is Different: Eight Centuries of Financial Folly/ Carmen M. Reinhart
- 5. US-China Cooperation in a Changing Global Economy/ Adam S. Posen
- 6. Gaining Currency: The Rise of the Renminbi/ Eswar Prasad
- 7. Crashed: How a Decade of Financial Crises Changed the World/ Adam Tooze
- 8. Who’s Bashing Whom? Trade Conflict in High Technology Industries / Laura D Andrea Tyson
- 9. Has China Won? The Chinese Challenge to American Primacy, Public Affairs, 2020/ kishore mahbubani