من المؤسف حقا ان تطرق سمعي بين الحين والأخر، أحاديث تنطوي على لغة إيجابية، من قبل بعض الوطنيين، بحق الانتخابات المرتقبة وتعداد فوائدها، وتشجيع الناس على الاشتراك فيها. وكان أكثر ما دفعني لطرق هذا الباب مجددا، هو مطالبة هذا البعض الوطني ثوار تشرين الاشتراك في الانتخابات، تحت ذريعة استثمار تضحياتهم لتغيير العملية السياسية من داخلها. في حين أصبح الحديث عن هذه الانتخابات المرتقبة بالنسبة لعموم العراقيين، موضع سخرية واستهجان كلما ورد ذكرها. بل ان اشرار العملية السياسية أنفسهم، والمرتزقة الذين يطوفون حولهم، قد تخلوا عن توجيه مثل هذه النصائح بالصراحة نفسها، كما كانوا يفعلون في السابق. جراء ما ارتكبوا اشرار عملية المحتل السياسية، من جرائم وسرقات وموبقات، في الصدارة منها الخيانة الوطنية العظمى، ولجاوا بدلا عنها الى لغة ملتوية تتحدث عن سياسة الامر الواقع وسياسة فن الممكن وغياب البديل، والى ترويج اكاذيب وقحة عن مشاركة قيادات في ثورة تشرين في الانتخابات، ليتمكنوا من مواصلة مهمتهم بدعوة الناس للاشتراك في الانتخابات، لإضفاء قليل من الشرعية على فوز الوجوه الكالحة ذاتها.
اما ثوار تشرين، فقد ذهبوا ابعد من ذلك، وأعلنوا موقفهم القاطع، ليس ضد هذه الانتخابات فحسب، وانما اعتبروا المشاركة فيها جريمة شنعاء، لأنها ببساطة شديدة جدا، تشرعن لقتلة أبناء ثورتهم، الذين سيفوزون حتما بالانتخابات، لما يمتلكون من قوة المال والسلاح والسلطة، المقرونة بدعم المحتل الأمريكي ووصيفه الإيراني. خاصة وان ثوار تشرين يعلمون علم اليقين بان قبول هؤلاء الاشرار بالانتخابات المبكرة والتعديلات التي قاموا بها، ليس الهدف منه تلبية مطالب الثوار، وانما الالتفاف على هذه المطالب وافراغها من محتواها الثوري، والمحدد بأسقاط العملية السياسية برمتها. وهذا ما يفسر بوضوح رفض ثوار تشرين حكومة عادل عبد المهدي، مثلما رفضوا حكومة مصطفى الكاظمي، فكلاهما تلاميذ نجباء، في مدرسة العمالة والخيانة، وأيضا رفض المشاركة في الانتخابات قبل كتابة جديدة لقانونها وتشكيل مفوضية مستقلة نزيهة للأشراف عليها ومراقبة دولية محايدة، واهم من ذلك كله، كتابة قانون جديد للأحزاب يحرم مشاركة هؤلاء الأشرار بأية انتخابات تجري سواء هذه الانتخابات، او التي تجري في المستقبل.
بالمقابل فان العراقيين عموما، وليس ثوار تشرين وحدهم، قد تولدت لديهم قناعة راسخة، بان هؤلاء الأشرار، لن يتحركوا قيد انملة الا بأمر من اسيادهم، وما هذه الانتخابات الا محاولة بمستوى الفضيحة للالتفاف على عدالة الثورة وتأكيد مشروعيتها وحتمية توسع قاعدتها الشعبية. فالأسياد يدركون أكثر من عملائهم خطورة الثورات الشعبية على مستقبل تواجدهم في العراق. وهذا ما يفسر سباق هؤلاء الاشرار مع الزمن، من اجل تجميل وجوههم الكالحة، وترويج اكاذيب وقحة عن مشاركة قيادات في ثورة تشرين في الانتخابات، لإعادة انتاج أنفسهم مرة أخرى بفوز فاسد ولإضفاء صفة الشرعية على جودهم في السلطة.
وفق هذا السياق، لا نجازف إذا قلنا، بان الذين سيفوزون بهذه الانتخابات هم ذات الوجوه الكالحة، وان نتائجها ستكون نسخة طبق الأصل من الانتخابات التي سبقتها، ان لم تكن اسوأ بكثير. حيث بدا الصراع على تشكيل الحكومة وتقسيم المغانم قبل الشروع بأجراء الانتخابات، وليس كما كانوا يفعلون في السابق. حيث يبدا الصراع على تشكيل الكتلة الأكبر للفوز برئاسة الحكومة بعد اعلان نتائج الانتخابات. وأوضح ما يدل على ذلك، تصريحات مقتدى الصدر حين أكد على “إذا لم يحصل التيار الصدري على استحقاقه السياسي من الانتخابات، ولم يحصل على مقاعده الحقيقية في البرلمان، فان الصدر سيلجأ الى الانسحاب من العملية السياسية وسيترك الفرقاء السياسيين، وبهذا الاجراء لن يحصلوا على دولة منتظمة تدعو لروح المواطنة”، مضيفا ان “اي ابتعاد لأي مكون عن العملية السياسية سيسبب خللا في عمل منظومة الحكومة”. ولما لم يجد اذانا صاغية من قبل الاخرين، أصدر قرارا بالانسحاب من الانتخابات، على امل اخضاع الاخرين للأمر الواقع واجبارهم على القبول بشروطه إذا تراجع عن قرار الانسحاب. وهذا ما حدث فعلا.
لم يقتصر الامر عند هذا الحد، بل بدا هؤلاء الأشرار مسبقا بتوزيع المناصب السيادية، حيث سيكون منصب رئيس الجمهورية من نصيب حزب مسعود البرزاني، بعد ان كان هذا المنصب حكرا على حزب جلال الطالباني، ويحتفظ الحلبوسي بمنصب رئيس مجلس النواب، في حين يمنح مصطفى الكاظمي القريب من التيار الصدري، ولاية ثانية. وحتى إذا جرى تدوير ما في المناصب، فهذا لا يعني تغيرا في سلوكهم المشين مادام الأساس الطائفي للعملية السياسية سيبقى كما هو.
اما ما يجري من حديث عن القادمين الجدد، وما يتصفون به من وطنية ونزاهة وشرف، وعن إمكانية هؤلاء من تشكيل كتلة قوية داخل البرلمان، تستطيع اصلاح العملية السياسية من داخلها، فهذا ما يثير السخرية. فلقد اكدت الوقائع بان من يرضى ترشيح نفسه للانتخابات، وينفق عشرات الملايين من الدولارات من اجل تحقيق الفوز، لا يهدف الى خدمة ناخبيه، وتحقيق مطالبهم، وانما يسعى من خلال مقعده في البرلمان، او لاحقا في الحكومة، لان يصبح مليونيرا او مليارديرا بغمضة عين، خاصة وان هذا المقعد يضمن له عدم محاسبته او مساءلته حتى وفق قانون “من اين لك هذا”. كون هذا المقعد محميا بتعويذة نظام المحاصصة الطائفية والعرقية. على عكس ما يجري تماما في ابسط الدول الديمقراطية. حيث يجري التنافس بين الاحزاب والشخصيات السياسية بأساليب ديمقراطية وحضارية لكسب الاصوات، من خلال عرض برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تصب جميعها في مشاريع، هدفها في الاساس خدمة الناس وتحقيق مزيد من التقدم والرقي لبلدانها.
اما محاولة حشر العراقيين في سؤال ما البديل، فهذه محاولة بائسة وسخيفة لتقزيم الذات العراقية. فثورة تشرين العظيمة، اجابت عن هذا السؤال إجابة بليغة وموجعة أربكت الأشرار. فلا أحد يستطيع القفز على حقيقة ان الشعوب وقواها الوطنية وثوراتها هي البديل، طال الزمن ام قصر. وشعب العراق له تاريخ مجيد في الثورات ضد المحتل وعملائه، وضد الحكومات الديكتاتورية والعميلة. ومن يعتقد ان هذه الثورة قد انتهت جراء تراجعها لأسباب عديدة، فانه لفي ضلال مبين. فالثورات لا يعيبها مثل هذا التراجع، فهي ليست جيشا نظاميا إذا كسر هزم. الثورة قوة شعبية تخوض حربا طويلة الأمد، قد تستمر سنين عديدة لتحقيق أهدافها الوطنية المشروعة. وقد مرت كل الثورات الشعبية في العالم بحالة مشابهة، وحققت في نهاية المطاف الانتصار، وحررت شعوبها من عار الاحتلال، وعملائه من شخصيات وتجمعات وحكومات.
بمعنى أوضح، فالتعثر والتراجع الذي تتصف به ثورات التحرير الشعبية الطويلة الامد، لا يقلل من شانها على الاطلاق. ففي نهاية المطاف تنتهي هذه الثورات الى تحقيق النصر المبين، في حين يكون نصيب المحتلين الهزيمة مهما بلغوا من قوة وجبروت. خصوصا وان ثوار تشرين يتسلحون بإرادة لم يشهد العالم مثيلا لها. والارادة كما يعترف ريتشارد نيكسون، رئيس أكبر قوة امبريالية في العالم، هي السبب في انتصار الفيتناميين على أمريكا. او كما قال بالحرف الواحد” ان الجيوش، مهما امتلكت من مقومات القوة الفتاكة، تخسر معاركها إذا فقدت ارادة القتال”. وها هي افغانستان تطرد المحتل الأمريكي بإرادة مقاتليها وبأسلحة بسيطة ومتخلفة. ولا يغير من هذه الحقيقة رفضنا لهذه الحركة، كونها حركة متخلفة وتكفيرية وظلامية ومعادية للحضارة والتقدم. كما لا يغير من إمكانية حصول أمريكا رغم هذه الهزيمة على مكاسب ذات أهمية.
ليس من العدل والانصاف، بل من المعيب جدا، التخلي عن الثورة، تحت ذريعة تراجعها، او مرورها في ظروف صعبة، وانما يتطلب العدل والانصاف الوقوف الى جانبها والبحث عن اسباب تراجعها، وتقديم مزيد من الدعم والاسناد لها. لقد اثبتت الوقائع، ان اصلاح العملية السياسية من داخلها ضرب من الخيال، سواء عن طريق مقتدى الصدر، او غيره من قوى وأحزاب وشخصيات. مثلما لا يمكن المراهنة على أمريكا او غيرها من الدول الأجنبية. فأمريكا على وجه الخصوص، لم تأت الى العراق لتخليصه من الدكتاتورية، كما ادعت، وانما جاءت من اجل تدميره دولة ومجتمعا، من خلال مخطط اعدت له الولايات المتحدة منذ صعود بوش الابن للسلطة. وكان عنوانه الرئيسي احتلال العراق والتعامل معه كمستعمرة امريكية بامتياز، ليشكل لاحقا الحلقة المركزية في مشروع بناء الامبراطورية الكونية التي ينتهي التاريخ عند ابوابها. ولا يغير من هذه الحقيقة انسحاب القوات الامريكية من العراق، فهي لم تزل تمتلك قواعد وقوات عسكرية وأكبر سفارة في العالم. ومن ينكر ان العراق لم يزل تحت الاحتلال الامريكي وتابعه الفارسي فهو يجانب الحقيقة في وضح النهار.
نعم ادعو لمقاطعة الانتخابات. حيث المشاركة فيها يشرعن مرة أخرى وجود هؤلاء الأشرار، الذين وقفوا الى جانب المحتل في تنفيذ مخطط تدمير العراق الذي لم ينته بعد.
المصدر: شبكة أخبار العراق