يستمر التنافس الروسي – الإيراني في جنوب سوريا تحت سقف التعايش وتحالف المصالح بين البلدين، في رسم كثير من الأحداث والوقائع الجديدة المتصلة بتعقيدات الوضع الإقليمي، حيث تتشابك أدوار كل من “الأردن، وإسرائيل، وإيران، وتركيا، وروسيا، والولايات المتحدة الأميركية”، وحتى بعض الدول العربية التي تعمل على أن يكون لها موطئ قدم في بلاد الشام سواء عبر الصلة ببعض فصائل المعارضة أو في العلاقة مع نظام الرئيس بشار الأسد.
وفي وقت بدأ تنفيذ اتفاق رعته موسكو في محافظة درعا لإعادة تثبيت اتفاق وقف التصعيد في درعا البلد منذ الأول من سبتمبر (أيلول) الحالي، أظهر هذا الاتفاق كم أن لروسيا يداً عليا في حسم بعض التوجهات، سواء بهدف التهدئة أو التصعيد على الأرض السورية، على الرغم من أن ما كان يجري على الأرض في تلك المنطقة عكس تعارض المصالح بين الحليفين الروسي والإيراني، ولو بحدود مضبوطة.
الرعاية الروسية لفك الحصار عن درعا
فالاتفاق قضى بفك الحصار الذي فرضته قوات الفرقة الرابعة التابعة للنظام عن درعا البلد منذ أكثر من 3 أشهر بدعم من الميليشيات الإيرانية والحرس الثوري الإيراني، وبإخراج المسلحين المعارضين للنظام الذين تحصنوا في المدينة، ووقف إطلاق النار الذي تخلله في الأسابيع والأشهر الماضية تبادل كثيف لإطلاق النار وقصف عنيف من قبل قوات النظام، أوقع قتلى ودماراً، وتسليم الأسلحة الثقيلة التي كانت بحوزتهم، ترحيل من يُعتبرون من “الإرهابيين والمتطرفين” إلى منطقة إدلب وبلغ عددهم زهاء 60 مقاتلاً، دخول قوات النظام وتحديداً وحدات من اللواء الثامن في الفيلق الخامس الذي للجانب الروسي تأثير عليه، ومواكبة الشرطة العسكرية الروسية لهذه الوحدات مع رفع العلم الروسي إلى جانب العلم السوري، في المواقع التي دخلت إليها القوات النظامية.
وكاد تنفيذ الاتفاق يتعثر لكن ضغوط موسكو لإنجاحه حالت حتى إشعار آخر دون ذلك. كما أن إشراف القيادة العسكرية الروسية الموجودة على الأرض في الجنوب السوري على تنفيذه فرض تغيير تموضع الفرقة الرابعة في محيط درعا، وهو ما أدى إلى انكفاء الميليشيات الموالية لإيران نظراً إلى أنها تستظل تلك الفرقة في الجيش السوري.
مصالح والتزامات موسكو في الجنوب السوري
المخاوف من تقويض الاتفاق لدى موسكو ما زالت قائمة على صعيدين وفق الأوساط المواكبة للتحرك الروسي في درعا. الأول، إذا تمكن المتطرفون في المعارضة من العودة إلى بعض المناطق فيها، والثاني إذا وجدت طهران أن من مصلحتها إشعال القتال مجدداً مع بعض الفصائل المعارضة، نظراً إلى الخشية من إصرار “الحرس الثوري” على توسيع نفوذه في جنوب سوريا، سواء على الحدود مع الأردن من جهة درعا، أو على الحدود مع الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان من جهة محافظة القنيطرة، عبر الدعم العسكري لسيطرة النظام على المناطق التي خرجت عن الولاء له منذ حصول المصالحات مع المعارضة برعاية روسية في عام 2018، الأمر الذي تسعى روسيا إلى تجنبه نظراً إلى انعكاساته الإقليمية وليس فقط السورية الداخلية.
فلموسكو التزامات ومصالح في هذه المنطقة نظراً إلى طبيعتها الحدودية، تتعارض مع الطموحات الإيرانية، وتدفعها إلى ضبط حركة الميليشيات التابعة لإيران.
العودة إلى خط الانسحاب الإيراني في الجنوب؟
وتفيد المعلومات أن الملك الأردني عبد الله الثاني أثار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارته موسكو في 23 أغسطس (آب) الماضي، الوضع المتوتر في محافظة درعا مبدياً تخوفه من التوسع الإيراني فيها، ومن استغلال الميليشيات الموالية لطهران هذا التوسع من أجل اختراق الحدود. وتردد أن العاهل الأردني أبلغ بوتين بأن العناصر الإيرانية ومقاتلي الميليشيات الموالية توجد في درعا بلباس الجيش السوري. كما أن الجانب الأردني كرر ما سبق أن أعلنه عن تعرض المناطق الحدودية لقصف عبر الطائرات المسيرة التي بحوزة الميليشيات الموالية لطهران. وعلمت “اندبندنت عربية” أن الرئيس بوتين استبعد أن يكون عناصر الميليشيات الإيرانية يموهون وجودهم بلباس الجيش السوري، لكنه أكد أنه سيتحقق من الأمر ولن يقبل بذلك وسيفعل ما بوسعه من أجل منع حصول مثل هذا الأمر، خصوصاً أن الملك عبد الله أكد أن عمّان تنصح بتولي القوات النظامية السورية الحدود مع الأردن لضبطها والحيلولة دون تسلل “حزب الله” وبعض عناصر الميليشيات الإيرانية ومن أجل ضبط التهريب الذي تمارسه مجموعات استفادت من الفوضى في درعا طوال السنتين الماضيتين. وعلى هذا الأساس تشكلت لجنة تنسيق مشتركة أردنية – روسية، لمتابعة التطورات في الجنوب السوري.
العارفون بالموقف الروسي نقلوا عن موسكو أنها ستعمل في المرحلة المقبلة على إعادة العمل بالاتفاق الأميركي – الروسي – الإسرائيلي – الأردني الذي حصل عام 2018، على إبعاد الميليشيات الإيرانية عن الحدود مع الجولان والأردن لمسافة تتراوح بين 40 و80 كيلومتراً، بحيث تمسك قوات الجيش السوري وحدها هذه المساحة سواء في محافظة درعا أو في محافظة القنيطرة، والذي فشل تطبيقه بسبب عوامل عدة.
الإعفاء الأميركي من عقوبات قيصر شمل شركات روسية
ولضمان الأمن في درعا خلفيات أخرى اقتصادية، لا سيما بعد حصول تقدم في خطوات استجرار الكهرباء من الأردن عبر درعا وصولاً إلى لبنان حيث المطلوب منع تخريب شبكة نقل التيار الكهربائي، إضافة إلى ضمان عدم تخريب أنبوب الغاز العربي لنقل الغاز المصري عبر الأردن ثم سوريا وصولاً إلى لبنان، والذي اجتمع من أجل دراسة ترتيباته التقنية وزراء الطاقة في كل من “الأردن، ومصر، وسوريا، ولبنان” في 8 سبتمبر.
ومع أن موسكو لم تكن معنية بالاتفاق الرباعي هذا، يشير المتابعون إلى أهمية الخلفيات الاقتصادية بالنسبة إلى روسيا التي تسعى إلى تحسين الوضع الاقتصادي المزري في سوريا تفادياً لاهتزاز الاستقرار فيها بعد نجاح موسكو في مساعدة النظام على السيطرة على مناطق واسعة، فضلاً عن دعمها لاستجرار الكهرباء والغاز إلى لبنان.
فالجانب الروسي، يشجع كل ما يؤدي إلى إعفاء الولايات المتحدة سوريا (ولبنان في حالة الاتفاق الأخير) من العقوبات التي يفرضها قانون قيصر على التعامل مع النظام في دمشق لأنه يساهم في فك الحصار الاقتصادي عن الأخير. وسبق لاتفاق موسكو وواشنطن بشأن تمرير المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى مع تركيا بدل تمريرها عن طريق معابر النظام، أن شمل إعفاء الشركات الروسية التي عملت على إعادة تأهيل شبكة الكهرباء السورية على سد الفرات وصولاً إلى حمص، إضافة إلى إعفاء هذه الشركات من العقوبات على الاستثمار الذي أنفقته في إصلاح شبكة الكهرباء في محافظة درعا أيضاً.
ويبدو أن مفاعيل الاجتماعات على مستوى الخبراء وفي لجان عدة للحوار بين موسكو وواشنطن، والتي كانت من ثمار قمة جنيف بين بوتين ونظيره الأميركي جو بايدن في 16 يونيو (حزيران) الماضي، تؤدي إلى تقارب بين الدولتين العظميين، حيث يتدرج التفاهم خصوصاً على الوضع في سوريا ولو ببطء، ويراهن الجانب الروسي على تطويره.
الاتفاق الذي رعته موسكو في درعا ليس معزولاً عن هذه المراهنة. وفي وقت يرى مراقبون أنه كلما تقدم التفاهم الأميركي – الروسي ازداد التباعد الروسي – الإيراني في سوريا، إذ شهدت موسكو اجتماعات مع مسؤولين أميركيين لبحث الملفات الإقليمية الشائكة، حيث زارها المبعوث الأميركي الخاص إلى إيران روب مالي مع وفد من وزارة الخارجية في 8 سبتمبر الحالي، لتنسيق الموقف في ما يخص استئناف مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني. وأفادت تقارير إعلامية بأن الجانب الروسي يلعب دور الوسيط بين طهران وواشنطن من أجل إنهاء الجمود في فيينا. والمعروف أن الجانب الروسي نصح طهران قبل أكثر من شهرين بعدم تصعيد شروطها في مفاوضات فيينا إذا كانت حريصة على رفع العقوبات الأميركية عنها. وفي رأي باحثين روس أن تأخير الجانب الإيراني مفاوضات فيينا لن يكون في صالحها لأنه سيدفع بواشنطن إلى عدم الاكتراث من جهتها للتوصل إلى اتفاق قريباً، ما يؤخر رفع العقوبات.
كما أن المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا بريت ماكفورك يزور العاصمة الروسية في 14 سبتمبر على رأس وفد لمناقشة التطورات فيها، بينما تسعى موسكو إلى تهيئة الظروف لتجديد اجتماعات اللجنة الدستورية السورية لوضع الدستور الجديد.
المصدر: اندبندنت عربية