نشرت وسائل التواصل الاجتماعي بياناً منسوباً إلى «عشائر حوران» دعا إلى «لامركزية إدارية في محافظة درعا». وانطلق البيان من «النتائج الإيجابية» لتجربة السنوات السابقة حين تمتع السكان بإدارة شؤونهم المحلية بأنفسهم، بعيداً عن سلطة النظام المركزية في دمشق، قبل تسوية 2018 التي عاد النظام بموجبها إلى المحافظة.
لم يكن مفاجئاً أن تعلق بعض وسائل إعلام النظام على هذا البيان بالقول إنه ينطوي على نوايا «انفصالية». فمركزية السلطة، في عرف النظام والرأي العام الموالي له، أمر بديهي لا يحتمل الاجتهادات. وهذه المركزية، بمعناها الجغرافي – الإداري، وجه من وجوه مركزيته البنيوية وصفته الشمولية التي لا تترك هوامش مستقلة في حياة المجتمع مهما كانت بعيدة عن الصفة السياسية.
والحال أن تصور الدولة بوصفها سلسلة من المراتب تنطلق من المركز إلى الأطراف، فيما يشبه التنظيم العسكري للجيش، لا يقتصر على النظام الأسدي فقط، ولا على أنصاره فقط، بل يشمل القسم الأكبر من السوريين بمختلف مواقعهم. ولم يتم الخروج على هذا النص في سوريا، إلا في السنوات العشر الأخيرة، وتعرض هؤلاء «الخوارج» إلى اتهامات قاسية بأنهم انفصاليون، فضلاً عن أنهم «لن يحققوا أهدافهم الانفصالية» و»لن نسمح لهم بذلك»!
مفهوم أن أولى دعوات «اللامركزية السياسية» جاءت من الكرد، وبالتحديد من «المجلس الوطني الكردي» في خريف العام 2011. فثمة وعي قومي كردي منذ الخمسينيات، اتخذ منحىً استقلالياً باطراد بالتفاعل مع الجوار الكردي في تركيا والعراق، ومع اندلاع الثورة السورية في 2011، ليتحول إلى واقع عملي مع دخول القوات الأمريكية إلى منطقة الجزيرة السورية في العام 2015، حيث أقام حزب الاتحاد الديمقراطي «الإدارة الذاتية» لشمال سوريا وشمالها الشرقي، تحت مظلة «مجلس سوريا الديموقراطية»- الغطاء السياسي لقوات سوريا الديموقراطية (قسد).
أما «حركة استقلال الجزيرة السورية» التي أصدرت بيان تأسيسها قبل عامين ثم طواها النسيان، فمن المحتمل أنها جاءت كردة فعل على «الإدارة الذاتية» المذكورة، وفي مسعى لإفشالها، كما للاستفادة من الغطاء العسكري الأمريكي، انطلاقاً من اليأس من سقوط النظام ومن امكان استعادة سوريا لوحدتها.
والآن جاء «بيان عشائر حوران» مطالباً باللامركزية الإدارية، وسط غبار معركة درعا البلد التي يريد النظام عن طريقها إخضاع آخر معاقل المعارضة في الجنوب السوري. ليس معروفاً بعد مدى شعبية هذا المطلب أو حيثيته الاجتماعية في المحافظة، لكن اعتدال مضمون البيان في نزعته المحلية، وتركيزه على وحدة سوريا، هما مما يشجع على الثقة بمصداقية البيان وتعبيره عن الشروط القاسية الخاصة في محافظة درعا.
فبعدما انتهك النظام اتفاق التسوية الموقع في 2018، في محاولة منه لضم المحافظة الموصوفة بمهد الثورة إلى المناطق التي يسيطر عليها، اتجه السكان إلى مقاومة هجوم الفرقة الرابعة التي تحاول اقتحام درعا البلد، على رغم الحصار الخانق الذي فرضه النظام عليها منذ شهرين، ووصل الوضع إلى نقطة نفاد مادة الطحين فتوقفت المخابز عن العمل. في إطار قرار المقاومة هذا شن ثوار المحافظة هجمات مضادة في مختلف مناطق ريف درعا، فأسقطوا عدداً من الحواجز العسكرية وأسروا جنوداً وضباطاً من قوات النظام، في محاولة للتخفيف من حصار درعا البلد.
وكان لافتاً عدم مشاركة سلاح الطيران التابع للنظام أو حليفه الروسي في الهجوم على درعا البلد المحاصرة، الأمر الذي فسر على أنه عدم رضى روسي من الحصار والهجوم. وعزز هذا التفسير قيام ضباط روس بدور الوسيط بين «اللجنة المركزية» الممثلة لسكان درعا البلد وقوات النظام، بهدف الوصول إلى تسوية سياسية تنهي الأزمة. تعنت النظام في مطالبه أفشل المفاوضات إلى الآن، وسنرى في الأيام القادمة كيف ستنتهي الأمور هناك.
غير أن توقيت هجوم النظام على درعا ومطالبته بتسليم السلاح الفردي الخفيف الذي بقي بيد السكان بموجب تسوية 2018، هو ما يجب التوقف عند دلالاته السياسية. فقد كان موقف أهالي المحافظة من انتخابات الرئاسة التي تمت في 26 أيار الماضي، وهو الرفض العلني للتجديد لبشار الأسد، هو المحفز الأساس لقرار النظام بالتخلص من «عقدة درعا». تلك الانتخابات التي أرادها لها النظام أن تشكل تعبيراً عن انتصاره النهائي على السوريين، وعن رفضه التام لكل القرارات الدولية المتعلقة بسوريا ومصيرها، بما في ذلك «اللجنة الدستورية» التي لم يشارك فيها أصلاً، بل شارك فيها وفد غير رسمي وصف بأنه يمثل وجهة نظر الحكومة، لكنه لا يمثلها.
نحن إذن أمام نظام يرفض تقديم أي تنازل لحل المشكلة التي تواجهها سوريا منذ عشر سنوات من جهة أولى، وأهالي محافظة درعا الذين يرفضون العودة إلى حظيرة الخضوع له من جهة ثانية. في هذه الشروط لا يمكن للنظام أن يخضع المحافظة إلا بالقوة العارية، إذا أتيحت له الشروط المناسبة. ولا يمكن للأهالي أن يخضعوا إلا بالقسر والعنف. وعلى فرض أن معظم سكان المناطق الأخرى الواقعة تحت سيطرة النظام راضون بالنظام أو مؤيدون له، وهذا مشكوك فيه، تكون مطالبة عشائر حوران باللامركزية الإدارية أمراً مفهوماً، بل إنها الحد الأدنى الذي يمكن قبوله من قبلهم للعيش في «سوريا الأسد». ذلك أنه لا يمكن أن نتخيل تعايشاً عادياً بين أهالي حوران والنظام، بل العلاقة صراعية بداهةً. فلا أجهزة النظام ستتوقف عن اعتقال الناس بسبب تعبيرهم عن معارضتهم، ولا هؤلاء سيتحولون يوماً إلى مؤيدين له. بل المرجح هو استمرار شكل من أشكال المقاومة السرية المسلحة، كما هي الحال منذ ثلاث سنوات، ومواجهة النظام لهذه المقاومة بالعنف وحده.
حال درعا هي كذلك حال المناطق الأخرى الخارجة عن سيطرة النظام، فسكان هذه المناطق، على اختلاف شروطها، لن يقبلوا بالعودة إلى الخضوع لنظام الأسد، بصرف النظر عن معاناتهم من سلطات الأمر الواقع التي تحكمهم. ومن نافل القول أن سوريي الشتات (نحو 6 ملايين) قد قطعوا علاقتهم بسوريا الأسد بصورة نهائية منذ سنوات.
أما سكان المناطق الخاضعة لسيطرة النظام فهم ليسوا كتلة متجانسة من المؤيدين، لكن غير المؤيدين لا يستطيعون التعبير عن آرائهم، في حين نلاحظ تصاعداً مطرداً للتعبير عن التذمر في أوساط المؤيدين، بسبب شروط الحياة التي تزداد سوءًا، وفقدان الأمل في تغيرها.
الخلاصة أن «الانفصال» الذي اتهم به بيان عشائر حوران، هو أمر واقع بالمعنى السياسي – النفسي، ليس في محافظة درعا فقط، بل في مختلف المناطق السورية وفي الشتات، وإن لم يكن اتخذ وضعاً رسمياً. فقد «انفصل» معظم السوريين عن النظام، وبقي النظام. فأين هي سوريا من ذلك؟
المصدر: القدس العربي