تقييمي لموقف أكثر ” اليساريين العرب، وأخص منهم الفلسطينيين” من ثورة الحرية في سورية، أنه موقف لا أخلاقي يحابي الاستبداد ولا يأبه لدماء مئات الألوف من السوريين.
لكن ذلك لا يكفي، ولطالما تحاورت مع نفسي، مستعيناً بمخزون ذاكرتي عن تجارب اليساريين، أفكارهم برامجهم وممارساتهم، وأتمنى أن تتوفر لدي وثائق ، كنت أملكها في بيتي للعدد الأكبر من تجارب اليساريين العرب، ومنهم الفلسطينيين. وسيبقى شغلي الشاغل الحصول على الأهم من تلك الوثائق، لأتمكن من المساهمة بتقديم دراسة تحليلية للأسباب العميقة لهذا الاهتراء في صفوف الغالبية العظمى ممن تعارف عليهم الناس أنهم يساريون.
أما وأنني اليوم لا يتوفر لدي ما يساعدني بتقديم دراسة موثقة ومؤصلة موضوعياً، فذلك لا يمنع من إبداء بعض الاستنتاجات، التي أزعم أنها في صميم الأسباب التي قادت إلى هذا السقوط اليساري، في زمن الربيع العربي، وبخاصة في زمن ثورة الحرية التي فجرها الشعب السوري العظيم في آذار 2011.
– استنتاجي الأول، أن قوى اليسار، بوعيها، أو لا وعيها، كانت تقيم مجدها وعظمتها وأهميتها على البريق الذي تشكله خطاباتها المدججة باللفظة الثورية: ” ماركسية، ولينينية، وتروتسكية، وماوية وغيفارية، مع الإشارة إلى خلط بعض الأنساق تلك في انتاج بنية فكرية، المهم أنها متدرجة ” الاحمرار”.
– كانت كادرات الأحزاب والقوى اليسارية، مع بعض الاستثناء المحدود، لا ترى للشعب أي دور حاسم إلا إن كان بقيادتها، وهي استنكفت عن أي دور قيادي بالأساس. فعشقت مصطلح” الجماهير” وبنسخته المعدلة” جماهير شعبية” وغيبت مفهوم الشعب، لأن الشعب تنوع وتعدد وفئات واختلافات، وهو ما لم تراعه هذه القوى، اللهم إلا بترداد ببغاوي لصراع الطبقات.
– في ظل الاستبداد أو لنقل ” أنظمة الطبقات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة” كانت قوى اليسار تشعر بمكانتها وأهميتها، دون أن تنجز أية مهمة تقدمية أو اجتماعية. وكل مفاجأة لها بتحولات لا تصنعها هي، وهي أصلا عاجزة عن إحداث أي تحول، تشعر أنها تفقدها مكانتها ومجدها. وتضعها خلف الواقع وتجعلها مرعوبة من الزمن الجديد، ومن كل إرهاصات للتغيير، لا تأذن هي بإحداثه، ولم تحدث أي تغيير ولن تحدث.
– كانت قوى اليسار تنتفض ذعرًا من مفهوم الليبرالية، وبشكل مختلف من الديمقراطية حتى، وتنبذ البرلمانية وصناديق الاقتراع. تماما كما هي أنظمة الاستبداد في بلادنا. وفي أحسن الأحوال تهرب إلى المصطلح الديماغوجي” الديمقراطية الشعبية” التي هي في صياغات أخرى” ديمقراطية العمال والفلاحين “.
– وجد اليساريون الثوريون القوميون ضالتهم للتمويه على عجزهم، حين نفخوا بقربة مواجهة الامبريالية واسرائيل و” الرجعية” ولم يواجهوا منهم أحدا إلا بالبيانات وعلى صفحات الجرائد والمطبوعات. وهم اليوم في انحطاطهم الأخير يستخدمون تلك الضالة لتبرير الانحياز للاستبداد المتوحش.
– في وجودها ” كنقيض مزعوم للسائد” كانت تنتشي بأنها البديل المحتوم للطبقات” السائدة” انتبهوا للسائدة. هي عبارة موسيقية لماركسيي بلادنا بدءاً من بكداش وصولاً إلى يساري جديد يعرف كيف يرتدي الجينز الأميركي. ويتأبط الجريدة- الجرائد ويجلس على مقاهي الرصيف في بيروت والقاهرة، أو في المقاهي نصف المفتوحة في دمشق.
– استثمار يساريين كثر، ملا حقات أجهزة الأمن لهم، في تلميع صورة اليساري” الأشوس”، وفي خلق هالة من التعاطف والاحترام بين معارفه وأصدقائه ومحازبيه. وان اعتقل، فالاستثمار ” للبطولة” يصل منتهاه، وحين يخرج يتحول إلى عاشق لترداد أعداد السنوات التي قضاها في السجن، وليتنافس مع من قضى سنوات أقل منه، دون أن ينسى الغمز من صلابته ورخاوة من قضى سنوات أقل منه.
لقد كانوا حملا عنقوديا كاذبا خارج الرحم، لذلك عملوا لإجهاض حمل حقيقي بشرت به الشعوب بعفويتها.
كل ذلك وسواه كثير، يفسر بتقديري تلك الأسباب الفكرية والمعنوية والسياسية التي جعلت هؤلاء اليساريين يرتعبون من الثورة السورية، بل ويشاركون بوأدها من خلال انتمائهم سياسيا وأخلاقيا لسلطة الاستبداد، وتبريرهم جرائم القتل الوحشي لمئات الآلاف من الناس، نشطاء سلميين، أو مدنيين أبرياء .
تلك الاستنتاجات أتحمل مسؤوليتها، وسأسعى للحصول على وثائق اليسار ، وتحليل مضامينها، وتحولاتها بين فترة وأخرى. وليس غرضي من التحليل الموثق أن أعيد النظر في حكمي القاطع على مواقفهم وسياساتهم، بل من أجل العبور إلى فضاء فكري وأخلاقي وسياسي جديد تشيد لبناته الأجيال الشابة.
المصدر: صفحة مصطفى ولي