استقبل الرئيس الفرنسي ماكرون أخيراً، و بعد تأجيل امتد لأشهر، وفداً من “الإدارة الذاتية لشمال شرق سورية” ضمّ مقاتلين سابقين لحزب العمال الكردستاني في جبهة قنديل وعلى رأسهم إلهام أحمد، وتاتي زيارة هذا الوفد في ظل إطار حملة أطلقتها إدارة قسد “عبر مواقع التواصل” تدعو للاعتراف بها ك”سلطة معترف بها لمنطقة شمال وشرق سوريا”. إذ ترى هذه الإدارة بحسب موقعها عبر “فيسبوك”، إن “ثورة 19 تموز/يوليو تبنت ضرورة التغيير السلمي وتحقيق تطلعات السوريين من دون تمييز مع ضرورة تطوير نظام لا مركزي في سوريا بديل عما ساد لعقود وأهلك البلاد”. طبعاً بالرغم من أن جميع السوريين متفقين على أن ثورتهم انطلقت في ١٥ آذار ٢٠١١، لكن جماعة العمال الكردستاني وضعوا تاريخ آخر لما أسموه ثورة روجافا، ولا نعلم صورة ضدّ من إذا كانوا يتلقون منذ ٢٠١١ وحتى نهاية ٢٠١٥؟دعماً عسكرياً مباشراً من النظام ويقاتلون معه ضدّ فصائل المعارضة!
ويأتي استقبال ماكرون لوفد ما يسمى “الإدارة الذاتية” لشمال شرق سورية، في إطار حرب فرنسا الناعمة ضمن صراع المصالح شرقي المتوسط، إذ تحاول فرنسا أن تكون لاعباً فيه ضمن عدة ملفات أبرزها لبنان واليونان وسورية “شمال سورية تحديداً” وكذلك ليبيا. ويبدو أن فرنسا من خلال هذه الخطوة وتأكيدها في بيانها تحت يافطة استمرار دعمها “الانساني” لشمال شرق سوريّة إنما تؤكد على استمرار استثمارها في ورقة العمال الكردستاني، فالبيان الرئاسي لا يذهب إلى أبعد من ذلك ولا يرقى بطبيعة الحال لطموحات سلطات الأمر الواقع الحالية بالاعتراف السياسي بإدارتهم، على الرغم من إشادة البيان الفرنسي بمقاتلي مناطق شمال شرق سورية في إطار الحرب ضدّ داعش ودعمهم لهم في هذا الإطار!
فرنسا التي ساهمت ودعمت تأسيس شبكة “الأنفاق” التي أقامتها منظومة العمال الكردستاني على طول الحدود مع تركيا، تدرك بأنّ السوريون لن يعترفوا بسلطة الأمر الواقع التي تفرضها جماعات حزب العمال الكردستاني، وتدرك كذلك أن سلطة هذه الجماعات مهددة بتحديات جيوسياسية وعسكرية إقليمية، لكن بالرغم من هذا فهي تستثمر بهذه الورقة لتبقى داخل اللعبة الشرق أوسطية وتفاوض القوى المحلية وخاصة تركيا على ملفات أخرى تضمن مصالح فرنسا على المدى المنظور.
الصراع “الغير معلن” التركي- الأوربي يلقي هو الآخر بظلاله على المشهد، خاصة اتجاه ملفات مثل اليونان وقبرص وكذلك نشاط تركيا في البحر المتوسط ودور تركيا الأخير في حرب “إقليم قارباخ” المتناقض مع سياسات الاتحاد الأوربي من المسألة وبشكل خاص فرنسا، ولا ننسى كذلك تطور العلاقات التركية- الروسية الذي ساهم في تعزيز ازمة الشك بين تركيا من جهة وحلفاءها في الناتو وعلى رأسهم أمريكا من جهة آخرى وبشكل خاص مع تعنت تركيا اتجاه صفقة منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، كل ذلك يساهم في تعطيل حل المسألة السورية بشكل عام، الأمر الذي يمنح وقت أكثر لحزب العمال الكردستاني للاستثمار في هذه الأجواء معتقداً أن “استخدامه” من قبل الغرب كورقة ضغط في الصراع الإقليمي والدولي بالوكالة يمكن “ربما” أن يتحول مع الزمن لاعتراف رسمي من وجهة نظر العمال الكردستاني.
لكن علينا ان ندرك بأنّ الرهان على مسألة الاعتراف بكيان عسكري يعمل تحت سقف منظمة إرهابية كالعمال الكردستاني تحديداً يبقى رهاناً ضعيفاً يفتقد لأي عوامل موضوعية لإمكانية حدوثه، سواء من زاوية الأشكال الناظمة في العلاقات الدولية اتجاه الحدود السياسية للدول عموماً، أو اتجاه كينونة هذا الكيان بوصفه مجموعة أجنبية غير سورية لا يمكن أن تأخذ الشرعية في إقامة مشروع سياسي على أرض سورية، خاصة أن سورية اليوم دولة تحت احتلال عدة جيوش أجنبية، ولا تعد أي من أراضيها هي مناطق نزاع أو أرض متنازع عليها إذا ما استثنينا الجولان بوصفها أرض محتلة وفق القانون الدولي، واكثر من ذلك كله، فحتى الأقاليم التي تمتلك سلطة الحكم المحلي بشكل رسمي كما في العراق وأسبانيا، نجد انها لا تحظى بأي دعم دولي لإقامة كيانات سياسية يمكن أن تؤثر سلباً على الخارطة السياسية لدولها الرسمية .
وعليه: فانا كسوري وابن منطقة الجزيرة أستطيع القول: إنّ أكثر ما يقلقني في مسألة مشروع العمال الكردستاني الحالي في سورية وما يتم الاستثمار فيه ليس “إمكانية تحوله لكيان سياسي معترف به” فهذا الموضوع قطعاً لن يحدث، بل التخوف هو مما يمكن ان يجلبه هذا المشروع من تدخلات عسكرية جديدة من الجار التركي لا يمكن التكهن بمستقبلها، وفي أحسن الأحوال إبقاء المنطقة ساحة مفتوحة للصراع في ظل وجود قواعد عسكرية لجيوش أجنبية متعددة، مع مستقبل غامض لأبناء المنطقة في ظل التجهيل الممنهج الذي تتبعه جماعات العمال الكردستاني ضمن المؤسسات التعليمية في المنطقة