أخطر ما في الفساد في لبنان، هو تحويل ما يفترض أن يكونوا مواطنين إلى زبائن عند الأحزاب والطوائف، عبر تفريغ الدولة من وظيفتها بالمحاصصات والتوغل داخلها…
تدافع الصحف، الناطقة باسم الممانعة في لبنان، عن الفساد بأسلوبها، فتُغالي في انتقاد الطبقة السياسية وتنشر أرقاماً عن أوضاع البلد المزرية، مركزة على المصارف والحريرية السياسية، لكنها لا تلبث أن تهاجم بشدة طرحاً فرنسياً بإرسال فريق يشرف على توزيع المساعدات، مستنكرة تدخل “الرجل الأبيض”، و”عودة الانتداب”، وحراك السفراء الأجانب، وتوجيههم اللوم إلى الحكومة الحالية.
وإن كان دفاع صحف الممانعة عن الفساد، يحمل وظيفة مباشرة، أي استكمال دعاية “حزب الله” بأن الخراب الأخير في لبنان، سببه الحصار الخارجي الغربي، وتحديداً الأميركي، فهو أيضاً، يطرح أسئلة عن علاقة الحزب بالفساد، باعتبارها علاقة عضوية، لا مجرد بروباغندا سطحية، هدفها توجيه الأنظار للخارج.
تنزيه “حزب الله”
مع اندلاع ثورة تشرين في لبنان، حرص “حزب الله”، على تسويق رواية تفيد بتنزيهه عن الفساد المتعاظم في مؤسسات الدولة. واستند صنّاع هذه الرواية ومسوقوها إلى تأخر دخول الحزب في مؤسسات الدولة، ومعادلة التسعينات، “المقاومة” للحزب، وإعادة الإعمار لـ”الحريرية السياسية”. ما يعني أن الحزب استغل، ممارسته الفساد خارج الدولة، لينزه نفسه، ويبني سردية تضليلية زائفة، يقنع بها جمهوره. وممارسة الفساد خارج الدولة، أخطر بكثير من ممارسته داخلها، إذ يصعب رصده وتتبعه وكشف حجمه وتأثيره السلبي، ومن هنا، بإمكان آلة الحزب الإعلامية أن توجه سهامها، لهذا الطرف السياسي أو ذاك، بحكم تغول الأحزاب في الدولة وفسادها، فيما تصمت عن أحزاب أخرى، بحكم التحالفات، وشبكة تغطية السلاح، فيتم انتقاد “حركة أمل” و”التيار العوني”، بشكل موسمي، تبعاً لطبيعة العلاقة المتأرجحة، لا سيما مع العونيين. بمعنى آخر، الحزب، انطلاقاً من المسافة التي يتخذها من الدولة، لا يكتفي بتبرئة نفسه، بل يعمل على تسييس ملف الفساد وتجييره، للنيل من هذا الطرف أو ذاك.
“المقاومة” بعد الحرب
ساهمت “الحريرية السياسية” في مأسسة الفساد في دولة ما بعد الحرب، بالتعاون مع الاحتلال السوري، وباتت لقادة الطوائف والأحزاب، حصص، يستحوذون عليها في الدولة، لخلق شبكات زبائنية، وإغراق الدولة في الديون. مصرف لبنان وحاكمه، كان نقطة تقاطع هذه السياسة، قبل أن يصبح أحد المتحكمين والفاعلين فيها.
إلا أن ذلك، توازى، مع بناء “حزب الله” قاعدة عسكرية لمواجهة إسرائيل، بأموال إيرانية، كانت بداية لخلق شبكة اجتماعية، تبلورت عقب الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، فبات للحزب اقتصاد ومؤسسات موازية، تتوزع أنشطتها بين العسكري والتربوي والصحي والثقافي والإعلامي، ما أسفر عن استيعاب أعداد كبيرة، من مؤيديه في شبكة زبائنية ضخمة، تجعل ما يفترض أن يكون مواطناً، زبوناً عند الحزب، من خارج الدولة، أي أن “المقاومة” تمكنت من أن تصنع فسادها الخاص، الذي توسع وأخذ أشكالاً مختلفة، آخرها حماية التهريب وتشريعه على لسان أحد رجال الدين المقربين من الحزب.
وإن كان من السهل انتقاد أي حزب، انطلاقاً من فساد مارسه في الدولة، عبر توظيفات أو صفقات أو سرقات، فإن ذلك، لا يبدو سهلاً مع الحزب المحصن بعقيدة تتعلق بالصراع مع إسرائيل، إذ إن فساده متداخل مع بناء شبكات هي، البنية التحتية لمواجهة “العدو”، ما يجعل توجيه لوم ما للحزب أقرب إلى “الخيانة”.
تداخل الفاسدين
هزيمة خصوم “حزب الله” والاستسلام له، والتحالفات المتغيرة، جعلت الفسادين، المتعلق بالأحزاب المتوغلة في الدولة، والآخر المرتبط بالحزب الخارج عن الدولة، متداخلين، أو أقله واحدهم يحمي الآخر وبالعكس. الصمت عن السلاح المرتبط بشبكة ولاء بنيتها التوظيف والرعاية، قوبل بالصمت عن الصفقات والنهب المنظم داخل الدولة، حيث الأحزاب تستقطب جمهورها عبر شبكات الزبائنية. مع اندلاع ثورة تشرين، وتصاعد الحديث عن الفساد، انقسم طرفا الصفقة، واحد، ركز على منظومة حاكمة تمارس فسادها من داخل المؤسسات أو ما بقي منها، وآخر، ركز على “حزب الله” وسلوكه وممارساته التي نفرّت الدول عن دعم لبنان. هكذا تبين، أن تقارب الجهات المسؤولة عن الفسادين وتباعدها، محكومان بالسياسة وبالتحولات التي تحصل وتداعياتها، لكن في المحصلة، ثمة تداخل بينهما، مع فارق يتعلق بدرجة الخطورة، باعتبار أن أحدهما يمارس خارج الدولة ومحصن بعقيدة.
زبائن أم مواطنون؟
أخطر ما في الفساد في لبنان، هو تحويل ما يفترض أن يكونوا مواطنين إلى زبائن عند الأحزاب والطوائف، عبر تفريغ الدولة من وظيفتها بالمحاصصات والتوغل داخلها، فعندها يصعب اقتلاع الفساد، لأن الناس باتوا متماهين معه، ليس بقرارهم، بل بسبب تجريدهم من حقوقهم وضيق الخيارات. و”حزب الله” يذهب أبعد، عبر جعل جمهوره، مدافعاً عن الفساد، إذ يدرج التهريب مثلاً ضمن أدوات الدفاع عن “المقاومة”، مستأنفاً لعبة استغلال الفساد سياسياً لتنزيه الحزب.
وإن كان من نتائج الانهيار الأخير في لبنان، إضعاف شبكات الزبائنية ورعاية جماهير الأحزاب، في كلا الطرفين، الدولة وخارج الدولة، فإن آلة الحزب الإعلامية ستكثف من انتقاد “الرجل الأبيض” والسفراء الأجانب، فهؤلاء مناسبون جداً، لإقناع جمهور “المقاومة” بأن فساد الحزب معرض للاستهداف من الخارج، على اعتبار أن الحزب وفساده شيء واحد، ويصعب فصلهما.
المصدر: درج