جاءت أخبار بدء الحوار السعودي الإيراني مفاجئة، وعلى الضد من المناخ السائد، حيث المواجهة الإعلامية والدبلوماسية والسياسية بينهما محتدمة، فقد كان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، قد وصف المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، آية الله علي خامنئي، بـ “هتلر الجديد”، وهدد بنقل المعركة إلى داخل إيران، ما لم توقف تدخلها في الشؤون السعودية والعربية. وكانت ضربات إيران وأذرعها المليشياوية في اليمن والعراق بالصواريخ البالستية والمسيّرات على الأراضي السعودية في ذروتها.
قبلت السعودية الدخول في الحوار مع إيران، والانخراط في عملية “استكشاف” فرص الوصول إلى اتفاقٍ للحدّ من التوتر في المنطقة، وفق تصريحات مسؤوليها، في لحظة سياسية دقيقة في ضوء معطياتٍ مقلقة. أولها ردّة الفعل الأميركية الفاترة التي أعلنتها إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، على الضربة الجوية والصاروخية الدقيقة والمدمرة التي استهدفت منشآت أرامكو في بقيق وخُرَيص شرقي المملكة يوم 14/9/2019، وتسببت بتوقف إنتاج الشركة الكبرى في العالم بنسبة 50%، وأثرت على إمدادات النفط في السوق العالمية تأثيراً كبيراً أدّى إلى ارتفاع الأسعار، والتي (ردة الفعل) تتعارض، بشكل صارخ، مع التطابق في السياسات والتنسيق الوثيق في المواقف بين الحليفين. وثانيها تصاعد عمليات استهداف الأراضي السعودية، بالمسيّرات والصواريخ البالستية، كالمنشآت النفطية والمطارات والقواعد العسكرية في جدّة وجازان ونجران وخميس مشيط والعاصمة، الرياض، من الحوثيين، بالتوازي مع الضغوط الأميركية على إيران، في إطار ما سمّيت “الضغوط القصوى”، أقرّت بيانات الجيش السعودي بأن ما لا يقل عن 860 صاروخاً وطائرة مسيّرة أطلقت بين مارس/ آذار 2015 وفبراير/ شباط 2021 نحو أراضي المملكة، وعدم نجاعة وسائط الدفاع السعودية في مواجهتها، والحد من أضرارها مع تكلفتها العالية. وثالثها، دخول أذرع إيران في العراق على خط التهديد والوعيد وتنفيذ ضربةٍ جويةٍ بالمسيّرات على الديوان الملكي السعودي (قصر اليمامة) في الرياض، يوم 23/1/2021. ورابعها، ولعله الأكثر إيلاماً، سياسة الإدارة الأميركية الجديدة، وتوجهها بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، في سياق تقليص التزاماتها نحو الإقليم، وما يعنيه ذلك من رفع العقوبات الأميركية عن الأخيرة، وامتلاء خزينتها بمليارات الدولارات المجمّدة في البنوك المركزية لعدد من الدول؛ ما يسمح بتمويل أذرعها في المنطقة والتوسع في مشاريعها العسكرية، بما في ذلك استيراد أسلحة متطوّرة، وعودتها إلى السوق النفطية؛ ما يعني تراجع حصة المملكة في هذه السوق، مع احتمال تراجع في الأسعار في ضوء التنافس وزيادة المعروض، وفكّ عزلتها الدولية، ما يعزّز مكانتها الإقليمية. خامسها، وأخيرها، رفع الإدارة الأميركية الجديدة راية حقوق الإنسان، وجعلها معياراً لسياستها الخارجية والعلاقات مع الدول، بما في ذلك الدول الصديقة، وبدايتها الخشنة مع المملكة، بإفراجها عن تقرير المخابرات الأميركية بشأن قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، والذي حمّل ولي العهد، محمد بن سلمان، المسؤولية، ورتّب امتناع الرئيس الأميركي، جو بايدن، في بداية ولايته، عن إجراء مكالمة هاتفية مع الأمير وتحدّثه إلى الملك سلمان بن عبد العزيز، متجاهلاً ما هو شائع أن الأمير هو الحاكم الفعلي.
أما إيران فلم تأت موافقتها على الدخول في الحوار مع المملكة وليدة حالةٍ ضاغطة، فهي، على الرغم من وطأة العقوبات الأميركية الثقيلة، وآثارها الاقتصادية الخطيرة، والتوتر السياسي والاجتماعي الداخلي على خلفية الاستقطاب السياسي المتصاعد بين المتشدّدين والإصلاحيين على خلفية الانتخابات الرئاسية المنتظرة في الشهر المقبل (يونيو/ حزيران)، وانتشار الفقر والحاجة، وجائحة كورونا التي فتكت بالمواطنين وشلّت الطواقم الطبية والمشافي، تمتلك مساحة للمناورة في ضوء إنجازاتها الجيوستراتيجية والجيوسياسية التي حققتها في العشرية الأخيرة، والتي مدّت بها حدودها السياسية خارج جغرافية البلاد بمساحاتٍ شاسعة، وإقامتها بنيةً تحتيةً راسخةً لمشروع نووي، قابل للعمل باتجاهين، سلمي وعسكري، وتطوير قدرات إنتاج صواريخ بالستية بعيدة المدى، ومسيّرات متعدّدة الاستخدامات، وتعزيز هذه الإنجازات باتفاقاتها مع الصين وروسيا، ما وفّر لها أوراق قوة كثيرة، وأوراقاً تفاوضية وازنة، بل أتت بدافع محدّد: التهدئة مع المملكة مدخلاً لخلط الأوراق، بدءاً من تمرير محادثات فيينا بشأن برنامجها النووي بأقل قدرٍ من التنازلات، وصولاً إلى تعزيز دورها الإقليمي، عبر الدعوة إلى إقامة نظام أمن إقليمي، يفترض انسحاب القوات الأجنبية من الخليج، فالانخراط في حوار مع المملكة، وإبداء مستوى من الإيجابية والمرونة سيدفع الأخيرة إلى التخلي عن مطلبها، المشاركة في المحادثات النووية، لأن مشاركتها ستعيق التوصل إلى اتفاق، وستزيد من الشروط والقيود على البرنامج، وسيفرمل توجّهها المضمر إلى الاتفاق مع إسرائيل، في إطار ما سمي الاتفاق الإبراهيمي للسلام، والذي ينطوي على خطر قيام تحالف دفاعي إقليمي تشارك فيه إسرائيل، فتجد فيه الأخيرة فرصةً لنشر موارد وقوات عسكرية على حدودها، يرفع من قدراتها الردعية، ويضعف من قيمة الموارد والقدرات العسكرية الإيرانية الردعية والتفاوضية قرب حدودها، وسيُخرج الملف الإقليمي من التداول الدولي، فالاتفاق مع المملكة، وفتح مجال تقاسم النفوذ في العراق وسورية ولبنان، مع الاحتفاظ بالحصة الكبرى، ووقف الحرب في اليمن، تمنحها فرص التأثير على سياسات المملكة ومواقفها في ملفاتٍ إقليميةٍ كثيرة، خصوصاً تحريضها الولايات المتحدة ضدها.
هنا لا بد من الإشارة إلى التباين الواضح والصريح بين خلفية موقف كل من الطرفين في قبولهما الحوار، فالسعودية التي استنزفتها الحرب في اليمن، التي دخلت عامها السابع، وزادت جائحة كورونا والإغلاقات على مستوى العالم أعباءها الاقتصادية، ما اضطرّها إلى اتخاذ إجراءاتٍ تقشفيةٍ وصفتها بـ “المؤلمة”، تريد الخروج من هذا المستنقع الذي تحول إلى عبء سياسي وأمني، خصوصاً بعد تحوّلها إلى نقطة خلاف مع الإدارة الأميركية الجديدة التي أوقفت دعمها هذه الحرب على المستويين العسكري واللوجستي، تدرك أن مفتاح وقف الحرب ليس في يد الحوثيين وحدهم، بل في يد طهران قبلهم، فالحوار مع إيران فرصةٌ للتباحث في حل ملفاتٍ كثيرةٍ عالقة، في مقدمتها الحرب في اليمن، على أمل الاتفاق بشأن هذا الملف، باستثمار حاجة إيران لمناخ هادئ خلال فترة مفاوضاتها فيما يتعلق ببرنامجها النووي؛ وقد تجلّى ذلك في تأييدها العلني الاتصالات غير الرسمية التي تجرى بين الولايات المتحدة وإيران بشأن الملف النووي، وفتح ملف الصواريخ البالستية وأذرع إيران في الإقليم بعد ذلك. في حين رأت إيران في الحوار مع السعودية، التي ترى فيها خصماً وجهة فاعلة في تحريض الولايات المتحدة ضدّها، فرصةً لتبديد مخاوفها، ومخاوف دول الخليج العربية الأخرى، ما يعزّز موقفها في المباحثات بشأن الملف النووي، ويسهل الاتفاق مع الولايات المتحدة حوله، ورفع العقوبات الاقتصادية، بحيث تعود إلى سوق النفط وتحصل على أموالها المجمّدة بشروط مواتية.
يبقى أن الحوار، كما تفيد المعطيات، ليس أكثر من حاجةٍ مرحليةٍ لكلا الطرفين، وأن أسباب العداء العميقة راسخةٌ في نظرة كل منهما إلى الأخرى، على خلفية التباين المذهبي: سني شيعي، وتنافس جيوسياسي جسّده صراعهما على النفوذ في الدول الإسلامية، وسعي كل منهما إلى استقطاب حلفاء وأتباع فيها.
المصدر: العربي الجديد