نهاية نظام الأسد ستكون كنهاية نظامي جنوب افريقيا والخمير الحمر
دخلت المسألة السورية بمسمياتها المتعددة عامها العاشر، وهي أشد تفوقا على مستوى الأزمات الدولية، بأوجهها الثلاثة، العسكري، والانساني، والسياسي. وأظهرت المعارك الأخيرة في ادلب وتداعياتها، قدرة هذه الأزمة أن تلعب دور الثقب الأسود في فضاء العالم السياسي. أي أنها ما زالت قادرة على جذب مزيد من الدول الى أتونها المجهول النتائج. وآخر الأمثلة الواضحة ازدياد التورط التركي، ومعه ظهور امكانية التورط الاميركي بالصراع مع روسيا، ومعها إيران ونظام الأسد.
ولكي نرى حجم هذا التطور، ينبغي أن نتذكر أن اللاعب الأكبر فيها، روسيا، قد سبق أن بشرت العالم منذ أواسط 2018 بانتهاء (الحرب السورية) بفضل حربها المزعومة على الارهاب، وطالبت بتضافر جهود العالم معها لإعادة اللاجئين والنازحين، وتقديم الأموال لإعادة الإعمار، وإعادة بشار الأسد الى المنظمات الدولية وتطبيع العلاقات مع نظامه! ثم جاء 2019 ليثبت زيف دعايتهم السابقة، لأن روسيا بدأت مع وكيلها المحلي عملية حربية واسعة للقضاء على فصائل معارضة تنتشر بين ريف حماة الغربي – الشمالي، وجنوب ادلب، وريف حلب الغربي، وريف اللاذقية الشمالي، لاستعادة مزيد من المساحات الخارجة عن سلطة الأسد، وهو ما يدحض مزاعم موسكو بنهاية المعارضة السورية، واستتباب الأمن لصالح وكيلها المحلي.
استغرقت العملية العسكرية معظم عام 2019، ثم رحلت الى عام 2020 وارتفعت حدة القتال، واشتبكت تركيا للمرة الأولى مع قوات الأسد وإيران، وازدادت احتمالات الصدام مع روسيا وتدخل حلف الناتو لدعم تركيا.
وشاهدنا أيضا الوجه الانساني من الكارثة الناتج عن حدة القتال في ادلب بشكل يدحض البروباغندا الروسية. إذ أن قتال الشهور الفائتة تسبب بدفع 1,600 مليون نازح الى المجهول. مات منهم الألوف معظمهم مدنيون، ونسبة كبيرة منهم أطفال، قضوا جراء القصف الروسي، أو الجوع، والعوامل الجوية الباردة. وتدخلت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لإقناع روسيا ووكيلها المحلي بالسماح بإيصال المعونات الانسانية لإغاثة النازحين، ولم تفلح إلا بتمديد الرخصة الروسية شهورا معدودة فقط.
ما شاهدناه من عنف ودموية في ادلب يعيد للذاكرة مشاهد الحرب الروسية على حلب عامي 2015 – 2016. وما شاهدناه من صور لمليون ونصف مليون نازح ولاجئ يعيشون في العراء بلا أي معونات، يعيد للذاكرة موجات النزوح المليونية من سورية الى اوروبا عبر تركيا في العامين المذكورين، مما يؤكد أن المزاعم الروسية عن نهاية الحرب عام 2018 باطلة ودعاية مضللة لتجميل وجه روسيا الملطخ بالعار، بسبب جرائمها التي تستوجب المحاسبة. كما يؤكد أن الحرب ما زالت حبلى بمفاجآت واحتمالات تصعيدية، وجر أطراف إضافية للتورط في القتال، بما فيها امكانية تدخل الناتو واميركا، وإمكان نشوب حرب تركية – روسية.
القضية تعود للمربع الأول:
في كل الأحوال يمكننا استنتاج أن قابلية الأزمة للاستمرار وقدرتها على جر أطراف أخرى للتورط فيها ستبقيان طالما أن جذور الأزمة وأسبابها لم تعالج بشكل منطقي وواقعي، ولأن روسيا تواصل نهجها الاخرق لسحق المعارضة، ومعها حاضنتها المجتمعية، وهو نفس منطق الأسد وايران.
محصلة المقارنة بين ما كانت عليه الأزمة السورية في أواخر عام 2018، وما آلت اليه أواخر 2019، وما نراه اليوم يثبت أنها على عكس ما يزعمه الروس وحلفاؤهم عن نهاية الحرب وانتصارهم فيها، واستقرار السلطة لصالح النظام، هي أزمة متفجرة وبعيدة كل البعد عن الحل السياسي والعسكري معا.
ولا بد أن نلاحظ إن الأساس الذي استند عليه هذا الاستنتاج هو العامل الداخلي حصرا، لا الخارجي، لأن المعارضة لم يعد لها نصير أو ظهير في العالم، وهو بشكل محدد العامل الذي فجر الثورة منذ 15 مارس 2011، أي رفض الشعب السوري للنظام الذي يحكمه منذ اربعين عاما (خمسين عاما الآن). وما زال الشعب السوري حتى اليوم يرفضه بنفس القوة التي أظهرها طوال تسع سنوات من التحدي والقتال. وما زال مستعدا لتحمل مخاطر الهلاك بالقصف الجوي، ومخاطر النزوح الى المجهول، لكيلا يعود للعيش تحت سلطة النظام الوحشي.
يقودنا هذا لإدراك أن (الثورة السورية) كتجسيد لإرادة السوريين الجماعية استعصت على آلة الحرب الروسية، وعلى الايرانيين والأسد، وازدادت تجذرا في سلوكهم. وأن النظام المستند على قوة حلفائه مهزوم ولا يمكنه الاعتماد على نفسه للبقاء، وما زالت المعادلة على الارض منذ 2012:
– على المقلب الأول نظام انهزم أمام شعبه، وسقطت شرعيته، وانتهى عمليا، ولكن التدخل الخارجي المكثف منع ويمنع التسليم بهذه الحقيقة.
– وعلى المقلب الثاني شعب ثائر فرض إرادته وانتصر، ولكن قوى الاستكبار الدولي تمنع التسليم بهذه الحقيقة.
وستبقى المعادلة تراوح هكذا حتى يذعن الروس والايرانيون بالواقع القائم، لأن العكس مستحيل. وستظل المراوحة منطوية على كوارث انسانية، ومخاطر على أمن أوروبا، واحراجات أدبية وأخلاقية للعالم، بسبب ادراكه لضرورة التدخل الحازم لرفع الظلم عن الشعب السوري وردع الاسد، ومنع روسيا من التضحية بكل شيء لحمايته. فهذا الوضع غير مقبول، وثبتت استحالة تكريسه.
صحوة ضمير عالمية؟
يعود الفضل في وصول العالم الى تلك النتيجة الى صمود ثوار سورية، وشعبها وتحمله أكلاف التمسك بالموقف الذي صاغته الثورة منذ مظاهرات درعا ودمشق وحمص وحلب عام 2011 حتى معارك ادلب الراهنة. وهذا الصمود هو الذي هزم أعداء الثورة، وأحدث تطورا في وعي العالم، وصحوة ضمير جزئية عبرت عنها مواقف عديدة متفرقة ولكن لا يستهان بها:
1 – مواقف المنظمات والحكومات الاوروبية الرافضة للتطبيع مع الأسد ونظامه المكروه، ولأي مشاركة في إعادة اعمار سورية قبل تطبيق (الحل السياسي) كما حددته وثيقة جنيف 2012 وقرار مجلس الأمن الدولي 2254 لعام 2015، لا كما حدده الروس وحلفاؤهم في آستانا وسوتشي.
2 – محاكمة بعض مسؤولي الاستخبارات السورية في أوروبا عن جرائمهم الوحشية ستؤدي الى انقلاب جذري في ملاحقة المجرمين، بما فيهم الأسد ذاته، وتحقيق العدالة للشعب السوري.
3 – اصدار الكونغرس الأمريكي (قانون سيزر) الذي يمكن تطبيقه على الأسد وزمرته وعلى روسيا وقواتها وقادتها السياسيين والعسكريين، وعلى الإيرانيين.
4 – ثبات الغالبية العربية على رفض عودة الأسد ونظامه للمنظمات العربية.
إن هذه التحولات الايجابية لن تلبث أن تؤسس تحولا نوعيا ايجابيا في التعاطي الدولي مع (القضية السورية) باعتبارها قضية انسانية وحقوقية وأخلاقية مجردة، لا ينظر لها من خلال السياسة، تشبه تحرك المجتمع الدولي لعزل نظام جنوب افريقيا العنصري واسقاطه، وتشبه موقف العالم من نظام الخمير الحمر في كمبوديا ونظام بينوشيه في تشيلي.
إن تقارير العذابات التي يعيشها السوريون، وصور القتلى تحت التعذيب في زنازين الأسد التي نقلها المنشق السوري (قيصر) للعالم، والمعلومات الموثقة عن مئات الوف المعتقلين والمخطوفين والمغيبين قسرا في غياهب المعتقلات، بدأت تحدث آثارا عميقة في الرأي العام، بدون ربطها بأي شيء آخر كالحرب على الارهاب وشيطنة الثورة. وثمة قرائن وشواهد على أن القضية السورية بكل وجوهها الأمنية والانسانية والسياسية أخذت تلامس الضمير العالمي مقرونة بوعي جديد، يرى أنه لا حل إلا بتلبية مطالب الشعب المحقة، واجراء تغيير جذري يستند الى (الحل السياسي) الذي يحاول الروس الالتفاف عليه.
لكي نرى كيف تتقدم القضية السورية الى المقدمة بفضل صمود السوريين شعبا وثورة ، ولا تتراجع كما يأمل بوتين والأسد ، علينا اجراء مقارنة بين ترتيبها في سلم الأزمات الدولية قبل عامين ، وأين وصلت الآن .
في بداية عام 2018 كتب (رئيس مجموعة الأزمات الدولية) روبرت مالي مقالا في مجلة ( فورين بوليسي ) الامريكية الرصينة ، حدد فيه الأزمات الدولية العشر الأولى ، وجاء ترتيب الأزمة السورية سادسا ، سبقتها ، الأزمة الكورية الشمالية بسبب تهديدات الرئيس الكوري بقصف امريكا بسلاحه النووي، والأزمة الايرانية – الأمريكية / السعودية التي تهدد الأمن في الخليج ، وأزمة مسلمي الروهينغا ، والأزمة اليمنية بسبب المجاعة التي تهدد ثمانية ملايين يمني بالهلاك ، والأزمة الأفغانية التي يتنبأ لها أن تشهد تصعيدا في عام 2018 .
بعد عامين نلاحظ الآن أن الولايات المتحدة احتوت المواجهة مع كوريا الشمالية، وتوصلت أخيرا الى حل للصراع مع طالبان في أفغانستان، وخففت محنة مسلمي الروهينغا، وبقيت الحالة اليمنية تراوح مكانها، وتصاعدت نذر المواجهة مع إيران، كما تصاعدت المواجهة في سورية، ما يعني أنها تتقدم ولا تتراجع، كما يتوهم بوتين وحليفاه!
لا ننسى أن المواجهة مع إيران مرتبطة بالمسألة السورية عضويا، ويمكن التنبؤ بأنها ستشهد تطورات لصالح الشعب السوري في العام العاشر للثورة. تذكروا القول الشائع: ليس المهم من يضحك ويبكي في البداية، بل المهم من يضحك ويبكي في النهاية!