تحقيق استقصائي ضمن مشروع “Syria Indicator”
على حواف الحرب ثمة تفاصيل أخرى، بعضها يمكن أن يبقى هامشيًا، وبعضها الآخر يتحوّل إلى ظواهر، بل يمكن أن يصبح لاحقًا جزءًا أساسيًّا في المعركة يصعب تفكيكه، ويترك آثاره لوقت طويل، ويصبح واحدة من معارك الحرب الشرسة.
تسهم في هذا الجزء أدوات الحرب الرئيسة، مرّة تصبح استدامة المعارك شرطًا أساسيًا للحفاظ على السطوة، ومرة يصبح تفكيك المجتمع وضربه في العمق وسيلة ضرورية لضمان السوق وأدواتها ومكتسباتها، فينشأ اقتصاد موازٍ، يشارك فيه الجميع، ضحايا ومجرمون، ولعلّ هذا ما يحصل في بلد مثل سوريا، ويبدو المشهد متطابقًا مع سرديّة الخراب كما يصفه شهود من جنوبي البلاد.
في أيار 2019، قُتلت “كنانة” ذات الـ14 شهرًا رميًا من الطابق الثالث على يدي والدها في بلدة الجيزة بريف درعا الشرقي (جنوبي سوريا)، وفي أيار من العام التالي، وفي الريف الشمالي لذات المحافظة، قُتلت “ليمار” ذات العامين بتهشيم جمجمتها على يد خالها في بلدة جباب.
أشارت التحقيقات التي أجرتها جهات قضائية وشرطيّة، وحصل فريق التحقيق على جانب منها، إلى أن مرتكبيّ الجريمتين وهما والد “كنانة” (محمود ع.) وخال “ليمار” (حسن ح.) كانا تحت تأثير المخدّرات التي يتعاطيانها، والتي انتشرت كالنّار بالهشيم في بيئة اجتماعية تعاني ويلات الحرب منذ عشر سنوات، وزاد على الحرب تلك الجريمة المنظمة ببيع المخدرات، وخاصة الحبوب المزيفة لتضرب الشريحة المنتجة، ما تسبب في انتشار القتل والاغتيالات وارتفاع حالات الطلاق والتفكك الأسري على نطاق واسع.
ليمار (يمين) وكنانة (يسار) قُتلتا بينما كان الجاني تحت تأثير المخدرات
لم تكن الخلفيات موضع اهتمام بقدر تأثر المحيط الاجتماعي بالجريمتين، إذ يقول أحد القريبين وهو مطلع على تفاصيل مقتل “كنانة”، إن أباها كان يمرّ بظروف مالية معقّدة، وإنه قتلها تحت ضغط الجوع والفقر في الجيزة، التي عُرفت قبل الحرب على أنها من أغنى البلدات في سوريا، إذ يشكل المغتربون عنصرًا أساسيًا في اقتصادها، وهم في الغالب ممن يملكون مصالح وتجارة وشركات خارج الحدود، وخاصة في دول الخليج العربي.
كلتا الجريمتين تحمل أثرًا لجريمة أخرى أكثر اتساعًا وانتشارًا جنوبي البلاد، جريمة تتورط فيها مافيات محلية وعابرة للحدود، يقول الشهود من السكّان المحليين إن من يديرها ويرعاها هم أشخاص نافذون في الدّولة، بينهم ضبّاط يتبعون لإدارة “المخابرات العسكرية” و”الفرقة الرابعة” التي يقودها ماهر الأسد شقيق رئيس النظام السوري، بالتعاون مع شبكات يديرها “حزب الله” اللبناني.
مدخل إلى فوضى الجنوب
دفعتنا جريمتا قتل “كنانة” و”ليمار” على يد الأب والخال المدمنين على المخدرات إلى البحث في سجلّات التعاطي ومدى انتشاره وتأثيره في البيئة المحلية، إذ يشير سجلّ المحاكم في محافظة درعا خلال عامي 2019- 2020، وحسب مصدر من داخلها، أن كل 100 واقعة طلاق سجلتها الدّوائر المتخصصة بينها 40 سببها تعاطي المخدرات، وأن 90% من جرائم السرقة التي تعاملت معها مراكز الشرطة تعود لمدمنين أو متعاطين، بينما سجّلت أربع جرائم قتل تحت تأثير المخدرات، ومنها جريمتا قتل “كنانة” و”ليمار”.
لتفسير ارتفاع مستوى تأثير المخدرات في انتشار الجريمة والتفكك الأسري في الجنوب السوري، لم يجد فريق التحقيق أرقامًا يمكن حصرها لعدد المتعاطين لدى الجهات المعنية، حسبما أفاد به مصدر في الشرطة الجنائية، لم يرغب في الإعلان عن اسمه، إذ يشير نفس المصدر إلى صعوبات في التحقق تعود إلى غياب عمل مراكز البحث ومنظمات مكافحة الجريمة ومنظمات المجتمع المدني وحتى المصحّات، فجميع الأرقام الموجودة على السجلات هي استنتاجات لما بعد القبض على تجّار المخدرات، أو خلال تسجيل حالات الطلاق والتحقيقات المتعلقة بعمليات القتل في حال وصلت ملفاتها إلى الشرطة الجنائية والمحاكم.
يقول يدن دراجي، المدير المسؤول في الشؤون الإنسانية بمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) بين عامي 2015 و2018، إن المكتب لم يجرِ أي دراسة لأعداد ونسب المتعاطين في جنوبي سوريا أو مراكز علاج الإدمان إن وجدت، على الرغم من أهمية المسألة، مع ملاحظة غياب الدّولة السورية عن القيام بدورها حتى اليوم.
ويشير دراجي إلى أن ملف الإدمان على المخدرات وعلاجه بقي مهملًا سواء من قبل منظمات المجتمع المدني، أو وكالات الأمم المتحدة المعنية والمانحين الدوليين، مع التأكيد على أن هذا الملف يفترض أن يتبع لمنظمة الصحة العالمية بشكل مباشر، لكننا لم نلحظ، حسب دراجي، أي دراسات أو مشاريع تخص هذا الملف، مؤكدًا أن مخدرات الحبوب المنشطة والحشيش كانت متاحة على نطاق واسع في المنطقة الجنوبية، مع ازدياد ملحوظ في عدد المتعاطين خلال تلك الفترة، سواء بين الشباب المدنيين، أو المنتمين إلى بعض الفصائل المسلحة.
وبالعودة إلى المصدر في الشرطة الجنائية، تحدث عن عمليات قتل وتصفيات تجري بين عصابات التهريب بدافع التنافس، إضافة إلى عمليات تجنيد من قبل أطراف سياسية بهدف تنفيذ اغتيالات يجري تسجيلها باسم طرف مجهول.
وأوضحت أرقام “المرصد السوري لحقوق الإنسان” أن محافظة درعا شهدت في الفترة بين يونيو/ حزيران 2019 وأكتوبر/ تشرين الأول 2020 ما يزيد على 700 عملية اغتيال وهجوم من طرف مجهول، قُتل فيها 474 شخصًا بينهم 211 من قوات النظام والمسلحين الموالين لها والمتعاونين مع قوات الأمن، و89 من مقاتلي الفصائل ممن أجروا “تسويات ومصالحات”، وباتوا في صفوف أجهزة النظام الأمنية من بينهم قادة سابقون، و23 من الميليشيات التابعة لـ”حزب الله” اللبناني والقوات الإيرانية، بالإضافة إلى 22 مما يُعرف بـ”الفيلق الخامس”.
وفي عام 2020، وثق “مكتب توثيق الشهداء في درعا” 409 عمليات ومحاولات اغتيال، أدت إلى مقتل 269 شخصًا وإصابة 102 آخرين، بينما نجا 38 شخصًا من محاولات اغتيالهم.
القاتلان الحقيقيان
من متابعة فريق التحقيق، وبالمطابقة مع شهود من مهرّبين وشرطة وقوى محلّية، تبين أن أنواع المخدّرات المنتشرة في جنوبي سوريا، وكذلك التي يتم تهريبها، تتركّز في قاتلين أساسيين، هما حبوب “الكبتاغون”، أو ما يسميه المتعاطون “الكبتي”، و”حشيش الكيف”.
يعتبر “الكبتاغون” (Captagon) الأكثر انتشارًا، وهو الاسم التجاري للفينثيلين (Fenethylline)، وهو مركب مثيل للأمفيتامين (Amphetamine).
و”كبتاغون” الأمفيتامين الأصلي هو مادة صناعية تؤثر على الجهاز العصبي المركزي للإنسان، حسب تعريف قاعدة بيانات “PubChem” التابعة للمركز الوطني لمعلومات التقانة الحيوية (National Center for Biotechnology Information) الأمريكي.
وهو عقار منشط نفسي شائع الاستخدام، ويمكن شمه أو تناوله عن طريق الفم أو تدخينه أو حقنه، وهو محفّز يعطي حالة مزاجية مرتفعة، ويزيد اليقظة والتركيز والأداء البدني والشعور بالراحة، ومع الاستخدام المستمر يتسبب بتأثيرات نفسية مثل الهلوسة والأوهام.
وتدرجه إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية (DEA) على أنه عقار خاضع للرقابة، حيث جرى استخدامه خلال الحرب العالمية الثانية لتعزيز اليقظة لدى الجنود، وبعد انتهاء الحرب انتهى في السوق السوداء، ما أدى إلى بدء إساءة الاستخدام غير المشروع.
وتختلف تركيبة “الكبتاغون” حسب اتجاه الشحنة، ففي حين يعتمد على خليط يدخل فيه “الكريستال شبوه” غالي الثمن للتصدير، كما يقول خبير جنائي، يخلط المنتجون في سوريا ولبنان المواد لتخفيف التكاليف، وتحتوي الحبوب الموزعة في الداخل مستويات سامة من الزنك والنيكل، حسب تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي“ بتاريخ 10 من أغسطس/ آب 2020، يركز على حقيقة مصادر شحنات “الكبتاغون” المهربة من سوريا إلى إيطاليا، ووصول كميات كبيرة من الحبوب المزيّفة إلى دول أخرى عبر سوريا، وأولاها الأردن.
ويشير موقع “Drugs.com“ الأمريكي إلى أن “الكبتاغون” تم تصنيعه أول مرة عام 1961، وأنه المادة التي يستخدمها تنظيم “الدولة” وغيره من الجماعات المتطرفة لتعزيز قدرات المقاتلين، لكنه اليوم بعيد كل البعد عن “الكبتاغون” في الثمانينيات، إذ صار التصنيع غير القانوني يجمع بين العديد من المنشطات الشديدة الإدمان والإجراءات المركبة في حبة صغيرة مدمرة، فقد يتسبب بتغيرات لا رجعة فيها بدوائر الدماغ والتحكم في الانفعالات، ما يسلب قدرة الشخص على التفكير بعقلانية.
أما “حشيش الكيف” الأكثر انتشارًا في العالم، وحسب تعريفات الجهات المتخصصة، فهو السائل المجفف من المادة الصمغية الموجودة على سيقان وأوراق نبات القنب.
وتختلف أنواع الحشيش حسب نقائه، وينتشر الحشيش المزيف بكثرة في الجنوب السوري نظرًا إلى رخص أسعاره مقابل الحشيش النقي أو “الماريوانا”، ومصدره الأساسي في شرق المتوسط هو منطقة سهل البقاع في لبنان. كما ظهر نوع آخر من الحشيش، وهو أكثر سمّية، ويدعى “الجوكر”، وهو مكوّن من مواد صناعية وخلائط كيماوية شديدة الخطورة والضرر.
أعزّ من بيض الأنوق
في الجنوب السوري، الذي يسمى حوران امتدادًا من القنيطرة غربًا وحتى السويداء شرقًا مرورًا بدرعا، يمكن ملاحظة مستوى فوق اعتيادي من عدد المتعاطين، ولعله حديث الشارع، وشغل الناس الشاغل، إلا أن ما يصعب الحصول على معلومات عنه، هو تلك الشبكات المسؤولة عن ترويج المخدرات وبيعها، إذ تقود شهادات التحقيق، وغيرها من المصادر، إلى أن الجماعات المقاتلة التابعة للحكومة السورية أو التي تقاتل بجانبها والمدعومة من إيران و”حزب الله”، تتحكم بعملية التوزيع في الدّاخل والتهريب نحو الخارج، وتنظم نشاطًا تكامليًا للتصنيع والتوضيب والتهريب، وكذلك إدارة شبكات معقدة من التجار الصغار لتوزيعها داخل سوريا.
يقول أحد شهود التحقيق على الأرض، إن المصادر العارفة تخشى أن يؤدي كشفها عن أسماء وهويات الشبكات إلى القتل، وبالتالي فإن الحصول على وثيقة هو أمر “أعزّ من بيض الأنوق” (بعيد المنال من الصعب الظفر به)، مع إجماع على خطورة العمل على هذا الملف، إذ تجري بسببه وتحت غطاء الحرب والفوضى جرائم وعمليات تصفية جسدية.
ويزيد من خطر مقاربة هذا الملف وجود “كارتيلات” (مجموعات منظمة) تستخدم المنطقة كممرّ لشحنات ضخمة يجري تهريبها إلى الأردن لتوزيعها وبيع قسم منها، ثم تهريب كميات أخرى أكبر إلى السعودية، وتعتبر تلك “الكارتيلات” أن تصفية كل من يهدد نشاطها شرط لاستمرارها.
أشهر طوال جرى خلالها جمع عشرات الملفات ومقاطعة أسماء التجار والمعلومات وتحليل الأرقام والبيانات الرسمية وغير الرسمية للوصول إلى معرفة حجم السوق، واستدعى البحث الاتصال مع جهات تعمل على الأرض من شرطة ومحققين ومتعاطين وتسريبات من مختلف الاتجاهات، وبين تلك التسريبات ما قدمته لفريق التحقيق جهات نافذة وقريبة من مركز قرار الحكم في دمشق، إلا أن رغبة كل المصادر بإخفاء هويتها يضعنا أمام معلومات غزيرة لكن احتمال الخطأ في قسم قليل منها يشكّل نقطة ضعف تجنّبها التحقيق لأسباب موضوعية.
وكانت الفرصة مواتية عندما توصّل فريق التحقيق إلى اثنين من المهرّبين الضالعين في عمليات نقل وتهريب المخدرات بكميات كبيرة.
إلى رأس الخيط
وصلنا إلى “محمود س.” المنحدر من منطقة الكسوة بريف دمشق، وهو تاجر مخدّرات متمرّس، وزميله “محمد ع.” وهو أحد أبناء عشائر بدو السويداء (جنوبي سوريا)، لتنكشف أمام فريق التحقيق شبكة عنكبوتية معقدة من المهربين والعمليات والمواقع التي يجري تهريب المخدرات منها أو عبرها أو تخزينها أو توزيعها فيها.
ورغم أننا وصلنا إلى الشاهد الملك في ملفّنا، تقتضي المهمة إجراء مسح جنائي بواسطة مصادر في الشرطة الجنائية التابعة للحكومة السورية، وتبين أن محمود ضالع في قضايا تجارة المخدرات والإرهاب، وسبق أن ألقي القبض عليه، إلا أن المدّة التي أودع فيها السجن لا تتجاوز الأشهر في جريمة يقتضي القانون في سوريا أن يودع في السجن لفترة تتراوح بين 10 و20 سنة وتصل إلى السجن المؤبد وفق القانون “2” لعام 1993 وتعديلاته. وينطبق الأمر على محمد، والضلوع في قضايا تجارة المخدرات وحيازة السلاح والذخيرة، حيث تظهر سجلات الحكومة السورية أنه سبق وألقي القبض عليه في عملية لتهريب شحنة كبيرة في منطقة العتيبة بريف دمشق عام 2011.
ملف الشّاهدين يعطي مصداقية عالية لعملية البحث والتقصّي، ويطرح من جهة ثانية تساؤلات حول ضلوع جهات حكومية في حماية تجّار المخدّرات حتى بعد القبض عليهم.
من بعلبك إلى نصيب
يقول محمود إنه يعمل كمحترف، ولا يتعامل في توزيع كميات للمتعاطين أو للتجار الصغار، مشيرًا إلى أن آخر كمية كان يحملها في درعا هي إيصال شحنة إلى بلدة نصيب الحدودية لكي يتسلّمها أحد التجار.
ولا يهتمّ محمود بمسار الشحنة في السوق المحلية لاحقًا، فعمله يقتصر على إيصال كمية تجارية إلى المنطقة الجنوبية.
ويتحدث عن خمس دفعات على الأقلّ قام بتسليمها في الفترة الأخيرة، يتراوح حجمها بين خمسة و15 كيلوغرامًا من الحشيش المخدر ومعها بضعة آلاف من حبوب “الكبتاغون” (الإمفيتامين) للمرة الواحدة.
وشرح مسار وصول البضاعة وأسماء شبكة يتعامل معها تمتدّ من بعلبك في شمالي لبنان وبلدات بريتال والدّار الواسعة والخضر، ثم انتقالًا في محطة أولى إلى واحدة من مدن القلمون الثلاث، وهي مضايا، سرغايا، ويبرود، ثم إلى ريف دمشق المتاخم لدرعا وتحديدًا مدينة الكسوة ومحيطها، ثم إلى درعا عبر الصنمين، وهو خط توزيع داخلي يختلف عن خطّ التهريب نحو الحدود كما يشرحه التاجر الآخر.
الحزب في جميع التفاصيل
بالتدقيق في معلومات محمود، يتبين أن جميع الموردين الذين يتعامل معهم على الأراضي اللبنانية مرتبطون بشكل أو بآخر مع “حزب الله” وقوى محلية لبنانية أخرى وعلى رأسهم تاجر يدعى “الحاج حسين”، كما يتبين أن عملية انتقال محمود بين سوريا ولبنان بشكل غير شرعي أكثر من مرّة جرت برعاية نفس الجهات بالتعاون مع ضبّاط كبار في الجيش السوري، حيث جرى تزويده بوثائق خاصة باسم مختلف للمرور على الحواجز.
يقول محمود إنه تلقى دعم “الحاج حسين” الذي أرسل له ضابطًا برتبة رفيعة في جيش الحكومة السورية قام بنقله بسيارته ذات مرّة، كما نقل له البضائع إلى المنطقة الجنوبية في مرّة أخرى.
ويتمتع “الحاج حسين” بعد توثيق ومطابقة المعلومات، بنفوذ واسع في لبنان وسوريا يمكّنه من تأمين شبكات التهريب والمهرّبين، وتعزّز شهادة محمود معلومات أخرى حصل عليها فريق التحقيق من مصادر مختلفة وتشير إلى التعاون الوثيق بين “حزب الله” و”الفرقة الرابعة” التي يقودها ماهر الأسد في نشاط زراعة وتصنيع الحشيش والحبوب المخدرة وتهريبها وتوزيعها داخل سوريا.
ويمتد هذا التعاون إلى المنطقة الجنوبية، حيث تسيطر قوات من الطرفين على مناطق واسعة بدءًا من دمشق ثم جنوب دمشق وصولًا إلى مدينة درعا وريفها المحيط، والقنيطرة غربًا إلى الحدود مع الجولان المحتل (إسرائيل)، وكذلك الأمر بالنسبة للسويداء وريفها وصولًا إلى الحدود الطويلة مع الأردن.
حملنا رقم هاتف “الحاج حسين” الذي حصلنا عليه من التاجرين الشاهدين، وبعد مطابقته مع جهة لبنانية قريبة من الأمن العام تبين أن الرقم يعود لشخص يدعى “م. م. م.”، وهو رجل دين نافذ، ويتبين أن صاحب الرقم هو والد “الحاج حسين”.
خطوط العشائر
“محمد و.” تاجر بارز من أبناء عشائر السويداء، يؤكد علاقة تجار الجنوب والمهربين بـ”حزب الله” و”الفرقة الرابعة”، إذ يتبين أن “محمد” هو الآخر على علاقة مع “الحاج حسين”، لكنه يعمل على خطّين للتوزيع نحو درعا والسويداء عبر منطقة تجميع هي اللجاة، وهي منطقة وعرة يصعب اقتحامها، كما أن تضاريسها الصخرية الصعبة وتوسطها بين محافظتي درعا والسويداء يجعلانها مكانًا آمنا لتخزين المخدّرات وترتيب توزيعها، أو توضيبها للتهريب خارج الحدود.
وبمطابقة سجلّ “محمد” ونشاطه مع معلومات مسرّبة من مصدر رفيع داخل سوريا ولبنان، ظهر أن اثنين من أقاربه وهما “حسين” و”ياسر”، مسؤولان عن تسلّم شحنات “كبتاغون” وحشيش قادمة من لبنان ومدينة القصير السورية (في محافظة حمص على الحدود اللبنانية)، تمهيدًا لنقلها وتهريبها عبر الحدود إلى الأردن، بإشراف مسؤول رفيع يتبع لـ”حزب الله” لقبه “الحبيب”، وهو المسؤول الأول عن مجموعة “سرايا المقاومة” المسلحة، وأحد رجاله الملقب بـ”الحصان” هو الشخص الذي يرافق الشحنة مع ضبّاط من “الفرقة الرابعة”، إذ يجري بعدها تهريب الحبوب إلى الأردن بعدّة طرق.
“المخابرات العسكرية” تطلّ برأسها
في 7 من فبراير/ شباط 2021، ظهر أمام هذا التحقيق مستجد كشف عن خطّ آخر للتعاون بين “حزب الله” اللبناني والمخابرات السورية، عندما وقع اشتباك فجر ذلك اليوم بين عناصر “اللواء الثامن”، وهو قوة مسلحة محلية مرتبطة بتفاهمات أبرمت مع الروس عام 2018 وتناصب العداء لمجموعات مسلحة تدعمها إيران، ومجموعة مجهولة جرى رصدها قرب الحدود السورية- الأردنية بين قريتي السماقيات والندى، ليتبين أنها عملية لتهريب كميات كبيرة من المخدرات.
تواصل فريق التحقيق مع مسؤولين في “اللواء الثامن”، وحصل على تفاصيل العملية التي انتهت بضبط مجموعة من الأشخاص يعملون في صفوف “الفرع 265” التابع لشعبة “المخابرات العسكرية”، وبحوزتهم كميات كبيرة من حبوب “الكبتاغون” والحشيش يتجاوز وزنها نصف طن، وكان يجري تهريبها إلى الأردن، بالإضافة إلى أسلحة فردية ورشاشات.
وخلال التحقيقات ظهر أن مهمة المجموعة تقتصر على نقل المخدرات إلى نقطة تجميع، ثم تسليمها إلى طرف آخر من الجانب الأردني، وأن مصدر المخدرات هو “حزب الله” اللبناني، حيث جُلبت الشحنة من منطقة القلمون الواقعة تحت سيطرة الحزب، ونُقلت إلى دمشق ثم السويداء فدرعا تمهيدًا لإخراجها إلى الأردن.
بمتابعة خيوط عمل المجموعة الأمنية التي جرى القبض على بعض عناصرها ورئيسها “عماد عقلة أبو الهيال”، ومطابقتها بالاعترافات، تبين أن عناصر “المخابرات العسكرية” تسلّموا المواد المخدرة عبر “غ. السعيد” من بدو السويداء، و”ج. أبو ذهيل” من بدو اللجاة، وهما يعملان، حسب تأكيد زعيم المجموعة، بشكل مباشرة مع شخص معروف بارتباطه مع “حزب الله” ويدعى “زاهر جعفر”، وهو ابن تاجر المخدرات “أحمد جعفر” الملقب بـ”الحاج أبو ياسين”، الذي جرت تصفيته من قبل مسلحين في السويداء على خلفية اغتيال رجل دين كان يتزعم فصيل “شيوخ الكرامة”.
فريق التحقيق حصل على وثائق كان يحملها عناصر المجموعة التي تديرها المخابرات السورية، منها بطاقات أمنية بصفة مقاتل تابعة لـ”الفرع 265- شعبة المخابرات العسكرية”، الأمر الذي يثبت فرضية وجود “كارتيل” مكون من قيادات في “حزب الله”، وشخصيات نافذة في الدّولة السورية.
وثائق تعود للمجموعة المنتمية للمخابرات العسكرية ضبطت خلال إحباط تهريبها للمخدرات
لماذا الجنوب
لا تقتصر تجارة وترويج المخدرات على الجنوب السوري، إذ حوّل الصراع المستمر منذ عشر سنوات سوريا إلى واحدة من الدّول التي تشهد أعلى مستويات من التعاطي والانتشار، خاصة مادة حبوب “الكبتاغون” المزيّف، حسب تقرير الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات التابعة للأمم المتحدة الذي يغطي العام 2019، وصارت مكانًا لانطلاق شحنات ضخمة من المخدرات يجري تهريبها إلى دول عربية وأخرى أوروبية، بينها عملية ضبط شحنة قادمة من ميناء “اللاذقية” في سوريا إلى إيطاليا وتصل قيمتها إلى مليار دولار، وهي شحنة وصفتها الشرطة الإيطالية بأنها أكبر عملية من نوعها في العالم.
ثمة عاملان حاسمان لازدهار تجارة الحبوب المخدرة والحشيش في الجنوب، الأول مرتبط بالصراع العسكري والسياسي على الأرض بين قوى متناحرة دوليًا، وبالتالي فإن تفكيك البنية الاجتماعية وخلخلتها صار هدفًا للقوى الموالية لإيران للسيطرة على المنطقة حسبما يفيد أحد القادة العسكريين في “اللواء الثامن” التابع لـ”الفيلق الخامس” القريب من روسيا، وهي فرضية يعززها القبض على مجموعة تديرها “المخابرات العسكرية” خلال محاولة تهريب كميات ضخمة من المخدرات إلى الأردن عبر ثغرات حدودية في منطقة نفوذ “اللواء الثامن”، والعامل الثاني يتعلق بالمردود المالي من بيع المخدرات محليًا وتهريبها إلى السوق العربية الجنوبية عبر الحدود مع الأردن، وهذا ما تؤكده شهادة التاجر “محمود”، وهي تجارة تصل عوائدها إلى مئات ملايين الدولارات سنويًا.
الحدود التي تبيض ذهبًا
في الجهة المقابلة للحدود، وعلى الجانب الأردني، يتبين عبر عملية رصد أجراها التحقيق أن إدارة مكافحة المخدرات الأردنية والمنطقتين العسكريتين الشمالية والشرقية قبالة الحدود السورية ضبطت خلال عام 2020 نحو عشرة آلاف و100 “كفّ” من الحشيش (الكف يساوي نحو 200 غرام) يصل وزنها إلى قرابة 2.2 طن، وأكثر من أربعة ملايين و156 ألفًا و460 حبة من “الكبتاغون” (نحو 700 كيلوغرام)، وكميات أخرى بينها كـ”الكريستال” (المادة الأولية لصناعة حبوب الكبتاغون)، إلا أن هذه الكمية لا تعبر عن حجم التهريب عبر الحدود.
يقول الخبير الجنائي “خ. م.” إن نظريات علم الجريمة، ووفقًا لخبرته ورصده، تفيد بأن نسبة قليلة من عمليات التهريب يتم ضبطها، وهي تتراوح في الدول التي تأخذ مستوى عاليًا من الاحترازات بين 1 و3 من أصل 10، وهو ما يتحدث عنه تقرير صدر عام 2000 عن مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة (UNOCD).
ويرجح الخبير أنه في الحالة السورية ومع غياب الدولة، بل وانخراط أجهزتها في تجارة المخدرات، تضبط عملية واحدة فقط بين كل 20 عملية تهريب للمخدرات، أي أنه مقابل كل كيلوغرام من الحشيش المخدر يصادر على الحدود، ثمة 19 كيلوغرامًا تكون قد عبرت الحدود، وهذا ينطبق على حبوب “الكبتاغون” والأنواع الأخرى، وبناء على هذا التقدير فإن كمية المخدرات التي تدخل الأردن عبر الحدود مع سوريا تقدر بنحو 40 طنًّا من الحشيش وأكثر من 83 مليون حبة “كبتاغون”.
وتعزز فرضية الكميات المضاعفة التي تدخل من سوريا إلى الأردن وتفشل السلطات في ضبطها، شهادة لأحد المخلصين الجمركيين عن الجانب السوري، ويدعى “أ. ف.”، يقول فيها إن اكتشاف عمليات تهريب المخدرات أمر نادر على الحدود بين سوريا والأردن إلا في حالتين: الأولى الإبلاغ المبكر للجانب الأردني من قبل أحد الوشاة، أو المصادفة، فمثلًا لا تستطيع جمارك الحدود تفتيش 100 أو 200 شاحنة متوقفة بانتظار العبور، وتعمد سلطات الجمارك لاختيار بضع شاحنات والطلب منها إفراغ حمولتها بالكامل لإجراء التفتيش الدقيق، فيما تمرّ بقية الشاحنات والمركبات دون رقابة.
يتراوح سعر حبة “الكبتاغون- الأمفيتامين” بين ثلاثة وأربعة دولارات حسب أسعار رصدها “UNOCD” في الأردن عام 2016، وفيما لم تتوفر أسعار تقديرية لسعر كيلوغرام الحشيش، تظهر تحليلات الأسعار بالمقارنة مع عام 2009 حيث تعطي بيانات الأسعار في الأردن ضعف مثيلاتها في لبنان، وذلك يفيد بأن سعر كيلو الحشيش في الأردن عام 2018 يبلغ معدلًا وسطيا بنحو 2400 دولار، قياسًا لسعر وسطي يبلغ 1200 دولار للكيلو الواحد في لبنان.
ما سبق يشير إلى أن المخدرات التي ضبطتها السلطات الأردنية على الحدود مع سوريا في عام 2020، تتجاوز قيمتها السوقية 14.5 مليون دولار لحبوب “الكبتاغون”، ونحو 5.3 ملايين دولار للحشيش، بمجموع يقارب 20 مليون دولار.
وإذا حُسبت المضبوطات وضُربت بـ20 ضعفًا، وهي الكمية المفترضة للمخدرات التي ضُبطت والأخرى التي لم تضبط، فإن المبلغ سيصل إلى 400 مليون دولار، مع مراعاة أن هذه الأسعار تتضاعف عند دخولها السعودية أو إحدى دول الخليج الأخرى.
أبرز عمليات تهريب المخدرات من الجنوب السوري نحو الأردن خلال العام 2020:
المصدر: وكالة الأنباء الرسمية “بترا” ووسائل إعلام
الكمية | المنطقة | التاريخ |
90 كيلوغرامًا من مادة أمفيتامين المخدرة | حدود جابر | 1 يناير |
348 كف حشيش و803 حبات مخدرة | الحدود البرية | 23 يناير |
805 كفوف حشيش | الحدود الشرقية مع سوريا | 31 يناير |
203 آلاف و500 حبة من نوع “كبتاغون” | الحدود البرية – الأردن | 1 فبراير |
600 ألف حبة من نوع “كبتاغون” و12 كف حشيش | الحدود الشرقية مع سوريا | 2 فبراير |
21 كف حشيش و200 ألف حبة مخدرة من نوع كبتاغون | الحدود الشرقية مع سوريا | 16 فبراير |
320 ألف حبة كبتاغون | حدود جابر الأردن | 1 مارس |
3822 حبة كبتاغون وستة كفوف حشيش | الحدود البرية – الأردن | 28 أبريل |
2831 كفًا من مادة الحشيش، و20 ألف حبة كبتاغون | الحدود البرية – الأردن | 20 مايو |
140 كفًا من مادة الحشيش | الحدود البرية – الأردن | 26 مايو |
1272 كفًا من مادة الحشيش | حرس الحدود | 2 يونيو |
2.2 مليون حبة كبتاغون | حدود جابر الأردن | 6 يونيو |
70 كف حشيش | الحدود الشرقية | 27 يونيو |
226 كف حشيش | الحدود الشرقية | 29 يونيو |
252 كف حشيش | المنطقة العسكرية الشرقية | 25 يوليو |
143 كف حشيش وألفا حبة كبتاجون | المنطقة العسكرية الشرقية | 11 أغسطس |
كمية غير محددة | محاولة تهريب مواد مخدرة من الأراضي السورية إلى الأراضي الأردنية. | 2 سبتمبر |
100 ألف حبة مخدرة | الحدود | أكتوبر |
ضبط 1055 كف حشيش | المنطقة العسكرية الشرقية | 5 أكتوبر |
409 كفوف حشيش و36 ألفًا و335 حبة مخدرة من نوع لاريكا |
المنطقة العسكرية الشمالية | 6 نوفمبر |
279 كف حشيش، و12 ألف حبة مخدرة نوع لاريكا، و 12017 حبة جاليريكا، و6 آلاف حبة كبتاغون، وكيلوغرامين من مادة كريستال | المنطقة العسكرية الشمالية | 9 نوفمبر |
187 كف حشيش | المنطقة العسكرية الشرقية | 26 نوفمبر |
1942 كف حشيش و19500 حبة كبتاغون وعبوة صغيرة من مادة كريستال المخدرة | المنطقة العسكرية الشرقية | 27 نوفمبر |
14 كف حشيش | المنطقة العسكرية الشرقية | 15 ديسمبر |
10 آلاف و100 كف من الحشيش (أكثر من طنين) أربعة ملايين و156 ألفًا و460 حبة مخدر (نحو 700 كيلوغرام) وكيلوغرامان من الكريستال |
المجموع |
375 كيلومترًا من القلق
تقول مصادر الجيش الأردني إن الحدود مع سوريا التي تمتد لمسافة 375 كيلومترًا تشهد يوميًا محاولات تسلل لتهريب المخدّرات.
ويقول شاهد على معرفة واسعة بطبيعة المنطقة وفرق التهريب، فضل عدم الإشارة إلى اسمه، إن منطقة التهريب تنقسم إلى قسمين: الأول الحدود المتاخمة لمحافظة درعا وتمتد على مسافة تقدر بنحو 50 كيلومترًا وتستحوذ على نحو 40% من عمليات التهريب بما فيها عمليات التهريب عبر منفذ “نصيب- جابر”، أما المنطقة الثانية فتمتد من الحدود المتاخمة لمحافظة السويداء باتجاه شرقي محافظة ريف دمشق ثم ريف حمص حتى مثلث الحدود الأردنية- السورية- العراقية، وتستحوذ هذه المنطقة على نحو 60% من حجم عمليات التهريب نظرًا إلى اتساع المنطقة الأمر الذي يسهل اختراقها، وطول حدود ذلك الجزء التي تتجاوز 300 كيلومتر.
وحسب مصادر قوى محلّية، فإن معظم الحدود تقع تحت سيطرة مجموعات مسلحة من أبناء عشائر البدو التي تنشط في تلك الأراضي وامتداداتها في الداخل السوري والأردني.
مصدر متعاون زوّد فريق التحقيق بخرائط تكشف نقاط عبور وتسلل ضبطت فيها 15 عملية تهريب لكميات كبيرة من المخدّرات عبر المنطقة الحدودية المتاخمة لمحافظة درعا وقسم من السويداء، حيث أحبطت قوات في الجيش الأردني تلك العمليات بالتعاون مع إدارة مكافحة المخدرات الأردنية وصادرت كميات كبيرة فيها ابتداء من نقطة الحدود المقابلة لبلدة ذيبين في ريف السويداء وصولًا إلى غرب معبر “نصيب- جابر”.
بتحليل تلك الخرائط، تبين أن المهربين استخدموا عبّارات مياه الأودية والمسيلات المائية، كما استثمروا موقعا لخط “تابلاين” النفطي المعطّل منذ عقود، ففي 17 من فبراير/ شباط 2018 أعلن الجيش الأردني عن إحباط عملية لتهريب سلاح ومخدرات عبر حفر أنفاق تصل بخط “التابلاين” من جهة الحدود السورية الأمر الذي اضطر السلطات الأردنية إلى رفع أنابيب الخط فوق الأرض لمنع استمرار عمليات التهريب.
المصدر المتعاون والذي شارك في الكشف المبكر عن تلك العمليات، وطلب عدم الإفصاح عن اسمه لأسباب أمنية، يكشف عن أن أبناء “بدو” المنطقة، يعبرون زحفًا بين نقاط المراقبة الأردنية للتهريب بحقائب تحتوي الواحدة منها على نحو 15 كيلوغرامًا من الحشيش المخدّر أو الحبوب.
ويتابع أن نقاط المراقبة فيها كاميرات حرارية مثبتة تقوم بإطلاق النار بشكل تلقائي عند التقاط إشارة حرارية، إلا أن المهربين يختارون مسيل الماء مثل الأودية أو الشعاب والسواقي، بسبب انخفاضها عن سطح اليابسة المحيطة، بحيث تضعف قدرة الكاميرات الحرارية على التقاط زاويتها، كما يجري اختيار ظروف طقس مناسبة للتهريب، مثل هطول الأمطار أو الغبار والعواصف الرملية، وهناك ساعات محددة لتنفيذ عمليات التهريب تتم بعد رصد للطقس والأحوال الجوية، حيث يتقن “البدو” اختيار المكان المنخفض والطقس المناسب.
ويميز المصدر بين العمليات المتوسطة لأشخاص يحملون الحقائب، وعمليات كبرى يصل بعضها إلى الأطنان، إذ تجري العمليات الكبيرة بعد مرحلة رصد أو تنسيق على جانبي الحدود بين المهربين. ويؤكد أن الكميات الكبيرة تستخدم في نقلها سيارات “هايلوكس” يرافقها مسلحون، كما تعتمد تلك العمليات في كثير منها على تواطؤ مع عدد محدود من رجال حراسة الحدود عبر شراء الطريق بمبالغ تصل إلى 100 ألف دينار (نحو 140 ألف دولار أمريكي) للعملية الواحدة.
الثقب الأسود
فيما تخلو تقارير المنظمات الدولية المعنية بمكافحة المخدرات من أرقام حول حجم المضبوطات أو التجارة في سوريا، لأسباب تتعلق بظروف الحرب وتوقف الحكومة عن تزويد تلك المنظمات بالتقارير الدورية، تظهر من وقت لآخر إحصائيات رسمية عن إدارة مكافحة المخدرات، وآخرها تصريحات العميد حسين جمعة، مدير إدارة مكافحة المخدرات، التي ذكر فيها أن إدارته ضبطت في الأشهر التسعة الأولى من عام 2020 كميات من المخدرات بلغت 3.4 طن من الحشيش المخدر، ونحو 28 مليون حبة “كبتاغون”، و82 كيلوغرامًا من المواد الأولية، فيما بلغت الكميات المضبوطة العام السابق 2019 نحو 6.2 طن من الحشيش المخدر، وأكثر من 144.5 مليون حبة “كبتاغون”، و925 كيلوغرامًا من المواد الأولية.
وفي مسح لفريق التحقيق، سجل نحو 260 عملية ضبط للمخدرات شملت الفترة بين 31 من أكتوبر/ تشرين الثاني 2018 و30 من أكتوبر 2020، تبين أن 200 من تلك العمليات سُجّلت في الفترة بين 31 أكتوبر/ تشرين الثاني 2019 و30 من أكتوبر 2020، ومن بين جميع تلك العمليات بقيت المنطقة الجنوبية غائبة عن تسجيل نشاط لإدارة مكافحة المخدرات من قبل الحكومة باستثناء عمليتين لضبط أشخاص وكميات قليلة، واحدة منهما جرى تسجيلها في منطقة معبر “نصيب“، لتبقى محافظة درعا بمثابة الثقب الأسود لجهة معرفة حجم تجارة المخدرات وتقديرها من خلال حجم المضبوطات.
ليس ثمة أرقام حول حجم تجارة المخدرات الداخلية في درعا، إلا أن شهادات متطابقة تشير إلى وجود عشرات تجّار الجملة من جهات مختلفة يعمل أغلبيتهم لمصلحة “حزب الله” و”الفرقة الرابعة” وجهاز “شعبة المخابرات العسكرية” السوري، ومئات تجّار التجزئة داخل القرى، ويتركز التوزيع داخليًا على الأنواع الصناعية الرديئة قياسًا إلى الوضع الاقتصادي المتردّي وضعف المداخيل.
وتشير أرقام لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (أسكوا) لعام 2019 إلى أن 40% من السكان يعيشون بأقل من 1.9 دولار يوميًا، ويفرض هذا الوضع من عصابات التصنيع إيجاد بدائل رخيصة، وهي غالبًا حبوب بديلة مكونة من مواد صناعية أو حشيش صناعي، لا يدخل في تركيبتها الحشيش النقي أو “الكريستال” الغالي السعر.
تعبيرية (عنب بلدي)
نصف دولار للسعادة أو القتل
أجرينا تقاطعًا عبر متعاطين وتجّار تجزئة لأسعار أكثر نوعين استهلاكًا وتوافرًا في المنطقة الجنوبية امتدادًا من القنيطرة إلى السويداء مرورًا بدرعا، ويبلغ سعر حبة “الكبتاغون” 1500 ليرة سورية، تعادل 50 سنتًا أمريكيًا (الدولار يعادل 3000 ليرة وسطيًا). بينما يصل سعر “الشدّ” ويحتوي 200 حبة إلى نحو 30 ألف ليرة سورية (تعادل عشرة دولارات).
أما حبوب “ترامادول” فيبلغ سعر الحبة 2000 ليرة (نحو ثلثي دولار)، وهي تباع في الصيدليات بشكل عشوائي رغم أنها تحتاج إلى وصفة طبية.
أما “حشيش الكيف” فيبلغ ثمن إصبع (يسمى “نص ربع”) خمسة آلاف ليرة سورية (نحو 1.6 دولار)، وبعد خلطه بمادة التبغ يكفي لصناعة أربع لفافات (سجائر) بمعدل 1250 ليرة للسيجارة الواحدة (أقل من نصف دولار).
وتنخفض أسعار تجّار الجملة، حسب شهود التحقيق، ليتسنى لتجّار التجزئة تحقيق هامش من الربح، إذ يبلغ وسطي سعر كيلو الحشيش 225 ألف ليرة، ويتراوح سعر “كفّ الحشيش” (200 غرام، وهو الصيغة المتداولة)، بين 45 و50 ألف ليرة سورية.
ولا يورد موقع مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة (UNOCD) تقديرات الأسعار في سوريا والأردن، بل يتحدث عن تقديرات عام 2018 لأسعار “الكبتاغون” والحشيش غير النقي في لبنان، حيث يبلغ سعر الغرام الواحد 70 سنتًا أمريكيا للحشيش و80 سنتًا لـ”الماريوانا” بسعر التجزئة، بينما يبلغ متوسط سعر “الكبتاغون” 70 سنتًا للحبة الواحدة.
ويرتفع سعر المادة العالية الجودة ليبلغ 1200 دولار للكيلوغرام الواحد وثمانية دولارات للغرام الواحد من الحشيش، و15 دولارًا لحبة “الكبتاغون- الأمفيتامين” الواحدة.
وترتفع الأسعار لعدة أضعاف حسب “UNOCD” في دول عربية أخرى مثل السعودية والإمارات، وهو ما يفسر نوعية المادة، مضافًا إليها تكلفة النقل.
وتتركز معظم تجارة المخدرات وتوزيعها وتعاطيها في الجنوب على الحشيش وحبوب “الكبتاغون”، وينسحب الأمر على عمليات التهريب مع اختلاف الجودة، حسب أحد المهرّبين، إذ يجري توزيع الأنواع الرخيصة في الدّاخل أو بعض الذي يجري تهريبه إلى الأردن، وتركّز عمليات التهريب المقصود فيها دولة ثالثة مثل السعودية على الأنواع المرتفعة الثمن والجودة نظرًا إلى وجود سوق تصريف لها هناك.
تدمير البيئة المحلية لم يعد يحتاج إلى الرّصاص والبنادق، وصار الأمر يتطلب فقط أقراصًا و”حشيش كيف” أرخص من رغيف الخبز وأكثر وفرة، حيث يصادفك في أي مكان داخل أي قرية أو بلدة أو مدينة تجّار المخدّرات الصغار، إذ تتوافر المادّة في الدكاكين أو عبر باعة على قارعة الطريق، وما عليك سوى امتلاك نصف دولار حتى تمضي يومك غائبًا عن الوعي، وعندها ونتيجة لذلك يمكن للمتعاطي أن يقتل أو يغتصب أو ينفّذ مهمة قذرة دون وعي، وعندما يستيقظ في اليوم التالي سيجد نفسه بحاجة إلى دورة جديدة من السعادة وغياب الوعي.
معادلة ضربت “كارتيلات” التهريب عبرها عصفورين بحجر المخدّرات، فقد أدّى انتشار المخدرات في كامل الجنوب السوري إلى تدمير شريحة واسعة وتعطيلها، ما أسفر عن ارتفاع في مستوى الجريمة، وفي نفس الوقت فتحت “كريدورات” (ممرات) لتهريب المخدرات إلى الأردن ومنها إلى دول الخليج العربي، وهي تجارة تسهم في تمويل الحرب بالمال والعنصر البشري، وهي حرب تقول التقارير والمصادر المتقاطعة إن عرّابها “حزب الله” اللبناني، و”الفرقة الرابعة” و”شعبة المخابرات العسكرية” التي تربطها علاقة مفصلية مع المشروع الإيراني في سوريا عامة والجنوب خاصة لقربه من إسرائيل.
المصدر: عنب بلدي