يقول المسؤولون في واشنطن ان الغارة الجوية المحدودة التي شنتها الطائرات الحربية الاميركية صباح الجمعة في منطقة البوكمال في شمال شرق سوريا، تهدف من جملة ما تهدف اليه هو بعث رسالة واضحة الى طهران، بان ادارة الرئيس بايدن قد تعلمت بعض الدروس الهامة من تردد ادارة الرئيس الاسبق اوباما، في استخدام القوة العسكرية ضد وكلاء وعملاء ايران في العراق وسوريا خلال المفاوضات التي ادت الى الاتفاق النووي بين البلدين في 2015. الهدف الاخر هو انه يجب النظر الى الغارة في سياق اعلان ادارة الرئيس بايدن عن رغبتها باستئناف المفاوضات النووية مع ايران في إطار مفاوضات الخمسة زائد واحد، في اشارة الى الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الامن، زائد المانيا، وهي المجموعة التي توصلت الى الاتفاق النووي، الذي الغاه الرئيس السابق دونالد ترامب في 2018، والذي يحاول بايدن الان احياءه وتطويره ولكن ليس من موقع ضعيف.
ويتبين من تصريحات المسؤولين الاميركيين، ان الغارة التي وصفت بانها “متناسبة” و ”مدروسة”، ان الادارة الاميركية لا تسعى الى تصعيد المواجهة مع ايران كهدف بحد ذاته، بل كما قال الناطق باسم وزارة الدفاع جون كيربي “العملية هي لبعث رسالة لا لبس فيها، وهي أن الرئيس بايدن سوف يتحرك لحماية الجنود الاميركيين وحلفائهم”. وللتدليل على محدودية الضربة التي شنتها طائرتان اطلقتا 7 قنابل موجهة، ضد مبان تابعة لتنظيمي كتائب حزب الله، وكتائب سيد الشهداء التابعة لايران، أضاف كيربي: “تصرفنا بطريقة مدروسة تهدف الى تقليص التوتر بشكل عام في شرق سوريا والعراق”. وفي هذا السياق قالت مصادر في وزارة الدفاع الاميركية ان المخططين العسكريين قدموا للرئيس بايدن سلة من الاهداف الاكبر والاهم من المنشأة التي قصفت، الا انه اختار هدفا متواضعا لتفادي التصعيد.
المسؤولون الاميركيون اوضحوا ان الغارة كانت للرد على الهجمات التي قامت بها تنظيمات موالية لايران ضد اهداف اميركية في العراق، من بينها الهجوم الصاروخي الذي استهدف قاعدة اميركية في مدينة اربيل في شمال العراق قبل اسبوعين ادت الى مقتل متعاقد فيليبيني يعمل مع القوات الاميركية، اضافة الى جرح جندي اميركي و4 متعاقدين اميركيين. وكان الرئيس بايدن خلال اتصال هاتفي مع رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي الثلاثاء قد ناقش مسألة ردع مثل هذه الهجمات.
بعض المعلقين تساءلوا عن أسباب قصف موقع في سوريا، ردا على هجمات تعرضت لها القوات الاميركية في العراق. ولكن المسؤولين والمحللين الاميركيين قالوا ان هذه المنطقة الحدودية بين العراق وسوريا، هي منطقة عمليات واحدة تنشط فيها التنظيمات الشيعية العراقية واللبنانية والافغانية الموالية لايران، وان واشنطن ارادت تفادي احراج الحكومة العراقية من خلال ضرب اهداف داخل اراضيها، خاصة وان القوى الموالية لايران في العراق تنتقد حكومة الكاظمي بسبب تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، ولان واشنطن لا تريد اعطاء اعدائها في العراق الفرصة للضغط أكثر على حكومة الكاظمي ومطالبتها باخراج القوات الاميركية من العراق.
استهداف منشآت تابعة لتنظيمات ارهابية موالية لايران داخل سوريا لن تكون له أي مضاعفات سياسية تحرج ادارة الرئيس بايدن التي لم تبال باحتجاجات نظام بشار الاسد. وكان وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف قد انتقد واشنطن لان المسؤولين العسكريين الاميركيين اعلموا القوات الجوية الروسية في سوريا بالغارة قبل وقوعها باربع او خمس دقائق فقط. وهناك اتفاق بين البلدين منذ نشر القوات الجوية الروسية في سوريا في 2015 لتفادي حدوث اشتباكات بالخطأ بين الطائرات الحربية للبلدين في الاجواء السورية، وتم العمل بهذا الاتفاق خلال غارات التحالف الدولي ضد قوات تنظيم “داعش” في سوريا.
بعض المعلقين حاولوا التخفيف من اهمية الغارة الاميركية لانها كانت محدودة، واستهدفت منشأة داخل سوريا وليس العراق. ولكن بعض الخبراء رأوا في موقع الغارة اهمية عسكرية تتخطى المباني التي دمرتها القنابل الاميركية الموجهة، لان مدينة البوكمال السورية المحاذية لمدينة القائم العراقية هي في قلب ما يسمى بالجسر البري الذي اقامه الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الايراني والذي قتل في غارة اميركية في بداية 2020 خلال وصوله الى مطار بغداد. الايرانيون يعلقون اهمية كبيرة على صيانة هذا الجسر البري الذي يوصل ايران الى شواطئ البحر المتوسط عبر سوريا ولبنان. وتسيطر ايران على هذا الجسر البري عبر مجموعة من التنظيمات الشيعية الموالية او التابعة لها من بينها حزب الله اللبناني، و”كتائب حزب الله”، و”حركة النجباء”، و”سرايا الجهاد” العراقية، اضافة الى تنظيم مشكل من الافغان الشيعة تموله ايران. ولـ”كتائب حزب الله” تاريخ طويل من الهجمات ضد القوات والمنشآت الاميركية في العراق، بما فيها السفارة في بغداد. وأدت الغارة التي استهدفت قاسم سليماني في بغداد ايضا الى قتل أبو مهدي المهندس أحد مؤسسي “كتائب حزب الله”. وخلال احتلال القوات الاميركية للعراق، لجأ أبو مهدي المهندس الى ايران، هربا من القوات الاميركية التي كانت تتعقبه بسبب مسؤوليته عن قتل جنود اميركيين.
قرار بايدن توجيه ضربة عسكرية محدودة ضد وكلاء ايران في سوريا، هي ايضا رسالة سياسية لطهران، تقول ببساطة ان رغبته بإحياء الاتفاق النووي، لا تعني انه سيتردد مثل الرئيس الاسبق اوباما في ردع ايران وعملائها عسكريا، اذا واصلوا تحدياتهم وابتزازهم للولايات المتحدة وحلفائها، وانه مستعد للتفاوض مع ايران نوويا، وردعها عسكريا في الوقت ذاته. الغارة الجوية تقول لايران ايضا ان رغبة بايدن باستنئاف المفاوضات النووية لا تعني انه يائس ويريد استئناف المفاوضات بأي ثمن. بايدن يدرك ايضا ان احياء المفاوضات النووية مع ايران لن يتم بسرعة ولن يكون سهلا، وان الوجه الاخر للمفاوضات، هو التصدي لنشاطات وسياسات ايران التخريبية والسلبية الاقليمية، الامر الذي اخفق بالقيام به، الرئيس الاسبق اوباما، والذي يعرف بايدن بشكل جيد مضاعفات هذا الاخفاق.
أخيرا، يهدف الرئيس بايدن من الغارة التي أمر بها في بداية شهره الثاني في البيت الابيض، الى تحصين نفسه ضد الانتقادات التي وجهها له قادة الحزب الجمهوري، عندما أعلن عن استعداده للعودة الى المفاوضات النووية مع ايران، واتهاماتهم المستمرة له بانه يتخلى عن سياسة ترامب المتشددة ضد ايران، وبأنه سيحذو حذو أوباما والتعامل مع ايران من موقع ضعيف. وكان من اللافت ان وزير الخارجية السابق مايك بومبيو اتهم بايدن بتقديم التنازلات لايران خلال خطاب في مؤتمر لمنظمة جمهورية عقد في ولاية فلوريدا، وسوف يتحدث فيه الرئيس السابق ترامب، (الاحد)، ولكنه تفادى ذكر الغارة.
المصدر: النهار العربي