بين تفاهمات سوتشي الغائبة تفاصيلها عن المعارضة وتصريحات السفير الأميركي جيمس جيفري الأخيرة حول الملف السوري بأنهم لن يسمحوا بنصر للنظام، يحضر باستمرار ملف إدلب المكتظة بأكثر من أربعة ملايين من السكان المدنيين من كافة المناطق والمحافظات السورية، والتي بقيت المعقل الأخير للثوار والمعارضة.
أصبحت الساحة السورية مستنقعاً لفشل التحليلات السياسية والعسكرية نتيجة الافتقار للمعلومات وغياب حقيقة التفاهمات بين الدول الفاعلة، والحالة المتغيرة المرتبطة بالملفات المتشابكة والمتنازع عليها في ليبيا وناغورني قره باخ وشرق الفرات.
لا يمكن الحديث عن الوضع العسكري دون قراءة المشهد السياسي المرتبط به أي تحرك ميداني على الأرض، فكل التحركات العسكرية مرتبطة بالتفاهمات السياسية بين الفاعلين الدوليين، وخاصة محور أستانة والتفاهمات الروسية التركية التي تم التوافق عليها في آذار/مارس 2020 بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان. ولا يمكننا قراءة المشهد بعيداً عن مدينة عين عيسى، في وقت تراقب عيون الجميع ساكن البيت الأبيض الجديد وسياساته ومواقفه تجاه المنطقة والملف السوري.
في خضم الأحداث والتطورات على الساحة الإقليمية والدولية السؤال الأهم المطروح اليوم من الجميع: إدلب إلى أين؟
رغم ظهور حدث جديد مهم بقيام القوات التركية المنتشرة في أدلب بوضع محارس اسمنتية مجهزة بكاميرات مراقبة على طول الطريق الدولي (ام-4) من الترنبة القريبة من مدينة سراقب حتى عين حور بريف اللاذقية، بالإضافة إلى محارس أخرى مجهزة بزجاج مضاد للرصاص تمهيداً لإعادة فتحه ووضعه في الخدمة، وهو أمر لم يكن ليتم لولا وجود اتفاق ناجز بين روسيا وتركيا، لا شك أنه مرتبط أيضاً باتفاق جرى مع روسيا حول عين عيسى وكان مرضياً للأتراك، إلا أن هذا لا يكفي للقول إن سيناريو الحرب بات مستبعداً بشكل نهائي.
ففي الوقت الذي لا تظهر فيه نوايا لدى تركيا وفصائل الثوار بتقويض تفاهمات واتفاقات أستانة وسوتشي، فإن هذا الاحتمال يبقى قائماً بالنسبة للنظام والإيرانيين الذين لطالما سعوا لإفشال كل التفاهمات التركية-الروسية .
لكن هل فعلاً النظام قادر على خوض هذه المعركة بدون غطاء الحليف الروسي سياسياً وعسكريا؟
من خلال الرصد والمتابعة لقوات النظام والميليشيات الإيرانية خلال الأشهر الماضية فإن الملاحظ عدم وجود أي تحركات لها على جبهات القتال والخطوط المتقدمة توحي بشن هجوم قريب أو القيام بأي عملية عسكرية، فالقوات الموجودة على الخطوط الأولى ذات طابع دفاعي بينما الموجودة في الخطوط الخلفية هي قوات هجومية يتم تدريبها على التكتيكات والمعارك الليلية والنهارية بسبب ضراوة المعركة وقساوتها في حال وقوعها.
قوات النظام المؤلفة من تشكيلات من الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والفرقة التاسعة والفرقة الخامسة بالإضافة للميليشيات الإيرانية وعناصر “حزب الله” اللبناني، رأس الحربة فيها الفرقة 25 التي يقودها العميد سهيل الحسن والمؤلفة من خمسة أفواج، واحد منها موجود على خطوط التماس والباقي في المناطق الخلفية، وبعضها انسحب باتجاه البادية لمواجهة عمليات تنظيم “داعش” التي يشنها ضد أرتال النظام.
بينما تحركات الجيش التركي الذي سحب أغلب نقاط المراقبة من مواقع تواجدها الواقعة ضمن مناطق سيطرة قوات النظام باتجاه منطقة جبل الزاوية، نلاحظ تعزيز النقاط في هذه المنطقة مع استمرار دخول الأرتال المدججة بكافة أنواع الأسلحة الهجومية والدفاعية وتحولها من نقاط مراقبة إلى قواعد عسكرية قتالية، بالإضافة إلى إنشاء نقاط جديدة على خطوط التماس المواجهة لقوات النظام لرصد تحركات هذه القوات وطرق الإمداد ومحاور التحرك المحتملة لها، والقيام بأعمال التحصين والتجهيز الهندسي.
هذه الأمر لا يمكن قراءته إلا في سياق استعدادات تركيا الجادة لمواجهة أي هجوم قد يقدم عليه النظام وحلفاؤه الإيرانيين بقصد الدفع باتجاه تأزيم الوضع العسكري والسياسي مجدداً، وخلط الأوراق وقضم المزيد من المناطق الجديدة تُضعف المعارضة وتُقوّي وفد النظام في اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف أواخر كانون الثاني/يناير وتعزز موقفه أمام مؤيديه.
أما الفصائل فقد أصبحت مرتبطة بشكل كامل بالجيش التركي وتشكيلاته الموجودة في المنطقة، وقد قامت بافتتاح معسكرات تدريب مكثفة ضمن ترتيبات المجلس العسكري الذي تم تشكيله وضم أغلب الفصائل العسكرية الموجودة في مناطق إدلب وحلب والساحل، وتم تأهيل وتخريج دورات كثيرة من المقاتلين النوعيين المدربين على كافة أصناف الأسلحة المتوفرة. هذه الفصائل منتشرة على كافة الجبهات ومحاور القتال ونقاط الرباط والقوات الرديفة استعداداً لكافة الاحتمالات والسيناريوهات التي قد يقدم عليها النظام، وقد تم رفدها وتعزيزها بمقاتلين من تشكيلات الجيش الوطني التابع لوزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة والمدربة بشكل جيد، بعد أن بات لها تواجد على جبهات إدلب كقوات رديفة مع القوات التركية.
نستنتج من هذا الاستعراض لتحركات القوى الموجودة على الساحة أنه لا يوجد أي بوادر جدية لحرب جديدة في إدلب، باستثناء بعض المشاغبات والخروقات لوقف اطلاق النار من قبل قوات النظام وتوجيه بعض الرسائل السياسية الدموية بواسطة “السوخوي” الروسية. ورغم أن الاتفاق التركي الروسي تعرّض لهزات كثيرة إلا أنه كان واضحاً منذ البدء بتسيير الدوريات المشتركية الروسية-التركية اتجاه الطرفين لتثبيت خطوط التماس ومناطق السيطرة على النحو القائم حالياً، وحرص تركيا على وقف إطلاق نار مستدام وشامل بانتظار الحل النهائي، والتسوية السياسية في سوريا، المرتبط إنجازها بموقف الولايات المتحدة الذي لم يتغير والرافض لأي عملية عسكرية تقوم بها قوات النظام وحلفاؤه على إدلب.
إن مجمل المعطيات تشير إلى أن اتفاقية الهدنة الموقعة في آذار/مارس 2020 في إدلب قد تجاوزت مرحلة التأرجح إلى مرحلة البناء على مضامينها، اقتصادياً من خلال فتح الطرق الدولية، وسياسياً من خلال ما ينتظر فرق التفاوض من خطوات قادمة، سواء على صعيد مسار أستانة أو عودة مسار جنيف، وبالتالي تراجع مؤشرات الحرب إلى أدنى مستوياتها.
المصدر: المدن