عامٌ مرّ على اغتيال قائد “فيلق القدس”، الذراع الخارجية لـ”لحرس الثوري” الإيراني، في الثالث من كانون الثاني (يناير)، وما زال العالم يقف متحيراً في تفسير “الانتقام الصعب” الذي يتكرر على ألسنة القادة العسكريين والساسة في إيران، وواحد مهم، هو حسين أمير عبد اللهيان، مساعد رئيس البرلمان للشؤون الدولية المعروف بنبرة تصريحاته الحادة، والذي قال: “الانتقام الصعب في الزمن المناسب وبالطريقة المناسبة، برغم أننا وجّهنا صفعة مدوّية للمعتدين”.
لكن قبل أن نحاول أن نفسّر ما الذي يقصده الإيرانيون من “الانتقام الصعب”، علينا أن نفهم أولاً تعبير “صانعو السجاد”، وهو الوصف الذي يُطلق على الساسة في إيران، وهي القاعدة الاستراتيجية نفسها التي يستخدمونها للتمدد في المنطقة؛ فالإيرانيون بطبيعة حرفتهم الشهيرة، لا يستعجلون الوقت؛ بل يحرصون على تحقيق أهدافهم مهما بلغ بهم الوقت. ولذلك أمام سياسة “أقصى ضغط” من العقوبات التي مارستها إدارة ترامب ضد الإيرانيين؛ سمعناهم يرددون عبارة “الصبر الاستراتيجي”.
تساؤلات حول الانتقام الصعب
تساؤلات عديدة تدور حول توقيت هذا الانتقام الصعب من قتلة قاسم سليماني وكيفيته. بخاصة أن التلويح بالانتقام الصعب بات في حد ذاته معضلة، للأسباب التالية:
– إن المتّهم الرئيس في عملية الاغتيال هذه، هم الأميركيون في عهد الرئيس دونالد ترامب، والولايات المتحدة الأميركية على مشارف استقبال رئيسها الجديد المنتخب جو بايدن في السادس من كانون الثاني (يناير)، بعد أن يتم التصويت على نتيجة فوزه في الكونغرس، والإيرانيون يريدون كسب ثقة الرئيس الأميركي الجديد الذي راهنوا على فوزه؛ من أجل التخلص من وطأة عقوبات ترامب. برغم أن هناك من يرى أن أي مغامرة قد تقدم عليها إيران، ستكون بمثابة رسالة لبايدن بأن إيران جادة في تهديداتها، وأن على الإدارة الأميركية الدخول في مفاوضات جادة مع طهران من أجل تسوية الملف النووي.
– المتهم الثاني في هذه العملية، هي إسرائيل، التي اتهمتها طهران بالوقوف مباشرة وراء الصفعة الثانية التي تلقتها، وهي عملية اغتيال العالم الإيراني النووي محسن فخري زاده، داخل إيران. وإقدام طهران على الانتقام في هذا التوقيت، هو رغبة ينتظرها قادة إسرائيل؛ لأنه سيعزز موقع إسرائيل داخل منطقة دول الخليج العربي التي كان بحثُها عن الأمن والحليف الأمني سبباً رئيساً للتطبيع مع الدولة العبرية. وحالة الاستنفار التي ترفعها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية هذه الأيام – إذ إن هناك غواصة نووية إسرائيلية تقترب من مياه الخليج، وقاذفات القنابل الاميركية تجول فوق منطقة الخليج – تؤكد أن تل أبيب وواشنطن تريدان الاستثمار في الغضب الإيراني، بخاصة أن فتح حرب في المنطقة يصبّ في مصلحة ترامب الذي يطمح لإعلان الأحكام العرفية في بلاده وإعادة الانتخابات الأميركية. وكذلك في مصلحة نتنياهو العالق في أزمة تشكيل الحكومة في إسرائيل.
– كذلك، في الداخل الإيراني، يطمح المحافظون، لا سيما المتشددين منهم والعسكريين للوصول إلى مقعد الرئاسة خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة. وإشعال أتون الحرب في المنطقة سيكون في مصلحتهم؛ لكن المرشد الأعلى، علي خامنئي، الذي ينظر إلى أجنحة النظام بعين قلقة؛ يدرك أن هذه الحرب قد تهوي بالنظام كله، وليس بالإصلاحيين والمعتدلين فحسب؛ في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعيشها إيران بفعل العقوبات الأميركية وفقدان مبيعات النفط وتفشي جائحة كورونا، والتي نتج منها فقدان الثقة بين المجتمع والنظام الحاكم في إيران.
كيف تدير إيران الانتقام الصعب؟
ما يهمّ طهران هو تحقيق أهدافها وليس التمجيد والهتافات، فهي وسائل وليست أهدافاً؛ ولذلك، لا يكون الرد مباشراً ومعلناً إلا إذا كانت الأهداف واضحة والمكاسب أرجح في كفتها. ولذلك، هي تدرك أن التوقيت ليس في مصلحتها، فقد كتب وزير خارجيتها، محمد جواد ظريف، على صفحته في “تويتر”، يوم الخميس الماضي، 31 كانون الأول (ديسمبر) أن “المعلومات الواردة من العراق تشير إلى مؤامرة لخلق ذريعة للحرب. إيران لا تسعى الى الحرب، لكنها ستدافع علانية ومباشرة عن شعبها وأمنها ومصالحها الحيوية”.
وعشية اغتيال قاسم سليماني، كتب على “تويتر” أيضاً محذراً ترامب: “احذر من المصيدة يا ترامب، فأي لعب بالنار سيتبعه رد مماثل جاد وحازم، بخاصة ضد أصدقائك المقربين”.
والواضح من تصريحات جواد ظريف على “تويتر”، أن إيران تستخدم دول الخليج “درعاً بشرية” للضغط على الولايات المتحدة الأميركية؛ وذلك، للضغط بدورها على إسرائيل؛ فإذا تعرّضت إيران لضربة أميركية أو إسرائيلية، فدول الخليج لن تنجو من رد الفعل الإيراني. كما تكشف تصريحاته، أن الأميركيين والإيرانيين يستخدمون العراق أرضاً لتصفية الحسابات بعيداً عن المواجهة المباشرة.
وهذا يدفع إلى التساؤل: كيف تدير إيران الانتقام الصعب لاغتيال قائدها قاسم سليماني؟ وهو ما يوضحه الآتي:
– إن مظاهر الاحتفال بقاسم سليماني، من خلال دفع الموالين لإيران في العالم الإسلامي بإظهار مناقبه ومكانته وفضله على محور المقاومة الذي تتبناه إيران. وكذلك، عقد عشرات المؤتمرات حول شخصيته، والدفع بالأدبيات التي تجعل منه شخصيةً بطولية قومية وعالمية. وأيضاً بث كم من الفيديوهات الدعائية، التي تمثل نوعاً من الحرب النفسية ضد دول المنطقة القلقة من هذا الانتقام الصعب. كل هذا يدل على أن إيران توظّف حادثة اغتيال سليماني من أجل بث الروح في هذا المحور الذي أنهكته الحروب، وأضعفه اغتيال سليماني، بعدما خططت واشنطن لقطع أذرع إيران في المنطقة. ولكن طهران الآن تريد توظيف هذه الحادثة لإعادة إحياء هذا المحور. وهو ما جاء في تصريحات قائد الحرس الثوري، اللواء حسين سلامي، الذي قال: “إن الانتقام الصعب ليس مجرد نقطة بل هو مسيرة. إن طريق الانتقام الصعب هو طريق انهيار “الكيان الصهيوني” وانهيار الهيمنة السياسية الأميركية على المنطقة وطرد واشنطن من المنطقة”.
– إن تزويد طهران الميليشيات الموالية لها في العراق بالصواريخ، وإظهار أنها لا تستطيع السيطرة الكاملة على هذه الميليشيات، بعدما هاجمت السفارة الأميركية في بغداد، وتحميل ترامب لها مسؤولية ذلك؛ يُظهر أن طهران تدرك أن الولايات المتحدة مستمرة في مطاردة الميليشيات الإيرانية بعدما قتلت رأسها قاسم سليماني. وإيران تترك لهذه الميليشيات حق الرد إذا ما تعرّضت لهجوم أميركي، بخاصة أن العراق يمثل الحلقة الأضعف والأقرب لتصفية الحسابات بين واشنطن وطهران. كما تقوم طهران بتوظيف العمليات المتبادلة بين القوات الأميركية والميليشيات الموالية على أنها جاءت نتيجة الإرادة الإيرانية لإخراج الأميركيين من المنطقة.
– تصريح قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني الذي قال: “الرد على اغتيال قاسم سليماني قد يأتي من الداخل الأميركي، وقد يخرج أفراد من داخل أميركا يردون على اغتياله” يدل على أن إيران ستقوم بانتقام طويل الأمد من قتلة سليماني؛ فإن كانت تدفع العراق الى محاكمة المتورطين في عملية الاغتيال؛ لكنها بالنسبة الى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تسعى إلى مطاردته بالمخاوف؛ إذ ستطارده في المحاكم الدولية، وستستخدم سلاح “الفتوى” الدينية لتضعه في حالة تهديد مستمر (مثلما هو حال سلمان رشدي)؛ خشية تعرّضه لعملية اغتيال بموجب فتوى شرعية.
المحصلة
إن إيران تواجه معضلة في تنفيذ تهديداتها بالانتقام الصعب لمقتل سليماني، في ذكرى اغتياله. لكن تبادل الضربات بين الميليشيات العراقية والأميركيين على الأراضي العراقية، كما في أماكن اشتباك أخرى مثل اليمن وسوريا، أمر غير مستبعد.
إن تفقد قائد الحرس الثوري للقوات الإيرانية جزيرة “أبو موسى” المتنازع عليها مع دولة الإمارات، وتصريحاته: “قادرون على التصدي لغواصات العدو، وسنرد بحزم على أي عمل عدائي ضد إيران”، وأن “الجزر الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) في الخليج هي الجبهة الدفاعية للبلاد ضد الأعداء”. هي بمثابة رسالة تحذير للأميركيين وحلفائهم، بأن القواعد الأميركية والحلفاء ضمن دائرة الأهداف العسكرية لإيران؛ إذا ما تعرضت لهجمة عسكرية.
إن تصاعد الحرب بين إسرائيل وإيران – إذا ما قامت تل أبيب بمغامرة وجرت طهران إلى المعركة – يجعل من الخليج هدفاً مشتركاً لكلا البلدين اللذين يتشاركان الرغبة في السيطرة عليه. وإن دخول إسرائيل إلى ميدان المعركة مع إيران؛ لا يعني ضمان تحقيق الاستقرار في منطقة الخليج بإيجاد هذا التوازن الجديد.
المصدر: النهار العربي